الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فالسعادة وراء علم المكاشفة وعلم المكاشفة وراء علم المعاملة التي هي سلوك طريق الآخرة .

وقطع عقبات الصفات وسلوك طريق محو الصفات المذمومة وراء علم الصفات وعلم طريق المعالجة وكيفية السلوك في ذلك وراء علم سلامة البدن ومساعدة أسباب الصحة .

وسلامة البدن . بالاجتماع والتظاهر والتعاون الذي يتوصل به إلى الملبس والمطعم والمسكن وهو منوط بالسلطان وقانونه في ضبط الناس على منهج العدل والسياسة في ناصية الفقيه .

وأما أسباب الصحة ففي ناصية الطبيب ومن قال العلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان وأشار به إلى الفقه أراد به العلوم الظاهرة الشائعة لا للعلوم العزيزة الباطنة .

فإن قلت لم شبهت علم الطب والفقه بإعداد الزاد والراحلة .

فاعلم أن الساعي إلى الله تعالى لينال قربه هو القلب دون البدن ولست أعني بالقلب اللحم المحسوس بل هو من أسرار الله عز وجل لا يدركه الحس ولطيفة من لطائفه تارة يعبر عنه بالروح وتارة بالنفس المطمئنة .

والشرع يعبر عنه بالقلب لأنه المطية الأولى لذلك السر وبواسطته صار جميع البدن مطية وآلة لتلك اللطيفة وكشف الغطاء عن ذلك السر من علم المكاشفة وهو مضنون به بل لا رخصة في ذكره .

وغاية المأذون فيه أن يقال : هو جوهر نفيس ودر عزيز أشرف من هذه الأجرام المرئية وإنما هو أمر إلهي كما قال تعالى: ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي

التالي السابق


( والسعادة) الكبرى والنيل بها ( وراء علم المكاشفة) وتحصيله، ( وعلم المكاشفة) عند أهل السلوك ( وراء) علم ( المعاملة التي هي سلوك طريق الآخرة) قيده بذلك; لئلا يتوهم من المعاملة ما هو المشهور بين الناس من سلوك الطرق التي عليها مدار أمور الدنيا ( وقطع عقبات الصفات) بمراتبها ( وسلوك طريق محق) وفي نسخة محو ( الصفات المذمومة وراء) تحصيل ( علم الصفات وعلم طريق المعالجة) لإزاحة تلك الصفات المذمومة ( وكيفية السلوك) والتحلي به بعد ذلك التخلي ( وذلك) أي: معرفة ما ذكر ( وراء علم) أي: معرفة ما به ( صلامة البدن ومساعدة أسباب) تتحصل بها ( الصحة) للمزاج ( وسلامة البدن) من الآفات المانعة على أنواعها ( الاجتماع والتعاون الذي يتوصل به إلى) تحصيل ( الملبس والمطعم والمسكن) وقدم اللبس الذي به ستر العورات على المطعم لشدة الاحتياج إليه في حال الاجتماع وما بعده على [ ص: 331 ] المسكن لأنه به قوام البدن والمشرب داخل فيه، لكونه من لوازمه غالبا ( وهو منوط بالسلطان) الأعظم أو من ينوب منابه ( وقانونه) الشرعي والعرفي ( في ضبطه) أحوال ( الناس) على اختلافها ( على نهج العدل) والاستقامة ( والسياسة) الشرعية التي بها يحصل انتظام أمر الملك والرعية ( في ناحية الفقيه) فإنه الذي يعرفهم بقوانينها ( وأما أسباب الصحة ففي ناحية الطبيب) فهو الذي يعرفهم بقوانين ذلك من تشخيص أمراض ومعرفة العلل وإزالتها بالأدوية ( ومن قال) في تفسير القول المشهور الدائر على الألسنة ( العلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان) والمشهور أنه حديث إلا أنه موضوع، كما في الخلاصة نقله ملا علي في موضوعاته، والصحيح أنه من قول الإمام الشافعي، نقله غير واحد .

( وأشار) بالجملة الأخيرة ( إلى) علم ( الفقه) إنما ( أراد به العلوم الظاهرة الشائعة) في المدارس المبوبة في المصنفات من السلم والظهار والإجارة والكفارات وغيرها ( لا العلوم العزيزة الباطنة) مما يؤول نفعها في تصفية القلب وسلوك طريق الآخرة ( فإن قلت لم شبهت علم الفقه والطب بإعداد الزاد والراحلة) تحرير السؤال حيث ذكرت أن العلم بأنواعه منحصر في الاثنين، فدل مقتضاه على أنهما أشرف العلوم، وأساسها فما السر في تشبيههما في أول كلامك بإعداد الزاد والراحلة؟ فإن ما كان مشبها به جديرا أن يكون خير مقصود للذات ( فاعلم أن الساعي) في سلوكه باجتهاده ( إلى) الوصول لمعرفة ( الله) جل وعز ( لينال) بذلك ( قربه هو القلب) خاصة ( دون البدن) كما يرى في الظاهر ( ولست أعني بالقلب) الساعي ( اللحم) الصنوبري ( المحسوس) المشاهد ( بل) هو ( سر من أسرار الله تعالى) غامض ( لا يدركه الحس) لقصوره عن إدراكه ( ولطيفة من لطائفه) المعنوية لا تعتورها الأفهام إلا بعد التوقيف من مرشد كامل ( وتارة يعبر عنه بالروح) الإنساني، وبه فسر قوله تعالى: ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ، وهذا هو الظاهر في تفسيره، وقيل: العقل، وأنكره الراغب وتحقيق المقام أن القلب لغة التصريف سمي به لكثرة تقلبه، ويعبر به عن المعاني التي تختص به والروح والعلم والشجاعة، فمن الأول قوله تعالى: وبلغت القلوب الحناجر ، ومن الثاني: قوله تعالى: لمن كان له قلب ، أي علم وفهم، ومن الثالث: قوله تعالى: ولتطمئن به قلوبكم، أي تثبت به شجاعتكم .

( وأخرى) يعبر ( بالنفس المطمئنة) أي: الساكنة لما علمت من رضا ربها بامتثال أمره واجتناب نهيه، والأنفس ثلاثة أمارة، ولوامة، ومطمئنة، وأعلاها الثالثة، وأدناها الأولى، وسيأتي التفصيل في ذلك عند ذكر النفوس .

( والشرع يعبر عنه بالقلب) لنكتة خاصة وهي ( لأنه المطية الأولى لذلك السر) الذي لا يدركه الحس ( وبواسطته صار جميع البدن مطية) لسريان سره فيه ( وآلة لتلك اللطيفة) يتوصل إلى معرفتها بسببه ( وكشف الغطاء) باللسان ( عن ذلك السر) الغامض ( من) جملة ( علم المكاشفة وهو مضنون به) أي: منجول به في الذكر ( بل لا رخصة في ذكره) وقد روي عن الحسن عن حذيفة، سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن علم الباطن، ما هو؟ فقال: سألت جبريل عنه، فقال عن الله: هو سر بيني وبين أحبائي وأوليائي وأصفيائي أودعه في قلوبهم لا يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل.

وقد تكلم في سماع الحسن عن حذيفة، وحكم على هذا الحديث بالوضع ( وغاية المأذون فيه أن يقال: هو جوهر نفيس ودر عزيز) أراد بالجوهر المعنى اللغوي لمناسبة ما بعهد إلا المعنى الذي ذكره الحكماء، هو أنه ماهية إذا كانت في الأعيان كانت لا في موضوع وحصروه في خمسة هيولى وصورة وجسم ونفس وعقل ( أشرف من هذه الأجرام) أم المشاهدة والأجرام الأجساد، وقد يطلق الجرم على اللون أيضا كقولهم: نجاسة لا جرم لها ( وإنما هو أمر إلهي كما قال تعالى) في سورة بني إسرائيل: ( ويسألونك عن الروح ) قال البيضاوي: أي الروح الذي يحيا به بدن الإنسان وتدبره ( قل الروح من أمر ربي ) من الإبداعيات الكائنة بكن من غير مادة، تولد من أصل كأعضاء جسده أو وجد بأمره وحدث بتكوينه عن السؤال من قدمه وحدوثه، وقيل: ما استأثر الله بعلمه لما روي أن اليهود قالوا لقريش:

[ ص: 332 ] سلوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح، فإن أجاب عنها وسكت فليس بنبي، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي، فبين لهم قصتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة وقيل: الروح جبريل، وقيل: خلق أعظم من الملك، وقيل: القرآن، ومن أمره معناه من وجيه اهـ .

وقال ابن الكمال: الروح الإنساني اللطيفة العالمة المدركة، من الإنسان الراكبة على الروح الحيواني، نازل من عالم الأمر تعجز العقول عن إدراك كنهه، وتلك الروح قد تكون مجردة، وقد تكون منطبعة على البدن، وأما الروح الحيواني فجسم لطيف منبعه تجويف القلب الجسماني، وينتشر بواسطة العروق الضوارب إلى سائر أجساد البدن والروح الأعظم الذي هو الروح الإنساني مظهر الذات الإلهية من حيث ربوبيتها ولذلك لا يمكن أن يحوم حولها حائم ولا يروم وصلها رائم، لا يعلم كنهها إلا الله ولا ينال هذه البغية سواه، وهو العقل الأول، والحقيقة المحمدية والنفس الواحدة، والحقيقة الأسمائية، وهو أول موجود خلقه الله تعالى على صورته، وهو الخليفة الأكبر، وهو الجرم النوراني، جوهريته مظهر للذات النورانية وسمي باعتبار الجوهرية، نفسا واحدة، وباعتبار النورانية عقلا، أولا وكما أن له مظاهر وأسماء من العقل الأول والعلم الأعلى والنور والنفس الكلية، واللوح المحفوظ، وغير ذلك له في العالم الصغير الإنساني مظاهر بحسب ظهوراته ومراتبه في اصطلاح أهل الله وهي السر والخفاء والروح والقلب، والكلية والفؤاد والصدر والعقل والنفس فتأمل ذلك ترشد .




الخدمات العلمية