الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
والتحقيق فيه أن التزين بالمباح ليس بحرام ولكن الخوض فيه يوجب الأنس به حتى يشق تركه واستدامة الزينة لا تمكن إلا بمباشرة أسباب في الغالب يلزم من مراعاتها ارتكاب المعاصي من المداهنة ومراعاة الخلق ومراءاتهم وأمور أخر هي محظورة والحزم اجتناب ذلك لأن من خاض في الدنيا لا يسلم منها ألبتة ولو كانت السلامة مبذولة مع الخوض فيها لكان صلى الله عليه وسلم ، لا يبالغ في ترك الدنيا حتى نزع القميص المطرز بالعلم ونزع خاتم الذهب في أثناء الخطبة إلى غير ذلك مما سيأتي بيانه .

وقد حكي أن يحيى بن يزيد النوفلي كتب إلى مالك بن أنس رضي الله عنهما بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على رسوله محمد في الأولين والآخرين من يحيى بن يزيد بن عبد الملك إلى مالك بن أنس أما بعد فقد بلغني أنك تلبس الدقاق وتأكل الرقاق وتجلس على الوطيء وتجعل على بابك حاجبا وقد جلست مجلس العلم وقد ضربت إليك المطي وارتحل إليك الناس واتخذوك إماما ورضوا بقولك فاتق الله تعالى يا مالك وعليك بالتواضع كتبت إليك بالنصيحة مني كتابا ما اطلع عليه غير الله سبحانه وتعالى والسلام فكتب إليه مالك .

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم ، من مالك بن أنس إلى يحيى بن يزيد سلام الله عليك ، أما بعد .

فقد وصل إلي كتابك فوقع مني موقع النصيحة والشفقة ، والأدب أمتعك الله بالتقوى وجزاك بالنصيحة خيرا ، وأسأل الله تعالى التوفيق ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فأما ما ذكرت لي أني آكل الرقاق ، وألبس الدقاق وأحتجب وأجلس على الوطيء فنحن نفعل ذلك ونستغفر الله تعالى فقد قال الله تعالى: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق وإني لأعلم أن ترك ذلك خير من الدخول فيه ولا تدعنا من كتابك فلسنا ندعك من كتابنا والسلام .

فانظر إلى إنصاف مالك إذ اعترف أن ترك ذلك خير من الدخول فيه ، وأفتى بأنه مباح وقد صدق فيهما جميعا ومثل مالك في منصبه إذا سمحت نفسه بالإنصاف والاعتراف في مثل هذه النصيحة فتقوى أيضا نفسه على الوقوف على حدود المباح ، حتى لا يحمله ذلك على المراءاة والمداهنة والتجاوز إلى المكروهات وأما غيره فلا يقدر عليه فالتعريج على التنعم بالمباح خطر عظيم وهو بعيد من الخوف والخشية وخاصية علماء الله تعالى الخشية وخاصية الخشية التباعد من مظان الخطر .

التالي السابق


( والتحقيق فيه أن التزين بالمباح ليس بحرام) وذلك عام في كل المأكل، والملبس، والمسكن، بدليل قوله تعالى: قل من حرم زينة الله الآية، ( ولكن الخوض فيه يوجب الأنس به) ، والميل إليه، ( حتى يشق تركه) ، ويصعب هجره لتمرن النفس عليه، حتى تصير عادة غير منفكة، وترك العادة صعب، وأصل الزينة تحسين الشيء بغيره من لبسته، أو حليته أو هيئته، وقال الراغب: الزينة الحقيقية ما لا يشين الإنسان في شيء من أحواله لا في الدنيا ولا في الآخرة، أما ما يزينه في حالة دون حالة فهو من وجه شين وهي على ثلاثة أقسام نفسية، وبدنية، وخارجية، الأولى كالعلم، والاعتقادات الحسنة، والثانية: كالقوة وطول القامة، وحسن الوسامة، والثالثة: المال، والجاه، والآية محمولة على القسم الأخير، ( واستدامة الزينة) على الوجه الذي يرومها المزين، ( لا تمكن) ولا تتصور ( إلا بمباشرة أسباب) وأمور خارجية ( في الغالب يلزم من مراعاتها) والالتفات إليها ( ارتكاب) أنواع ( المعاصي من) أكبرها ( المداهنة) في الحق، ( و) منها ( مراعاة الخلق) في أحوالهم اجتماعا وافتراقا ( ومراياتهم) في أحوال ليكون معظما عندهم ( وأمور أخر هي محظورة) شرعا، ( والحزم) كل الحزم ( اجتناب ذلك) التزين الذي يؤدي إلى ما ذكر والعود إلى الاقتصاد فيه يملك رأس الأمر; ( لأن من خاض في الدنيا) وآثر أسبابها، واشتغل بها ( لا يسلم منها البتة) فلا بد لوازن العسل من لعق الأصابع، ( و) اعلم أنه ( لو كانت السلامة) منها ( مبذولة) أي: حاصلة ( مع الخوض) فيها ( لكان النبي صلى الله عليه وسلم أولى بذلك، وكان لا يبالغ في ترك الدنيا) ورفض أسبابها ( حتى نزع القميص المطرز بالعلم) أي: المعلم بعلم .

قال العراقي: المعروف نزعه للخميصة المعلمة اهـ .

قلت: إطلاق القميص على الخميصة مجاز، فإن القميص هو الثوب المخيط بكمين غير مفرج يلبس تحت الثياب، ولا يكون من الصوف غالبا، والخميصة كساء أسود مربع له علمان، فإن لم يكن معلما فليس بخميصة، كما قاله الجوهري، وكانت من [ ص: 385 ] لباس الناس قديما، قال العراقي: وحديث الخميصة أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي في الكبرى، وابن ماجه من رواية الزهري، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما سلم قال: اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم; فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي، وائتوني بأنبجانية أبي جهم بن حذيفة" لفظ البخاري اهـ .

قلت: رويناه في أل الحربيات من حديث سفيان بن عيينة، عن الزهري، وهشام بن عروة، كلاهما عن عروة به، ( ونزع الخاتم الذهب) ونبذه ( في أثناء الخطبة) قال العراقي: رواه ابن عمر وابن عباس، أما حديث ابن عمر، فأخرجه الأئمة الستة إلا ابن ماجه، فاتفق عليه الشيخان والنسائي من رواية الليث، ورواه البخاري من رواية جويرية، ومسلم والترمذي من رواية موسى بن عقبة ثلاثتهم، عن نافع أن عبد الله بن عمر حدثه، "أن النبي صلى الله عليه وسلم اصطنع خاتما من ذهب، وجعل فصه في بطن كفه، إذا لبسه فاصطنع الناس خواتيم من ذهب فرقي المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، فقال: إني كنت اصطنعته وإني لا ألبسه فنبذه، فنبذ الناس لفظ رواية البخاري، من رواية جويرية عن نافع، واتفقا عليه، وأبو داود والنسائي من رواية عبيد الله بن عمر عن نافع، عن ابن عمر دون ذكر المنبر، وكذا رواية مسلم، وأبو داود والنسائي من رواية أيوب بن موسى، عن نافع والبخاري من طريق مالك، والنسائي من رواية إسماعيل بن جعفر، كلاهما عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر دون ذكر المنبر، وأما حديث ابن عباس، فرواه النسائي من رواية سليمان الشيباني، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، اتخذ خاتما فلبسه، قال: شغلني هذا عنكم منذ اليوم إليه نظرة وإليكم نظرة ثم ألقاه ( إلى غير ذلك مما سيأتي) في أثناء هذا الكتاب، ( فقد حكي أن يحيى بن يزيد) ابن عبد الملك بن المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم ( النوفلي) المدني روى عن أبيه، أورده الحافظ الذهبي في الميزان، وقال: قال أبو حاتم: منكر الحديث، وقال ابن عدي: الضعف على أحاديثه، وأورد أباه، كذلك، وقال: روى عن المقبري، ويزيد بن رومان، وعنه ابنه يحيى وعبد العزيز الأوسي، وخالد بن مخلد ضعفه، أحمد وغيره، وقال أبو زرعة، ضعيف، وقال ابن عدي عامة ما يرويه غير محفوظ، وقال النسائي: متروك الحديث، مات سنة خمس وستين ومائة .

( كتب إلي) الإمام ( مالك بن أنس) رحمه الله تعالى تقدمت ترجمته، والمكتوب ما نصه: ( بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين من يحيى بن يزيد بن عبد الملك إلى مالك بن أنس أما بعد فقد بلغني) عنك ( أنك تلبس الدقاق) أي: الثياب الرفيعة، وهي دق الثياب، من كتان وقطن، ولو روى بالراء لكان له معنى ( وتأكل الرقاق) بالضم، أي الخبز المرقق، الذي عجن من دقيق منخول ( وتجلس على الوطيء) أي: الفرش اللين ( وتجعل على بابك حاجبا) لا يدع الناس من الدخول عليك إلا بإذن، ( و) الحال أنك ( قد جلست مجلس العلم) تنشر للناس وتفيده ( وضربت إليك المطيء) أي: بأكبادها ( وارتحل الناس) إليك لأخذ العلم، ( فاتخذوك إماما) وقدوة في دينهم ( ورضوا بقولك) الذي تذهب إليه ( فاتق الله) في نفسك ( يا مالك وعليك بالتواضع) وقد ( كتبت إليك بالنصيحة مني كتابا) هو هذا الكتاب ( ما اطلع عليه إلا الله تعالى) وهكذا تكون النصائح إذا كانت لله تعالى لا لغرض ولا علة ( والسلام) عليك ( فكتب إليه مالك) لأن من السنة رد جواب الكتاب ( بسم الله الرحمن الرحيم، من مالك بن أنس إلى يحيى بن يزيد سلام عليك، أما بعد فقد وصل إلي كتابك) فقرأته ( فوقع مني موقع النصيحة، والإشفاق والأدب) أي: مع الله تعالى ( أمتعك الله بالتقوى) أي: أطال إيناسك به، ( وجزاك بالنصيحة) في الله ( خيرا، وأسأل الله التوفيق) أي: لمرضاته، ( ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فأما ما ذكرت لي) أي: في كتابك ( أني آكل الرقاق، وألبس) الثياب ( الدقاق وأحتجب) عن الناس، ( وأجلس على) الفرش ( الوطيء فنحن نفعل ذلك) أي: يصدر منا ذلك أحيانا من غير تصميم عليه، ( ونستغفر الله) تعالى من ذلك كله ( وقد قال [ ص: 386 ] الله عز وجل) في كتابه العزيز: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق وقد استدل بهذه الآية على قول الأصوليين، أن الأصل في المنافع الإباحة، وفي المضار التحريم فإنه يدل على الذم بسبب تحريم زينة الله المخرجة لعباده، وإذا ورد الذم على التحريم، لم يكن حراما فيكون مباحا، والمراد من الطيبات ما يستطاب طبعا، وهو النافع فيكون مباحا، وليس المراد منها الحلال والإلزام، التكرار في قوله: أحل لكم الطيبات قال القزويني في شرح المنهاج ( وإني لأعلم) يقينا ( أن ترك ذلك) جملة ( خير من الدخول فيه) والركون إليه ( ولا تدعنا) أي: لا تهملنا ( من كتابك) أي: من إرساله إلينا ( فلسنا ندعك) نتركك ( من كتابنا والسلام) هذا آخر الجواب ( فانظر) وتأمل ( إلى إنصاف) الإمام ( مالك) وأدبه مع الله تعالى ( إذ اعترف) بما نسب إليه، ولو كتب هذا إلى أقل علماء زماننا بأقل من ذلك لاشمأز واحتد غضبا، ولم يرد الجواب، فقال من جملة اعترافه، وإني لأعلم ( أن ترك ذلك خير من الدخول فيه، وأفتى بأنه مباح) أي، مما أباح الله به لعباده، وليس هو في حد المحرمات، ( وقد صدق) رحمه الله تعالى ( فيهما جميعا) أي: في الإباحة المفهومة من نص الآية الشريفة، وفي أولوية ترك الخوض، والدخول في العلائق الدنيوية، إن كانت مباحة ( ومثل مالك) وناهيك به: ( إذا سمحت نفسه بالإنصاف) منها ( والاعتراف) بالانكسار ( في مثل هذه النصيحة) المفيدة ( فتقوى أيضا نفسه على الوقوف على حدود المباح، ( فلا يتجاوزها ( حتى لا يحمله ذلك على المراياة) مع الخلق ( والمداهنة) في الحق ( و) على ( التجاوز) منها ( إلى) الوقوع في ( المكروهات) لعلو مقامه واستغراقه في حضرة الحق سبحانه، ( وأما غيره فلا يقدر عليه) ، فإن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ( فالتعريج) أي: الميل ( على التنعم في المباح) والوقوف عليه ( خطر عظيم) ووبال جسيم إلا من عصمه الله وأيد بالتوفيق، وكحلت بصيرته بالتأييد ( وهو بعيد من) مقامي ( الخوف) من الله، ( والخشية) له، ( وخاصية علماء الله تعالى) التي لا تنفك عنهم في حال من الأحوال ( الخشية) إذ هي ثمرة علمهم بالله تعالى ( وخاصية الخشية التباعد من مظان الخطر) والاقتصار على أقل الضرورات وهو مقام النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، ففي الحديث لا يكون العبد من المتقين حتى يدع ما لا بأس به مخافة ما به بأس، وفي تاريخ الذهبي، قال إسماعيل ابن أبي أويس كتب عبد الله بن عبد العزيز العمري، إلى مالك وابن أبي ذئب، وغيرهما بكتب أغلظ لهم فيها وقال أنتم علماء تميلون إلى الدنيا وتلبسون اللين وتدعون التقشف فكتب له ابن أبي ذئب كتابا أغلظ له، وجاوبه مالك جواب فقيه .




الخدمات العلمية