الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما الطامات فيدخلها ما ذكرناه في الشطح وأمر آخر يخصها وهو صرف ألفاظ الشرع عن ظواهرها المفهومة إلى أمور باطنة لا يسبق منها إلى الأفهام فائدة كدأب الباطنية في التأويلات فهذا أيضا حرام وضرره عظيم فإن الألفاظ إذا صرفت عن مقتضى ظواهرها بغير اعتصام فيه بنقل عن صاحب الشرع ومن غير ضرورة تدعو إليه من دليل العقل اقتضى ذلك بطلان الثقة بالألفاظ وسقط به منفعة كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم فإن ما يسبق منه إلى الفهم لا يوثق به والباطن لا ضبط له بل تتعارض فيه الخواطر ويمكن تنزيله على وجوه شتى وهذا أيضا من البدع الشائعة العظيمة الضرر وإنما قصد أصحابها الإغراب لأن النفوس مائلة إلى الغريب ومستلذة له .

وبهذا الطريق توصل الباطنية إلى هدم جميع الشريعة بتأويل ظواهرها وتنزيلها على رأيهم كما حكيناه من مذاهبهم في كتاب المستظهري المصنف في الرد على الباطنية .

ومثال تأويل أهل الطامات : قول بعضهم في تأويل قوله تعالى : اذهب إلى فرعون إنه طغى أنه إشارة إلى قلبه وقال : هو المراد بفرعون وهو الطاغي على كل إنسان .

وفي قوله تعالى: وأن : ألق عصاك أي : ما يتوكأ عليه ويعتمده مما سوى الله عز وجل فينبغي أن يلقيه وفي قوله صلى الله عليه وسلم تسحروا فإن في السحور بركة أراد به الاستغفار في الأسحار وأمثال ذلك حتى يحرفوا القرآن من أوله إلى آخره عن ظاهره وعن تفسيره المنقول عن ابن عباس وسائر العلماء وبعض هذه التأويلات يعلم بطلانها قطعا كتنزيل فرعون على القلب فإن فرعون شخص محسوس تواتر إلينا النقل بوجوده ودعوة موسى له وكأبي جهل وأبي لهب وغيرهما من الكفار وليس من جنس الشياطين والملائكة مما لم يدرك بالحس حتى يتطرق التأويل إلى ألفاظه وكذا حمل السحور على الاستغفار فإنه كان صلى الله عليه وسلم يتناول الطعام ويقول تسحروا وهلموا إلى : الغذاء المبارك فهذه أمور يدرك بالتواتر والحس بطلانها نقلا وبعضها يعلم بغالب الظن وذلك في أمور لا يتعلق بها الإحساس فكل ذلك حرام وضلالة وإفساد للدين على الخلق ولم ينقل شيء من ذلك عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن الحسن البصري مع إكبابه على دعوة الخلق ووعظهم فلا يظهر لقوله صلى الله عليه وسلم من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار معنى إلا هذا النمط وهو أن يكون غرضه ورأيه تقرير أمر وتحقيقه فيستجر شهادة القرآن إليه ، ويحمله عليه من غير أن يشهد لتنزيله عليه دلالة لفظية لغوية ، أو نقلية .

ولا ينبغي أن يفهم منه أنه يجب أن لا يفسر القرآن بالاستنباط والفكر فإن من الآيات ما نقل فيها عن الصحابة والمفسرين خمسة معان وستة وسبعة ونعلم أن جميعها غير مسموع من النبي صلى الله عليه وسلم فإنها قد تكون متنافية لا تقبل الجمع فيكون ذلك مستنبطا بحسن الفهم وطول الفكر ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنه اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل

التالي السابق


(وأما الطامات) جمع طامة، وهي المصيبة التي تطم على غيرها أي: تزيد (فيدخلها ما ذكرناه في الشطح) أولا (و) يدخلها (أمر آخر يخصها وهو صرف ألفاظ الشرع) الظاهرة ( عن ظواهرها المفهومة) ومعانيها، في نسخة: عن ظواهر المفهوم (إلى أمور باطنة لا يسبق منها إلى الأفهام فائدة) وفي نسخة: شيء يوثق به (كدأب) الطائفة (الباطنية) وهم جماعة من الملاحدة نسبوا أنفسهم إلى علم الباطن وحرفوا الألفاظ إلى معان أخر غير مفهومة إلا لهم بادعائهم في ذلك (في التأويلات) البعيدة (وهو أيضا حرام) في الشرع (وضرره عظيم) على الأمة (فإن الألفاظ إذا صرفت عن مقتضى ظواهرها بغير اعتصام فيه) وتمسك (بنقل) صحيح ( عن صاحب الشرع) -صلى الله عليه وسلم- أو عن أصحابه الذين شاهدوه رضي الله عنهم .

(و) كذلك إذا صرفت (من غير ضرورة تدعو إليه من دليل العقل اقتضى ذلك بطلان الثقة بالألفاظ وسقط به منفعة كلام الله -عز وجل- وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم) وقد تعبدنا الله سبحانه بالعمل بمفهوم ظاهر الألفاظ (فإن ما سبق منه إلى الفهم لا يوثق به) إن خرج عن جادة الشريعة (والباطن لا ضبط له) ولا معول عليه فيما يخالف ظاهر الشرع (بل تتعارض فيه الخواطر) والهواجس (ويمكن تنزيله على وجوه شتى) بحسب اختلاف ما يطرأ عليها (وهذا أيضا من البدع) المنكرة (الشائعة) في البلاد ( العظيم ضررها) وإفسادها على الأمة (وإنما قصد أصحابها الإغراب) الإتيان بشيء غريب (فإن النفوس) على جبليتها (مائلة إلى) الأمر (الغريب) أي: المستغرب الذي ما عهدته (ومستلذة له) أي: واجدة به اللذة (وبهذا الطريق) وفي نسخة: وهذا الطريق (توصل الباطنية) أولئك الطائفة (إلى هدم) أركان (جميع الشريعة بتأويل ظواهرها) عن معانيها (وتنزيلها) على معان أخر (على رأيهم) الفاسد (كما حكيناه عن مذهبهم في كتاب "المستظهري" المصنف في الرد على) دعاوى (الباطنية) ألف باسم المستظهر بالله أبي العباس أحمد بن المقتدر أبي القاسم عبد الله العباسي الثاني والعشرين من الخلفاء توفي سنة 513 وله كتاب آخر في الرد عليهم، سماه مواهم الباطنية قد تقدم ذكرهما في أول هذا الكتاب، ولما ألف السيوطي "المتوكلي" استغرب الناس هذا الاسم فاستشهد بأن القدماء من العلماء قد وقع لهم مثل ذلك، منهم الإمام الغزالي ألف باسم الخليفة كتابا وسماه "المستظهري" (ومثال [ ص: 255 ] تأويل أهل الطامات: قول بعضهم في تأويل قوله تعالى: اذهب إلى فرعون إنه طغى إنه أشار إلى قلبه) أي: نفسه الأمارة بالسوء (وقال: هو المراد بفرعون وهو الطاغي على كل إنسان) ، وهذا القول قد نقل عن القاشاني، الذي ملأ تفسيره بأمثال هذه الطامات وقد طالعته كله فقضيت منه عجبا (و) قالوا: (في قوله تعالى: ألق عصاك أي: كل ما يتوكأ عليه ويعتمده مما سوى الله تعالى فينبغي أن يلقيه) عنه وكذا في قوله تعالى: فاخلع نعليك أي: نفسك، كل ذلك مما ينقله القاشاني في تأويلاته، والمبتدع ليس له قصد إلا تحريف الآيات، وتسويتها على مذهبه الفاسد بحيث إنه لو لاح له إشارة شاردة من بعيد اقتنصها أو وجد موضعا له فيه أدنى مجال سارع إليه، والملحد فلا تسأل عن الجادة في آيات الله تعالى وافترائه على الله تعالى ما لم يقله كقول بعضهم: إن هي إلا فتنتك ، ما على العباد أضر من ربهم، تعالى الله علوا كبيرا، ومن ذلك في قوله تعالى: ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ، إنه الحب والعشق، ومن ذلك قولهم في قوله: ومن شر غاسق إذا وقب ، إنه الذكر إذا قام، وقولهم في: من ذا الذي يشفع عنده ، معناه من ذل أي: من الذل ذي إشارة إلى النفس يشف من الشفاء جواب .

و "ع" أمر من وعى، وسئل البلقيني عمن فسر بهذا فأفتى بأنه ملحد، ثم إن التفسير هو كشف المراد عن اللفظ المشكل، والتأويل رد أحد المحتملين أي: ما يطابق الظاهر، وقيل: التفسير شرح ما جاء مجملا من القصص في الكتاب الكريم وتعريف ما تدل عليه ألفاظه الغريبة وتبيين الأمور التي أنزلت بسببها الآي، والتأويل هو تبيين معنى المتشابه، والمتشابه ما لم يقطع بفحواه من تردد فيه، وهو النص، وأما تفسير الغاسق بالذكر ووقوبه بقيامه، فقد نقله صاحب القاموس عن ابن عباس، وجماعة من المفسرين وهو غريب، وذكر في وقب نقله عن الغزالي والنقاش وجماعة كلهم عن ابن عباس.

وقال ابن الصلاح في فتاويه: وجدت عن الإمام الواحدي إنه قال: صنف السلمي حقائق التفسير: إن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر، وقال النسفي في عقائده: النصوص تحمل على ظواهرها والعدول عنها إلى معان يدعيها أهل الباطن إلحاد، وقال السعد في شرحه: سميت الملاحدة باطنية لادعائهم أن النصوص ليست على ظواهرها، بل لها معان باطنة قال: وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظواهرها ومع ذلك منها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة فهو من كمال العرفان، ومحض الإيمان، وقال ابن عطاء الله في لطائف المنن: اعلم أن تفسير هذه الطائفة لكلام الله سبحانه وتعالى وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالمعاني الغريبة ليست إحالة الظاهر عن ظاهره، ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جلبت الآية له، ودلت عليه في عرف اللسان وثم إفهام باطن يفهم منه الآية والحديث من فتح الله عن قلبه، وقد جاء في الحديث: لكل آية ظهر وبطن، فلا يصدنك عن تلقي هذه المعاني منهم أن يقول لك ذو جدل هذا: إحالة لكلام الله تعالى وكلام رسوله فليس ذلك بإحالة، وإنما يكون إحالة لو قال لا معنى للآية إلا هذا، وهم لا يقولون ذلك بل يفسرون الظواهر على ظاهرها مرادا بها موضوعاتها. اهـ .

(و) قالوا (في قوله - صلى الله عليه وسلم- تسحروا فإن في السحور بركة) قال العراقي: متفق عليه من حديث أنس. اهـ .

قلت: هو من رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس وأخرجه هكذا الإمام أحمد في مسنده ومسلم أيضا والترمذي والنسائي وابن ماجه كلهم من رواية قتادة عن أنس وانفرد النسائي بإخراجه عن أبي هريرة، و عن ابن مسعود والإمام أحمد، عن أبي سعيد، أما حديث أبي هريرة فرواه من رواية عبد الملك بن أبي سليمان وابن أبي ليلى فرقهما كلاهما عن عطاء عنه ومن رواية يحيى بن سعيد عن أبي سلمة، وقال إسناده حسن وأما حديث ابن مسعود فرواه عن زرعة ورواه أيضا موقوفا على ابن مسعود وحكى المزي عنه في الأطراف أن الموقوف أولى بالصواب، وأما حديث أبي سعيد فرواه أحمد والطبراني في الأوسط من رواية ابن أبي ليلى عن عطية عنه، وروى أحمد أيضا من رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي رفاعة عن رفاعة عنه [ ص: 256 ] . بلفظ: السحور كله بركة فلا تدعوه، ولو أن يجرع أحدكم بجرعة من ماء. وفي الباب عن جابر وابن عباس وعرباض، أما حديث جابر فرواه ابن عدي في الكامل من رواية محمد بن عبيد الله العزرمي، عن ابن المنكدر عنه والعزرمي ضعيف، وأخرجه أئمة السنن الأربعة، والبخاري في الأدب من حديث أنس: تسحروا لو بجرعة من ماء وأخرجه ابن عساكر عن عبد الله بن سراقة: تسحروا ولو بالماء، وأخرج ابن عدي في الكامل عن علي: تسحروا ولو بشربة من ماء، وأفطروا ولو على شربة من ماء.

وأخرج الطبراني في الكبير من حديث أبي الوليد عقبة بن عبد السلمي وأبي الدرداء: تسحروا من آخر الليل هذا الغذاء المبارك. (أراد به الاستغفار بالأسحار) وهو مردود بما ذكرناه في الأحاديث: ولو بجرعة من ماء، ولا ينطبق المعنى (وأمثال ذلك) كقولهم في حدي الإيمان والإحسان فإن لم تكن تراه أي: إن أفنيت نفسك تشرفت بالرؤية مع مخالفته للقواعد العربية (حتى حرفوا القرآن من أوله إلى آخره عن ظاهره) كما هو مشاهد في تأويلات القاشاني وغيره (وعن تفسيره المنقول عن ابن عباس وسائر العلماء) أما تفسير ابن عباس فهو مختصر في مجلد ممزوج،ومن أصحابه مجاهد بن جبر المكي الذي قال: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة واعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري، ومن أصحاب ابن عباس الذين رووا عنه التفسير: عكرمة مولاه وطاوس وابن كيسان وعطاء بن أبي رباح، ومن هذه الطبقة أصحاب ابن مسعود وهم علماء الكوفة، وغيرهم، (وبعض هذه التأويلات يعلم بطلانها قطعا كتنزيل فرعون على القلب) أو النفس (فإن فرعون شخص محسوس) وهو الوليد بن مصعب بن معاوية بن أبي شمس بن هلوان بن ليث بن قاران من بني ود بن سام بن نوح عليه السلام (تواتر إلينا وجوده ودعوة) نبي الله (موسى) ابن عمران (عليه السلام له كأبي لهب) عبد العزيز بن عبد المطلب كني به لجماله أو لماله (وأبي جهل) عمرو بن هشام كني به لطغيانه وعتوه وجهله (وغيرهما من الكفار وليس) فرعون (من جنس الشياطين والملائكة وما لم يدرك بالحس حتى يتطرق إلى ألفاظها) وفي نسخة: ألفاظه، ولذلك شنع على الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي قدس سره ما ينسب إليه في كتابه "الفصوص" في الفص الموسوي القول بإسلام فرعون على الإطلاق وبالغوا في النكير عليه حتى زلت أقدام جماعة من فحول العلماء، فألفوا رسائل في إثبات الإيمان له كالجلال الدواني وغيره، نظرا إلى ظاهر قوله مع أن الشيخ -رحمه الله- لم يقصد بذلك معارضة القرآن ولا ما أجمع عليه أهل الإيمان مع الإجماع على صحة عقيدته، التي ساقها في أول كتابه الفتوحات، وإنما مراده إسلام فرعون النفس بدليل ما ذكر في الباب الثاني والستين من فتوحاته عند قوله: وقسم آخر أبقاهم الله في النار وهذا القسم هم أهل النار لا يخرجون منها، فذكر منهم فرعون وأمثاله ممن ادعى الربوبية لنفسه ونفاها عن الله تعالى وحكى الله عنه في القرآن وقد أشار إلى كفره في كتابه عنقاء مغرب، وفي شرح ترجمان الأشواق، وفي تاج التراجم، وقال في كتاب الأسفار له مشيرا لذلك: فإن إله الخلق ربي قد قضى بموت عدو الدين في غمة البحر فكل ذلك يدل أنه إنما أراد بفرعون النفس وأبقى الآيات على ظاهرها ولم يحلها إلى ما يخالفها، وقد نبه على ذلك الشيخ كريم الدين الخلوتي نفع به في رسالة سماها البرهان القدسي .

(وكذلك حمل) لفظ (التسحر على الاستغفار فإنه كان -صلى الله عليه وسلم- يتناول الطعام) مع أصحابه في ذلك الوقت كما روى البخاري من حديث أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وزيد بن ثابت تسحروا زاد ابن عاصم في كتاب الصوم فأكلا تمرا وشربا ماء (و) كان (يقول: تسحروا) فإن في السحور بركة، وتقدم مثله من حديث أنس وابن مسعود وأبي هريرة وجابر وورد فيه أيضا عن علي وابن عمرو وأبي سعيد وأبي أمامة وعتبة بن عبد وأبي الدرداء وميسرة الفجر.

(و) كان يقول: (هلموا إلى الغذاء المبارك) يعني السحور قال العراقي: أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان من حديث العرباض بن سارية، وضعفه ابن القطان. اهـ .

أي لضعف رواية الحارث بن زياد [ ص: 257 ] عن أبي رهم عن العرباض، وقال ابن عبد البر هو مجهول ولكن ذكره ابن حبان في الثقات وقوله يعني السحور كأنه مدرج من الراوي، أخرجه كذلك الإمام أحمد وابن حبان من حديث العرباض وفي الباب عن المقدام بن معدي كرب وعتبة بن عبد وأبي الدرداء وعائشة وعمر بن الخطاب ومعنى المبارك أي الكثير الخير لما يحصل بسببه من قوة وقدرة على الصوم (فهذه أمور تدرك بالتواتر والحس بطلانها نقلا وبعضها يعلم بغالب الظن وذلك في أمور لا يتعلق بها الإحساس وذلك حرام وضلالة وإفساد للدين على الخلق و) قد زلت أقدام كثيرين في ذلك فينبغي عدم الالتفات إلى ما قالوا لأنه (لم ينقل شيء من ذلك) صاحب الشرع ولا (عن الصحابة ولا عن التابعين) مع سعة روايتهم وكثرة تلقيهم (ولا عن) سيد التابعين (الحسن) ابن يسار (البصري مع إكبابه على دعوة الخلق ووعظهم) .

قال صاحب القوت: ما زال يعي الحكمة أربعين سنة حتى نطق بها وقد لقي سبعين بدريا ورأى ثلاثمائة صحابي، وكان كلامه يشبه بكلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان أول من أنهج سبيل هذا العلم وفتق الألسنة به ونطق بمعانيه وأظهر أنواره وكشف قناعه، وكان يتكلم فيه بكلام لم يسمعوه من أحد من إخوانه (ولا يظهر لقوله -صلى الله عليه وسلم- من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار) .

قال العراقي: أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس وحسنه وهو عند أبي داود في رواية ابن العبد، وعند النسائي في الكبير. اهـ .

قلت: أخرجه الترمذي وصححه وابن الأنباري في المصاحف، والطبراني في الكبير، والبيهقي في الشعب، كلهم من رواية عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، بلفظ: من قال في القرآن بغير علم بدل قوله: برأيه. وأخرجه أبو داود والترمذي وقال: غريب، والنسائي في الكبير، وابن جرير والبغوي، وابن الأنباري وابن عدي، والطبراني والبيهقي، كلهم من رواية سهيل بن أبي حزم القطفي، عن ابن عمران الجوني عن جندب بن عبد الله: من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ، وفي رواية للترمذي وغيره: من قال في كتاب الله، وفي رواية من تكلم في القرآن، وفي الباب عن ابن عمر وجابر وأبي هريرة، فحديث ابن عمر لفظه: من فسر القرآن برأيه فأصاب كتبت عليه خطيئة، لو قسمت بين العباد لوسعتهم، ولفظ حديث جابر: من قال في القرآن برأيه فقد اتهمني، ولفظ حديث أبي هريرة: من فسر القرآن برأيه وهو على وضوء فليعد وضوءه، أخرج هؤلاء الثلاثة أبو منصور الديلمي، في مسند الفردوس وطرقهن ضعاف، بل الأخير منكر جدا، (معنى إلا هذا النمط وهو أن يكون غرضه ورأيه تقرير أمر وتحقيقه فيستجر شهادة القرآن إليه، ويحمله عليه من غير أن يشهد لتنزيله عليه دلالة لفظية لغوية، أو نقلية ولا ينبغي أن يفهم منه أنه يجب أن لا يفسر القرآن بالاستنباط والفكر في الآيات بل من الآيات) وفي نسخة: فإن من الآيات (ما نقل فيها عن الصحابة) والتابعين (و) من بعدهم من (المفسرين خمسة معان وستة وسبعة) وأكثر (ونعلم أن جميعها غير مسموع من النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنها تكون متنافية) مع بعضها (لا تقبل الجمع فيكون ذلك مستنبطا بحسن الفهم وطول الفكر) .

قال صاحب القوت: التأويل إذا لم يخرج عن الإجماع داخل في العلم والاستنباط إذا كان مستودعا في الكتاب يشهد له المجمل ولا ينافيه النص فهو علم. اهـ .

قال ابن الأثير: النهي يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون له في الشيء رأي وإليه ميل من طبعه وهواه فيتأول القرآن على وفقه محتجا به لغرضه ولو لم يكن له هوى لم يلح له منه ذلك المعنى وهذا يكون تارة مع العلم كمن يحتج بآية منه على تصحيح بدعته عالما بأنه غير مراد بالآية وتارة يكون مع الجهل بأن تكون الآية محتملة فيميل فهمه إلى ما يوافقه غرضه ويرجحه برأيه وهواه فيكون فسر برأيه إذ لولاه لم يترجح عنده ذلك الاحتمال وتارة يكون له غرض صحيح فيطلب له دليلا من القرآن فيستدل بما يعلم أنه لم يرد به كمن يدعو إلى مجاهدة القلب بقوله اذهب إلى فرعون إنه طغى ويشير إلى قلبه، ويومئ إلى أنه المراد بفرعون وهذا يستعمله بعض الوعاظ في المقاصد الصحيحة تحسينا للكلام، وترغيبا للسامع وهو ممنوع، الثاني: أن يسارع إلى تفسيره بظاهر العربية بغير استظهار [ ص: 258 ] بالسماع والنقل يتعلق بغرائب القرآن وما فيه من الألفاظ المبهمة والمبدلة والاختصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير فمن لم يحكم ظاهر التفسير وبادر إلى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية كثر غلطه ودخل في زمرة من فسر القرآن بغير علم، فالنقل والسماع لا بد منهما أولا ثم هذه تستتبع التفهم والاستنباط ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل أحكام الظاهر. اهـ .

قال الزمخشري: من حق تفسير القرآن أن يتعاهد بقاء النظم على حسنه والبلاغة على كمالها وما وقع به التحدي سليما من القادح، وأما الذين تأيدت فطرتهم النقية بالمشاهدات الكثيفة فهم القدوة في هذه المسالك ولا يمنعون أصلا عن التوغل في ذلك (ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس) -رضي الله عنه- فيما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من رواية عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل الخلاء فوضعت له وضوءا قال: من وضع هذا؟ فأخبر فقال: (اللهم فقهه في الدين) ولم يقل مسلم في الدين، وزاد الإمام أحمد في مسنده والحاكم من رواية عبيد الله بن عثمان بن خيثم عن سعيد بن جبير (وعلمه التأويل) وقال الحاكم: صحيح الإسناد .

قال العراقي: ووهم أبو مسعود الدمشقي في الأطراف حيث عزا للصحيحين هذه الزيادة قلت: وفي أول حديث هؤلاء زيادة وهي قول ابن عباس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وضع يده على كتفي أو على منكبي -شك شعبة- ثم قال: اللهم، الحديث، وعند البخاري من رواية عكرمة عنه: ضمني النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى صدره، وقال اللهم علمه الحكمة، وفي رواية له: اللهم علمه الكتاب، ورواه ابن ماجه فقال: اللهم علمه الحكمة، وتأويل الكتاب. والتأويل هو التفسير على ما نقله ثعلب عن ابن الأعرابي، وقال آخرون بالفرق بينهما، وقد ذكر قريبا .




الخدمات العلمية