الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وما لا بد فيه من السماع فنون كثيرة منها الإيجاز بالحذف والإضمار

التالي السابق


ولنرجع إلى شرح كلام المصنف رحمه الله تعالى (ولا بد من استتباع فنون كثيرة منها الإيجاز ) ، وهو من أعظم أنواع البلاغة حتى نقل صاحب سر الفصاحة عن بعضهم أنه قال: البلاغة هي الإيجاز والإطناب، ثم إن الإيجاز والاختصار بمعنى واحد، كما يؤخذ من المفتاح، وصرح به الطيبي.

وقال بعضهم: الاختصار خاص بالجمل فقط بخلاف الإيجاز، ورده صاحب عروس الأفراح، والإيجاز قسمان إيجاز قصر، وإيجاز حذف، وإلى الثاني أشار المصنف بقوله (بالحذف والإضمار) ، والأول هو الوجيز بلفظه الطويل بمعناه، وقال بعضهم: هو أن يكون اللفظ بالنسبة إلى المعنى أقل من القدر المعهود عادة، وسبب حسنه أنه يدل على التمكن من الفصاحة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: أوتيت جوامع الكلم، وقال الطيبي في التبيان: الإيجاز الخالي من الحذف ثلاثة أقسام .

أحدها: إيجاز القصر وهو أن يقصر اللفظ في معناه مثاله قوله تعالى إنه من سليمان إلى قوله وأتوني مسلمين جمع في أحرف العنوان والكتابة والحاجة .

الثاني: إيجاز التقدير وهو أن يقدر معنى زائدا على المنطوق، وسماه ابن مالك في المصباح بالتضييق; لأنه نقص من الكلام ما صار لفظه أضيق من قدر معناه، ومثاله قوله هدى للمتقين أي للضالين الصائرين بعد الضلال إلى التقوى .

الثالث: الإيجاز الجامع وهو أن يحتوي اللفظ على معان متعددة، ومثاله قوله تعالى: إن الله يأمر بالعدل والإحسان الآية، وقد تقدم ذكرها في الباب الأول من هذا الكتاب، ومن بديع الإيجاز سورة الإخلاص فإنها قد تضمنت الرد على نحو أربعين فرقة، وقد أفردت بالتأليف، وقوله تعالى: وقيل يا أرض ابلعي ماءك الآية، أمر فيها ونهى، وأخبر ونادى ونعت وسمى، وأهلك وأبقى وأسعد وأشقى وقص من الأنباء ما لو شرح ما اندرج في هذه الجملة من بديع اللفظ والبلاغة والإيجاز والبيان لجفت الأقلام، وقد أفردت أيضا بالتأليف، وقوله تعالى: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم الآية جمع في هذه الآية أحد عشر جنسا من الكلام فأدت وكنت ونبهت وسمت وأمرت وقصت وحذرت وخصت وعمت وأشارت وعذرت فأدت خمس حقوق حق الله، وحق سليمان، وحقها وحق رعيتها، وحق جنود سليمان، وقوله تعالى: ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب فإن معناه كثير واللفظ يسير، لأن معناه أن الإنسان إذا علم أنه متى قتل كان ذلك داعيا إلى أن لا يقدم على القتل، فارتفع بالقتل الذي هو القصاص كثير من قتل الناس بعضهم بعضا، وكان ارتفاع القتل حياة لهم، وقد فضلت هذه الجملة على أوجز ما كان عند العرب في هذا المعنى، وهو قولهم القتل أنفى للقتل بعشرين وجها، أو أكثر، وأنكر ابن الأثير هذا التفضيل، وقال: لا تشبيه بين كلام الخالق، وكلام المخلوق، وأمثال ذلك من الآيات الجامعة في القرآن كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية



(تنبيهات) .

الأول:

[ ص: 543 ] ذكر قدامة من أنواع البديع الإشارة، وفسرها بالإتيان بكلام قليل، وفي معان جمة، وهذا هو إيجاز القصر بعينه لكن فرق بينهما ابن أبي الأصبع بأن الإيجاز دلالته مطابقة، ودلالة الإشارة إما تضمن، أو التزام .

الثاني: من الإيجاز نوع يسمى التضمين، وهو حصول معنى في لفظ من غير ذكر له بأعم هو عبارة عنه، وهو نوعان أحدهما ما يفهم من البنية، كقوله معلوم، فإنه يوجب أنه لا بد من عالم، والثاني في معنى العبارة كالبسملة، فإنها تضمنت معنى الاستفتاح في الأمور باسمه على جهة التعظيم لله، والتبرك باسمه .

الثالث: مما يصلح أن يعد من أنواع الإيجاز الاتساع من أنواع البديع، وهو أن يؤتى بكلام يتسع فيه التأويل بحسب ما تحتمله ألفاظه من المعاني كفواتح السور ذكره ابن أبي الأصبع .

الرابع: ذكر غير واحد أن من أنواع إيجاز القصر باب الحصر سواء كان بإلا أو إنما، أو غيرهما من أدواته; لأن الجملة فيها نابت مناب جملتين، وباب العطف; لأن حرفه وضع للإغناء عن إعادة العامل، وباب النائب عن الفاعل; لأنه أدل على الفاعل بإعطائه حكمه، وعلى المفعول بوضعه، وباب الضمير; لأنه وضع للاستغناء عن الظاهر اختصارا، ولذا لا يعدل إلى المنفصل مع إمكان المتصل، وباب علمت أنك قائم; لأنه محتمل لاسم واحد سد مسد المفعولين من غير حذف، ومنها طرح المفعول اقتصارا على جعل المتعدي كاللازم، ومنها الألفاظ الملازمة للعموم كأحد، ومنها لفظ التثنية والجمع فإنه يغني عن تكرر المفرد، وأقيم الحرف فيهما مقامه اختصارا .

القسم الثاني من قسم الإيجاز إيجاز الحذف، وهو على أنواع أحدها ما يسمى بالاقتطاع، وهو حذف بعض حروف الكلمة، وأنكر ابن الأثير، ورود هذا النوع في القرآن، ورد بأن بعضهم جعل منه فواتح السور على القول بأن كل حرف منها اسم من أسماء الله تعالى، كما تقدم وادعى بعضهم أن الباء في وامسحوا برءوسكم أول كلمة بعض، ثم حذف الباقي، ومنه قراءة بعضهم، ونادوا يا مال بالترخيم لشدة ما هم فيه، عجزوا عن إتمام الكلمة، الثاني ما يسمى بالاكتفاء وهو أن يقتضي المقام ذكر شيئين بينهما تلازم وارتباط، فيكتفي بأحدها عن الآخر، لنكتة ويختص غالبا بالارتباط العطفي كقوله سرابيل تقيكم الحر، أي: والبرد، وخصص الحر بالذكر; لأن الخطاب للعرب، وبلادهم حارة، والوقاية عندهم من الحر أهم، وقوله تعالى: بيدك الخير أي والشر، وإنما خص الخير بالذكر; لأنه مطلوب ومرغوبهم، أو لأنه أكثر وجودا في العالم، أو لأن إضافة الشر إليه تعالى ليس من الأدب، كما في الخبر: والشر ليس إليك، وقوله تعالى: هدى للمتقين أي: والكافرين، قال ابن الأنباري: ويؤيده قوله هدى للناس وقوله تعالى: إن امرؤ هلك ليس له ولد أي: ولا والد بدليل أنه أوجب للأخت النصف، وإنما يكون ذلك مع فقد الأب; لأنه يسقطها .

الثالث: ما يسمى بالاحتباك، وهو أن يجتمع في الكلام متقابلان، فيحذف من كل واحد منهما مقابله لدلالة الآخر عليه، مثاله قوله تعالى: ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن أي: حتى يطهرن من الدم، ويتطهرن بالماء فإذا تطهرن وطهرن فأتوهن .

الرابع: الاختزال، وهو ليس واحدا مما سبق، وله أقسام; لأن المحذوف إما كلمة اسم، أو فعل، أو حرف أو أكثر، ولكل منها أمثلة سيأتي ذكر بعضها في السياق .




الخدمات العلمية