الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والفقيه بدقائق الباطن ينظر إلى أحواله فقد يقتضي حاله دوام الصوم وقد يقتضي دوام الفطر وقد يقتضي مزج الإفطار بالصوم .

وإذا فهم المعنى وتحقق حده في سلوك طريق الآخرة بمراقبة القلب لم يخف عليه صلاح قلبه وذلك لا يوجب ترتيبا مستمرا ولذلك روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم حتى يقال : لا يفطر ويفطر حتى يقال : لا يصوم وينام حتى يقال : لا يقوم ويقوم حتى يقال : لا ينام وكان ذلك بحسب ما ينكشف له بنور النبوة من القيام بحقوق الأوقات .

وقد كره العلماء أن يوالي بين الإفطار أكثر من أربعة أيام تقديرا بيوم العيد وأيام التشريق وذكروا أن ذلك يقسي القلب ويولد رديء العادات ويفتح أبواب الشهوات ولعمري هو كذلك في حق أكثر الخلق لا سيما من يأكل في اليوم والليلة مرتين

التالي السابق


(والفقيه) المتبصر (بدقائق الباطن) وأسراره (ينظر إلى أحواله) التي أقامه الله فيها (فقد يقتضي حاله دوام الصوم) في الأيام كلها وقد يقتضي المواصلة فيه على رأي من يقول : إن النهي عن الوصال نهي تنزيه وهو مشهد العارفين بالله تعالى لأنهم قالوا : إنما راعى -صلى الله عليه وسلم- الشفقة والرحمة في ذلك بظاهر الناس ولو كان حراما ما واصل بهم -صلى الله عليه وسلم- وقد ورد أنه -صلى الله عليه وسلم- قال : "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق " ، وقال : "لن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه " .

وخرج مسلم عن أنس قال : "واصل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في آخر شهر رمضان فواصل ناس من المسلمين فبلغه ذلك فقال : لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم " .

وقد يقتضي حاله المواصلة حتى السحر في كل يوم فتدخل الليلة في الصوم كل ليلة ويكون حد السحر لفطرها كحد الغروب للنهار في حق من لا يواصل ، وأخرجه البخاري عن أبي سعيد أنه -صلى الله عليه وسلم- قال : "أيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر " .

(وقد يقتضي) حاله (دوام الفطر) في الأيام كلها ما عدا رمضان .

(وقد يقتضي مزج الإفطار بالصوم) إما بصوم يوم وإفطار يوم كصوم داود -عليه السلام- أو بصوم يومين وفطر يوم كما هو صوم مريم -عليها السلام- أو بصوم ثلاثة في كل أسبوع وللسالكين في ذلك طرائق مختلفة قال صاحب العوارف : كان سهل بن عبد الله التستري يأكل في كل خمسة عشر يوما وفي رمضان يأكل أكلة واحدة ويفطر كل ليلة بالماء القراح للسنة ، وحكي عن الجنيد -رحمه الله- أنه كان يصوم على الدوام فإذا دخل عليه إخوانه أفطر معهم ويقول ليس فضل المساعدة مع الإخوان بأقل من فضل الصوم ثم قال إن هذا الإفطار يحتاج إلى علم فقد يكون الداعي إلى ذلك شره النفس لا نية الموافقة وتخليص النية بمحض الموافقة مع وجود شره النفس صعب قال وسمعت شيخنا يعني أبا النجيب يقول : لي سنين ما أكلت شيئا بشهوة نفس ابتداء واستدعاء بل يقدم إلي الشيء فأرى فضل الله ونعمته وفعله فأوافق الحق في فعله ، ورأيت أبا السعود بن شبل يتناول الطعام في اليوم مرات أي : وقت أحضر آكل منه ويرى أن تناوله موافقة الحق -عز وجل- لأن حاله مع الله تعالى كان ترك الاختيار في جميع تصاريفه والوقوف مع فعل الحق وقد كان له في ذلك بداية يعز مثلها حتى لقد كان يبقى أياما لا يأكل ولا يعلم أحد بحاله ولا يتصرف هو لنفسه ولا يتسبب إلى تناول شيء وينتظر فعل الحق بسياقه الرزق إليه ولم يشعر أحد بحاله مدة من الزمان ثم إن الله تعالى أظهر حاله وأقام له الأصحاب وكانوا يتكلفون الأطعمة ويأتون بها إليه وهو يرى في ذلك فعل الحق والموافقة ، سمعته يقول : أصبح كل يوم وأحب ما إلي الصوم وينقض الحق على محبتي للصوم بفعله فأوافق الحق في فعله ، وحكي عن بعض الصادقين من أهل واسط أنه صام سنين كثيرة وكان يفطر كل يوم قبل غروب الشمس إلا في رمضان .

[ ص: 265 ] قال أبو نصر السراج : أنكر قوم هذا لمخالفة العلم وإن كان الصوم تطوعا واستحسنه آخرون لأن صاحبه كان يريد بذلك تأديب النفس بالجوع وأن لا يتمتع برؤية الصوم قال : ووقع لي بر هذا إن قصد أن لا يتمتع برؤية الصوم فقد يتمتع برؤية عدم التمتع برؤية الصوم وهذا يتسلسل والأليق موافقة العلم وإمضاء الصوم ولكن أهل الصدق لهم نيات فيما يفعلون فلا يعارضون والصدق محمود بعينه كيف كان والصادق في خفارة صدقه كيف تقلب .

وقال بعضهم : إذا رأيت الصوفي يصوم صوم التطوع فاتهمته فإنه قد اجتمع معه شيء من الدنيا وقيل : إذا كان جماعة متوافقون أشكالا وفيهم مريد يحثون على الصيام فإن لم يساعدوه يتهموا لإفطاره ويتكلفوا له رفقا به ولا يحملون حاله على حاله وإن كان جماعة مع شيخ يصومون لصيامه ويفطرون لإفطاره إلا من يأمره الشيخ بذلك وقيل : إن بعضهم صام سنين بسبب شاب كان يصحبه حتى ينظر الشاب إليه فيتأدب به ويصوم بصيامه ، وحكي عن الحسن المكي أنه كان يصوم الدهر وكان مقيما بالبصرة وكان لا يأكل الخبز إلا ليلة الجمعة وكان قوته في كل شهر أربعة دوانيق يعمل بيده حبال الليف ويبيعها وكان الشيخ أبو الحسن بن سالم يقول : لا أسلم عليه إلا أن يفطر ويأكل فكأنه اتهمه بشهوة خفية له في ذلك لأنه كان مشهورا بين الناس فهذه أحوال العارفين بالله في صيامهم وفطرهم (فإذا فهم المعنى) الحاصل من لفظ الصوم (وتحقق جده) وتشميره (في سلوك طريق الآخرة بمراقبة القلب) ومحافظته عن أن يخطر فيه خاطر يجانب الصدق والإخلاص (لم يخف عليه صلاح قلبه) الذي هو دوامه مع الله (وذلك لا يوجب ترتيبا مستمرا روي أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يصوم حتى يقال : إنه لا يفطر ويفطر حتى يقال : لا يصوم ) رواه مسلم من حديث عبد الله بن شقيق عن عائشة قالت : "كان يصوم حتى تقول قد صام قد صام ويفطر حتى تقول قد أفطر قد أفطر " .

وفي لفظ آخر عن أبي سلمة عنها قالت : "كان يصوم حتى نقول قد صام ويفطر حتى نقول قد أفطر " .

وفي لفظ آخر : "كان يصوم حتى تقول لا يفطر ويفطر حتى تقول لا يصوم " .

وأخرجه من حديث ابن عباس قال : "وكان يصوم إذا صام حتى يقول القائل لا والله لا يصوم " .

وفي لفظ آخر : "يصوم حتى تقول لا يفطر ويفطر حتى تقول لا يصوم " ، ورواه البخاري مثل ذلك .

وأخرج مسلم من حديث أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "كان يصوم حتى يقال قد صام قد صام ويفطر حتى يقال قد أفطر قد أفطر " .

ورواه البخاري من حديث أنس قال : "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفطر من الشهر حتى يظن أنه لا يصوم منه شيئا ويصوم حتى يظن أنه لا يفطر منه شيئا " .

وأما قوله (وينام حتى يقال : لا يقوم ويقوم حتى يقال : لا ينام) فمعناه في حديث حميد عند البخاري قال : سألت أنسا عن صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : "ما كنت أحب أن أراه من الشهر صائما إلا رأيته ولا مفطرا إلا رأيته ولا من الليل قائما إلا رأيته ولا نائما إلا رأيته " .

(وكان ذلك بحسب ما ينكشف له) -صلى الله عليه وسلم- (بنور النبوة من القيام بحقوق الأوقات وقد كره بعض العلماء) من أهل الله (أن يوالي) المريد (بين الإفطار أكثر من أربعة أيام) وذلك (تقديرا) له (بيوم العيد وأيام التشريق) إذ أباح الله فيها الفطر (وذكروا أن ذلك) أي : الموالاة بأكثر من ذلك مما (يقسي القلب) أي : يورثه قساوة وغلظة (ويولد رديء العادات) في الانهماك (ويفتح أبواب الشهوات) الخفية والظاهرة (ولعمري هو كذلك في حق أكثر الخلق) فقد قست قلوبهم وحجبوا عن أنوار المعرفة ونقضت عزائمهم لعدم اعتيادهم على الصوم وإرخاء العنان للشهوات من كل وجه (لا سيما من يأكل في اليوم والليلة مرتين) فهذا أعظم باعث على توليد العادات الرديئة في القلوب فإذا بلي المريد بهذه العادات ولم ينبهه أحد فلينتبه وليجهد أن يجعل غذاءه في اليوم والليلة مرة واحدة في أي وقت شاء والأولى له إن كان صائما بعد المغرب وإن كان ممن يقوم بالليل فيجعل أكله مرة واحدة في السحر ويكتفي به سائر نهاره وليله إن أمكنه ومن جملة أسباب التدريج أن لا يزيد على ما كان اعتاده بحسب مزاجه ثم إذا تمكن من عدم الزيادة وأراد أن يلتحق بأرباب الرياضة فليصبر على ذلك الوزن جمعة يتناوله من الظهر إلى الظهر إن لم يكن صائما بحيث [ ص: 266 ] يعتاده وبعد ذلك يزيد ثلاث ساعات أخرى فيعود أكله العصر ويستديم على ذلك جمعة أخرى ثم يزيد ثلاث ساعات فيبقى أكله المغرب هكذا يزيد ما أمكنه إلى أن يقف إلى حد يعجزه غيره عن الزيادة وإذا أمر المريد بذلك لأجل أن تضعف القوى فليقل فضول النفس بهذا السبب وقال بعضهم : ما أخلص عبد قط إلا أحب أن يكون في جب لا يعرف ، ومن أكل فضلا من الطعام أخرج فضلا من الكلام ، وأما باب الوصول فهو قطع الشواغل وترك الفضول وتعلق الهمة بالله عز وجل .




الخدمات العلمية