الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومنها أن يكون أكثر بحثه عن علم الأعمال وعما يفسدها ويشوش القلوب ويهيج الوسواس ويثير الشر فإن أصل الدين التوقي من الشر ولذلك قيل: عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه ومن لا يعرف الشر ، من الناس يقع فيه ولأن الأعمال الفعلية قريبة وأقصاها بل أعلاها المواظبة على ذكر الله تعالى بالقلب واللسان وإنما الشأن في معرفة ما يفسدها ويشوشها وهذا مما تكثر شعبه ، ويطول تفريعه وكل ذلك مما يغلب مسيس الحاجة إليه وتعم ، به البلوى في سلوك طريق الآخرة وأما علماء الدنيا فإنهم يتبعون غرائب التفريعات في الحكومات والأقضية ويتعبون في وضع صور تنقضي الدهور ولا تقع أبدا وإن وقعت فإنما تقع لغيرهم لا لهم وإذا وقعت كان في القائمين بها كثرة ويتركون ما يلازمهم ويتكرر عليهم آناء الليل وأطراف النهار في خواطرهم ووساوسهم وأعمالهم .

وما أبعد عن السعادة من باع مهم نفسه اللازم بمهم غيره النادر إيثارا للتقرب والقبول من الخلق على التقرب من الله سبحانه وشرها في أن يسميه البطالون من أبناء الدنيا فاضلا محققا عالما بالدقائق وجزاؤه من الله أن لا ينتفع في الدنيا بقبول الخلق بل يتكدر عليه صفوه بنوائب الزمان ثم يرد القيامة مفلسا متحسرا على ما يشاهده من ربح العاملين وفوز المقربين وذلك هو الخسران المبين .

ولقد كان الحسن البصري رحمه الله أشبه الناس كلاما بكلام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأقربهم هديا من الصحابة رضي الله عنهم اتفقت الكلمة في حقه على ذلك وكان أكثر كلامه في خواطر القلوب وفساد الأعمال ووساوس النفوس والصفات ، الخفية الغامضة من شهوات النفس وقد قيل له : يا أبا سعيد ، إنك تتكلم بكلام لا يسمع من غيرك فمن أين أخذته قال ؟ : من حذيفة بن اليمان وقيل لحذيفة نراك تتكلم بكلام لا يسمع من غيرك من الصحابة فمن أين ؟ أخذته قال ؟ : خصني به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان الناس يسألونه عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر ، مخافة أن أقع فيه وعلمت أن الخير لا يسبقني علمه وقال مرة : فعلمت أن من لا يعرف الشر لا يعرف الخير .

وفي لفظ آخر كانوا : يقولون : يا رسول الله ، ما لمن عمل كذا وكذا ؟ يسألونه عن فضائل الأعمال ، وكنت أقول : يا رسول الله ، ما يفسد كذا وكذا ؟ فلما رآني أسأله عن آفات الأعمال خصني بهذا العلم .

وكان حذيفة رضي الله عنه أيضا قد خص بعلم المنافقين ، وأفرد بمعرفة علم النفاق ، وأسبابه ودقائق الفتن فكان عمر وعثمان وأكابر الصحابة ، رضي الله عنهم ، يسألونه عن الفتن العامة والخاصة وكان يسأل عن المنافقين فيخبر بعدد من بقي منهم ، ولا يخبر بأسمائهم وكان عمر رضي الله عنه يسأل عن نفسه هل يعلم فيه شيئا من النفاق فبرأه من ذلك وكان عمر رضي الله عنه إذا دعي إلى جنازة ، ليصلي عليها نظر فإن حضر حذيفة ، صلى عليها وإلا ترك وكان يسمى صاحب السر .

التالي السابق


(ومنها) أي ومن علامات علماء الآخرة، (أن يكون أكثر بحثه) وسؤاله وطلبه (في علوم الأعمال) ، أي العلوم المتعلقة بها أصلا وفرعا، (عما يفسد الأعمال) ، ويصححها على قانون الشرع، (و) عما (يشوش القلوب) ويزيلها عن مواضعها بطرق الخواطر، (و) عما (يهيج الوسواس) الشيطاني فيها، (ويثير الشر) ويحركه (فإن أصل الدين) وأساسه، (التوقي) أي التحفظ (من الشر) فإن الخير كل أحد يسأل عنه، ويطلبه وسيأتي من قول حذيفة ما يؤكده (ولذلك قيل: عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه) أي: عرفت الشر لأتجنبه وأتحفظ من سلوك منهاجه لا لأتلبس به، (ومن لا يعرف الشر، من الناس يقع فيه) أي من لا يعرف الشر الحاصل، من اختلاط الناس فيوشك أن يقع فيه ولا يدري ولا يمكنه التخلص منه لعدم معرفته بأصله، (ولأن الأعمال الفعلية) ، أي التي متعلقها الأفعال (قريبة) المأخذ، (وأقصاها المواظبة) أي المداومة، (على ذكر الله تعالى) لما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الأعمال؟ فقال: "أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله" وذكر الله تعالى إما (بالقلب و) إما (باللسان) ، وكل منهما مطلوب، وأحدهما أفضل من الآخر، فأما ذكر اللسان فله آداب وشروط مذكورة في رسائل السادة الصوفية، وأما ذكر القلب فاختصت به السادة النقشبندية، وكان شيخ المصنف أبو علي الروذباري أحد أركان هذه الطريقة، وله آداب تختص به وشروط غريبة يقطع بها السالك سفر سنين في ليلة واحدة، والحاصل: أن هذه الأعمال أمرها سهل، والسالكون يتلقون ذلك عن أفواه شيوخهم، (وإنما الشأن) كل الشأن (في معرفة ما يفسدها ويشوشها) هو أهم ما يكون عند أهل المعرفة في الطريق، ويشيرون إلى ذلك في نبذ من الكلام، ولا يحوم حوله إلا الأفراد، (وهذا) الذي أشرنا إليه (مما يكثر شعبه، ويطول تفريعه) ; لأنه يستدعى إلى ذكر مقدمات وإبراز فصول مهمات، (وكل ذلك مما يغلب) ويكثر (مسيس الحاجة إليه، ويعم به البلوى في سلوك طريق الآخرة) إذ هو حقيقة العلم النافع المقرب إلى ربه، لا يعتني به إلا علماء الآخرة، (وأما علماء الدنيا فإنهم) لا يحومون حوله، إنما (يتبعون غرائب التفريعات) ونوادرها (في) مسائل (الحكومات والأقضية) ويحفظونها في صدورهم للإفتاء بها (ويتعبون) بسهر الليالي [ ص: 426 ] وإيداع البصر والفكر (في وضع صور) مجهولة الأثر (تنقضي الدهور) ، وتمضي الأعصار (ولا تقع) منها واحدة، (وإن وقعت) فرضا، (إنما تقع لغيرهم) في عصر آخر، (لا لهم) فقد بذلوا نفيس أعمارهم مجانا لعمارة الغير، إنما مثلهم مثل الذي يثرد، ويأكله الغير، ومن بنى بيتا فيسكنه الغير، ويتمتع به، وخرج بنفسه صفر اليدين، فيا ضلالة سعي هؤلاء، (وإذا وقعت) تقديرا (كان في القائمين بها كثرة) وبركة (و) من العجب أنهم، (يتركون ما يلزمهم) لزوما كليا، (ويتكرر عليهم آناء الليل وأطراف النهار في خواطرهم) ، وهواجسهم، (ووساوسهم وأعمالهم) في حركاتهم وسكناتهم، (وما أبعد عن السعادة) الأبدية (من باع منهم نفسه اللازم بمهم غيره النادر) كلا تلك صفقة غير رابحة، ونتيجة غير صالحة، إنما هو (إيثار للقبول) لدى العامة، (والتقرب من الخلق) بصفة ذلك، (على القرب من الله تعالى وشرها) ، أي طمعا، (في أن يسميه البطالون من أبناء الدنيا فاضلا محققا) للعلوم العقلية، (عالما بالدقائق) من العبارات والمسائل، (وجزاؤه من الله تعالى أن لا ينتفع في الدنيا) بعلمه ولا يمتع (بقبول الخلق) الذي جعله نصب عينه، (بل يتكرر عليه صفوه) وأنسه (بنوائب الزمان) ومكدراته، وشدائده بتسليط من يعينه في أموره عليه أحيانا، وتنغيص عيشه بعدم وجدان مطلوبه أحيانا فإن الذي يرجو القبول معه، إما صاحب جاه أو صاحب مال، وصاحب الجاه لا يمكن استعارة جاهه في كل الأمور، وصاحب المال إما أن يفيده أو يمنعه، فإن أفاده مرة، تطلعت نفسه لمثلها، وصارت عادة ثابتة، ولا يمكنه بذل ماله له في كل مرة; لأن المال حبيب نفسه، فينغص عليه بالعداوة، وإن منعه فهو مبغوض عنده على كل حال، وبالجملة فالمراعى لهم أحواله لا تخلص من أنواع إلا كدار، (فيرد القطيعة) مع من ورد (مفلسا) من الأعمال الصالحة، يقال: أفلس الرجل إذا عدم فلوسه (فيتحسر) غاية التحسر، ويندم غاية التندم (على ما يشاهده من ربح) العلماء (العاملين) لله تعالى، (و) من (فوز المقربين) لديه في أصحاب اليمين (وذلك) في الحقيقة، (هو الخسران المبين) ، وقد انتزع المصنف رحمه الله تعالى، هذه العبارة من القوت، ورواها بالمعنى، وسيأتي القوت، آثم وأجلى فلا بأس أن نلم بذكره ليكشف ما عسى التبس في سياق المصنف، ويزيده وضوحا، قال: واعلم أنه إنما يستبين العالم عند المشكلات في الدين، ويحتاج العارف عند حك الشبهات في الصدر، وقد حصلنا في زماننا، هذا لو وردت في معاني التوحيد مشكلة، واختلجت في صدر مؤمن من معاني صفات الوحدة، وأردت كشف ذلك على حقيقة الأمر مما يشهده القلب الموقن، ويثلج له الصدر المشروح بالهدى، لكان ذلك عزيزا في وقتك هذا، ولكنت في استكشاف ذلك بين خمسة نفر مبتدع ضال يخبرك برأيه عن هواه، فيزيدك حيرة أو متكلم يفتيك بقياس معقوله على ظاهر الدين أو صوفي شاطح يجيبك بالحدس والتخمين، ويسقط العلم والأحكام، ويذهب الأسماء والرسوم، وهؤلاء تائهون ليسوا على الحجة أو مفت عالم عند نفسه مرسوم بالفقه عند أصحابه يقول لك: هذا من أحكام الآخرة، ومن علم الغيب لا نتكلم فيه لأنا لم نكلفه، وهو في أكثر مناظراته، يتكلم فيما لم يكلف ويجادل فيما لم ينطق فيه السلف، ويتعلم ويعلم ما علمه بتكلف، ولا يعلم المسكين أنه كلف علم يقين الإيمان وحقيقة التوحيد ومعرفة إخلاص المعاملة، وعلم ما يقدح في الإخلاص، ويخرج من جملته، قبل ما هو فيه، وإنه متكلف لبعض ما هو يبتغيه; لأن علم الإيمان وصحة التوحيد وإخلاص العبودية للربوبية، وإخلاص الأعمال من الهدى الدنيوية، وما تعلق بها من أعمال القلب من الفقه في الدين، وقعت أوصاف المؤمنين ولا يشعر أن حسن الأدب في المعاملة بمعرفة ويقين هو من صفات الموقنين، وذلك هو حال العبد من مقامه بينه وبين ربه عز وجل، ونصيبه من ربه، وحظه من مزيد آخرته وهو معقود بشهادة التوحيد الخالصة المقترنة بالإيمان من خفايا الشرك، وشعب النفاق بالفرائض، وفرض فرضها الإخلاص بالمعاملة، وإن علم ما سوى هذا مما قد أشر قلبه، وحبب إليه من فضول العلوم وغرائب الفهوم، إنما هو حوائج الناس، ونوازلهم فهو حجاب عن هذا واشتغال عنه فآثر هذا الغافل بقلة [ ص: 427 ] معرفته بحقيقة العلم النافع ما زين له طلبه، وحبب إليه قصده آثر حوائج الناس، وأحوالهم على حاجته وحاله، وعمل في أنصبتهم منه في عاجل دنياهم من نوازل طوارقهم وفتياهم، ولم يعمل في نصيبه الأوفر من ربه عز وجل لأجل آخرته، التي هي خير وأبقى، إذ مرجعه إليها ومثواه المؤبد فيها فآثر التقرب منهم على القرب من ربه عز وجل، وترك للشغل بهم حظه من الله تعالى الأجزل، وقدم التفرغ لهم على فراغ قلبه لما قدم لغده من تقواه بالشغل لخدمة مولاه، وطلب رضاه، واشتغل بصلاح ألسنتهم عن صلاح قلبه وظواهر أحوالهم عن باطن حاله، وكان سبب ما يلي به حب الرياسة، وطلب الجاه عند الناس والمنزلة بموجب السياسة، والرغبة في عاجل الدنيا، وغيرها بقلة الهمة، وضعف النية في آجل الآخرة وذخرها فأفنى أيامه لأيامهم، وأذهب عمره في شهواتهم، ليسميه الجاهلون بالعلم عالما، وليكون في قلوب الطالبين عندهم فاضلا، فورد القيامة مفلسا، وعند ما يراه من أنصبة المقربين مبلسا، إذ فاز بالقرب العاملون، وربح بالرضا العاملون، ولكن أنى له، وكيف بنصيب غيره، وقد جعل الله تعالى لكل عمل عاملا ولكل عالم عالما أولئك ينالهم نصيبهم من الكتب كل ميسر لما خلق له، هذا فصل الخطاب، والرجل الخامس من العلماء هو صاحب حديث، وآثار ونوافل. وراوية الأخبار يقول لك: إذا سألته اعتقد التسليم وأمر الحديث، كما جاء ولا تفتش، وهذا يتلو المفتي في السلامة، وهو أحسنهم طريقة وأشبههم بسلف العامة خليقة، ليس عنده شهادة يقين ولا معرفة بحقيقة ما رواه ولا هو شاهد واصف لمعنى ما نقله، إنما هو للعلم راوية وللخبر والأثر ناقلة، فهو على بينة من ربه وليس يتلوه شاهد منه، اهـ .

(ولقد كان الحسن) هو ابن أبي الحسن، واسمه يسار (البصري) أبو سعيد (رحمه الله تعالى) مولى الأنصار وأمه خيرة مولاة أم سلمة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر فيذكرون أن أمه كانت ربما غابت فيبكي، فتعطيه أم سلمة ثديها تعلله به إلى أن تجيء أمه فدر عليه ثديها، فشربه، فلذا كان (أشبه الناس كلاما بكلام الأنبياء) في الحكمة والفصاحة، ويروى أن ذلك من بركة تلك الشربة، ونشأ الحسن بوادي القرى، ورأى عليا وطلحة وعائشة، ولا يصح له سماع من أحد منهم، (و) كان (أقربهم هديا من الصحابة) يروى أن أم سلمة كانت تخرجه إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صغير، وكانوا يدعون له، فأخرجته إلى عمر فدعا له، فقال: اللهم فقهه في الدين وحببه إلى الناس، (اتفقت الكلمة في حقه على ذلك) فقال بلال بن أبي بردة: سمعت أبي يقول: والله لقد أدركت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فما رأيت أحدا أشبه بأصحاب محمد من هذا الشيخ، يعني الحسن وعن أبي قتادة: ألزموه فما رأيت أحدا أشبه رأيا بعمر بن الخطاب منه، وسئل أنس بن مالك عن مسألة فقال: سلوا مولانا الحسن، وهذا قد تقدم للمصنف، وعن العوام بن حوشب، ما أشبه الحسن إلا بنبي، أقام في قومه ستين عاما يدعوهم إلى الله عز وجل، وقال ابن سعد: قالوا: كان الحسن جامعا، عالما رفيعا فقيها، ثقة مأمونا عابدا ناسكا كثير العلم، فصيحا جميلا وسيما، (وكان) الحسن أحد المذكرين، وكانت مجالسه مجالس الذكر يخلو فيها مع أصحابه وأتباعه من النساك والعباد في بيته، مثل مالك بن دينار، وثابت البناني، وأيوب السختياني، ومحمد بن واسع وفرقد السبخي، وعبد الواحد بن زيد فيقول: هاتوا انشروا النور فيتكلم عليهم، وكان (أكثر كلامه) في هذه المجالس والخلوات (في) علم اليقين والقدرة، في (خواطر القلوب وفساد الأعمال ووساوس النفوس، و) في (الشهوات الخفية الغامضة من شهوات النفس) فربما قنع بعض أصحاب الحديث رأسه فاختفى من ورائهم ليسمع ذلك، فإذا رآه الحسن، قال له: يا لكع، وأنت ما تصنع ههنا؟ إنما خلونا مع أصحابنا نتذاكر، قال صاحب القوت: والحسن رحمه الله تعالى إمامنا في هذا العلم، الذي نتكلم به، أثره نقفو وسبيله نتبع، ومن مشكاته نستضيء، أخذنا ذلك بإذن الله تعالى إماما عن إمام إلى أن ينتهي ذلك إليه، وكان من خيار التابعين بإحسان قيل: ما زال يعي الحكمة أربعين سنة حتى نطق بها، ولقد لقي سبعين بدريا، ولقي ثلاثمائة صحابي، وكانوا يقولون: كنا نشبهه بهدى إبراهيم الخليل صلوات الله عليه في حلمه وخشوعه [ ص: 428 ] وشمائله (و) كان أول من أنهج سبيل هذا العلم، وفتق الألسنة به، ونطق بمعانيه، وأظهر أنواره، وكشف به قناعه، وكان يتكلم فيه بكلام لم يسمعوه من أحد من إخوانه، فـ (قيل له: يا أبا سعيد، إنك تتكلم) في هذا الفن (بكلام لا يسمع من) أحد (غيرك) من أقرانك (فمن أين أخذته؟) ونص القوت: فممن أخذت هذا؟ (فقال: من حذيفة بن اليمان) بن جابر بن ربيعة بن عمرو، ويقال: حذيفة بن حسيل بن جابر بن أسيد بن عمرو العبسي، أبو عبد الله حليف بني عبد الأشهل، واليمان لقب جده، جروة لأنه أصاب دما في الجاهلية فهرب إلى المدينة، وحالف الأنصار، وقيل: هو لقب والده حسيل، توفي سنة ست وثلاثين قبل قتل عثمان بأربعين ليلة، (وقيل) قالوا: (لحذيفة نراك تتكلم بكلام لا يسمع من غيرك من الصحابة) رضوان الله عليهم، (فمن أين؟) ونص القوت: فممن (أخذته؟ فقال: خصني به رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان الناس يسألونه عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن أقع فيه) رواه البخاري ومسلم، هكذا مختصرا وفي آخره زيادة من رواية أبي إدريس الخلافي أنه سمع حذيفة بن اليمان، يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الخير وكنت أسأله عن الشر; مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية، وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن الحديث بطوله، قاله العراقي: قلت: أخرجه أبو نعيم في الحلية، فقال: حدثنا محمد بن أحمد بن حمدان، حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن جابر، حدثني بسر بن عبيد الله الحضرمي، أنه سمع أبا إدريس الخولاني يقول: سمعت حذيفة يقول فساقه بطوله، (وعلمت أن الخير لا يسبقني) ، هكذا هو في القوت، وأخرج أبو نعيم في الحلية من رواية أبي داود الطيالسي، قال: حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثني حميد بن هلال، حدثنا نصر بن عاصم الليثي، قال: أتيت اليشكري، في رهط من بني ليث، فقال: قدمت الكوفة فدخلت المسجد، فإذا فيه خلقة كأنما قطعت رؤوسهم يستمعون إلى حديث رجل، فقمت عليهم، فقلت: من هذا؟ فقيل: حذيفة بن اليمان فدنوت منه فسمعته، يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، فعرفت أن الخير لم يسبقني، ثم ساق الحديث بطوله .

قال أبو نعيم: ورواه قتادة عن نصر بن عاصم، وسمي اليشكري خالدا اهـ .

وقال العراقي: ورواه أبو داود من رواية سبيع بن خالد، قال: أتيت الكوفة زمن فتحت تستر الحديث، وفيه بعد ذكر الشر الأول، قلت: فما العصمة من ذلك؟ فساقه إلى آخره، وسمي التابعي في رواية أخرى خالد بن خالد اليشكري، وروى مسلم من رواية أبي سلام قال: قال حذيفة: قلت: يا رسول الله، إنا كنا بشر فجاء الله بخير فنحن فيه، فهل وراء ذلك الخير شر؟ قال: نعم، قلت: كيف؟ قال: تكون بعدي أئمة الحديث بطوله .

وروى البخاري من رواية قيس بن أبي حازم، عن حذيفة، قال: تعلم أصحابي الخير، وتعلمت الشر اهـ .

وأخرج أبو نعيم في الحلية، من رواية خلاد بن عبد الرحمن، أن أبا الطفيل حدثه أنه سمع حذيفة يقول: يا أيها الناس، ألا تسألون فإن الناس كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، أفلا تسألوني عن ميت الأحياء فساق الحديث بطوله .

(وقال مرة: فعلمت أن من لا يعرف الشر لا يعرف الخير) ، هكذا أورده صاحب القوت .

وأخرج ابن عساكر في تاريخه من رواية أبي البحتري، قال حذيفة: لو حدثتكم بحديث لكذبني ثلاثة أثلاثكم أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا يسألونه عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، فقيل له: ما حملك على ذلك؟ قال: إن من اعترف بالشر وقع في الخير.

وأخرج ابن ماجه في الزهد وابن عساكر في التاريخ، عن حذيفة قال: كنتم تسألونا عن الرخاء، وكنت أسأله عن الشدة لأتقيها، قال الدارقطني في الإفراد تفرد به عيسى الحناط، عن الشعبي، عن حذيفة وتفرد به عبد الله بن سيف عنه .

وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده، ونعيم بن حماد في الفتن، عن حذيفة، قال: هذه فتن قد أطلت جباه البقر يهلك فيها أكثر الناس إلا من كان يعرفها قبل ذلك.

(وفي لفظ آخر: كان الناس يقولون: يا رسول الله، ما لمن يعمل كذا وكذا؟ يسألونه عن الأعمال، وفضائل الأعمال، وكنت أقول: يا رسول الله، ما يفسد كذا وكذا؟ فلما رآني أسأل عن آفات [ ص: 429 ] الأعمال خصني بهذا العلم) ، هكذا أورده صاحب القوت، ولم أر هذا السياق عند غيره، (وكان حذيفة رضي الله عنه أيضا قد خص بعلم المنافقين، وأفرد بمعرفة علم النفاق، وأسبابه ودقائق الفتن) ونص القوت: وكان حذيفة قد خص بعلم المنافقين، وأفرد بمعرفة علم النفاق، وسرائر العلم، ودقائق الفهم، وخفايا اليقين من بين الصحابة، فإن كان لفظ الفتن في سياق المصنف تصحيفا من الكاتب لمناسبة اليقين بالمقام، أو قصد بذلك المصنف، وهو صحيح أيضا فإنه كان أعطي علم الفتن كلها، كما أعطي علم اليقين، روى مسلم من رواية قيس بن أبي حازم، عن عمار أخبرني حذيفة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم، في أصحابي اثنا عشر منافقا منهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط.

وروى البخاري من رواية زيد بن وهب، عن حذيفة، قال: ما بقي من أصحاب هذه الأمة، ولا من المنافقين إلا أربعة، الحديث .

وروى أبو داود من رواية قبيصة بن ذؤيب، عن أبيه قال: قال حذيفة: ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوا، والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلاثمائة فصاعدا إلا قد سماه لنا باسمه، واسم أبيه، واسم قبيلته، وروى مسلم من رواية أبي إدريس الخولاني، كان يقول: قال حذيفة: والله إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة.

وروى البخاري ومسلم وأبو داود من رواية شقيق، عن حذيفة، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما ما ترك فيه شيئا يكون في مقامه إلى قيام الساعة إلا حدث حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه قد علمه أصحابي هؤلاء، الحديث .

قاله العراقي: قلت: وأخرج الإمام في المسند، ونعيم بن حماد في الفتن، والروياني بسند حسن عن حذيفة، قال: أنا أعلم الناس بكل فتنة، هي كائنة إلى يوم القيامة، وما لي أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسر إلي في ذلك شيئا لم يحدث به غيري، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدث مجلسا أنبأهم فيه عن الفتن، منها صغار ومن كبار، فذهب أولئك الرهط كلهم غيري.

وأخرج الدارقطني من رواية هبيرة، قال شهدت عليا، وسئل عن حذيفة، قال: سأل عن أسماء المنافقين، فأخبر بهم.

وأخرج الطبراني في الكبير من رواية صلة بن زفر، قال: قلنا لحذيفة: كيف عرفت أمر المنافقين، ولم يعرفه أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر ولا عمر؟ قال: إني كنت أسير خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنام على راحلته، فسمعت ناسا منهم يقولون: لو طرحناه عن راحلته فاندقت عنقه، فاسترحنا منه، فسرت بينهم وبينه، وجعلت أقرأ وأرفع صوتي فانتبه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: من هذا؟ قلت: حذيفة، قال: من هؤلاء؟ قلت: فلان وفلان حتى عددتهم، قال: وسمعت ما قالوا؟ قلت: نعم، ولذلك سرت بينك وبينهم، فقال: أما إنهم منافقون فلان وفلان لا تخبرن أحدا، قلت: وعن نافع بن جبير، قال: لم يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأسماء المنافقين الذين نخسوا به ليلة العقبة بتبوك غير حذيفة، وهم اثنا عشر رجلا، ليس منهم قريشي، وكلهم من الأنصار، أو من حلفائهم، وقد ذكرهم الزبير بن بكار، في كتاب النسب، فقال: مغيب بن قشير بن مليل، وهو الذي قال: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا، ووديعة بن ثابت، وهو الذي قال: إنما كنا نخوض ونلعب، وجد بن عبد الله بن نبتل، والحارث بن يزيد الطائي، وهو الذي سبق الوشل بتبوك، وأوس بن قبطي، وهو الذي قال: إن بيوتنا عورة، والجلاس بن سويد بن الصامت، قال: وبلغنا أنه تاب بعد ذلك، وسعد بن زرارة، وكان أصغرهم سنا وأخبثهم، وقيس بن فهد وسويد، وداعس، وقيس بن عمرو بن سهل، وزيد بن اللصيتن، وكان من يهود قينقاع وسلالة ابن الحمام، (فكان عمر وعثمان وأكابر الصحابة، رضي الله عنهم، يسألونه عن الفتن العامة والخاصة) ، ويرجعون إليه في العلم الذي خص به، فروى الأئمة الستة خلا أبا داود من رواية شقيق، عن حذيفة قال: كنا عند عمر، فقال: أيكم يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الفتنة؟ قلت: أنا، الحديث .

قاله العراقي: وأخرج أبو نعيم من رواية ربعي بن خراش، عن حذيفة أنه قدم من عند عمر فقال: لما جلسنا إليه سأل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: أيكم سمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الفتن التي تموج موج البحر، فأسكت القوم، وظننت أنه إياي يريد، قال: فقلت: أنا، قال: أنت لله أبوك؟ قلت: تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير، فساق الحديث، وفي آخره: وحدثته [ ص: 430 ] إن بينك وبينها بابا مغلقا، يوشك أن يكسر كسرا، فقال عمر: كسرا، لا أبا لك، قال الدارقطني في الإفراد: غريب، من حديث الشعبي عن ربعي تفرد به مجالد عنه، (وكان يسأل عن المنافقين فيخبر بأعداد من بقي، ولا يخبر بأسمائهم) ، ولفظ القوت: ويسألونه عن المنافقين، وهل بقي من ذكر الله سبحانه وأخبر عنهم، أحد فكان يخبر بأعدادهم ولا يذكر اهـ .

وذلك لما سبق في حديث الطبراني: لا تخبرن أحدا، (وكان عمر رضي الله عنه يسأله) ونص القوت يستكشفه، (عن نفسه هل يعلم فيه شيئا من النفاق فيبرئه من ذلك) ، ثم يسأله عن علامات النفاق، وآية المنافق فيخبر من ذلك بما يصلح مما أذن له فيه، ويستعفي عما لا يجوز أن يخبر به، فيعذر في ذلك، (وكان عمر رضي الله عنه إذا ادعى إلى جنازة، ليصلي عليها نظر فإن رأى حذيفة، صلى عليها وإلا تركها) ، هكذا أورده صاحب القوت، إلا أن فيه: فإن حضر حذيفة، وفيه: وإن لم ير حذيفة لم يصل عليها، وأخرج ابن عساكر في تاريخه، عن حذيفة، قال: مر بي عمر بن الخطاب، وأنا جالس في المسجد، فقال لي: يا حذيفة إن فلانا، قد مات فاشهده، ثم مضى حتى إذا كاد أن يخرج إلى المسجد التفت إلي فرآني، وأنا جالس فعرف فرجع، فقال: يا حذيفة أنشدك الله أمن القوم أنا؟ قلت: اللهم لا، ولن أبرئ أحدا بعدك، فرأيت عيني عمر جادتا، (وكان) حذيفة (يسمى صاحب السر) ، كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا سئلوا عن علم يقول أحدهم: تسألوني عن هذا، وصاحب السر فيكم يعني حذيفة، كذا في القوت، وروى البخاري أن أبا الدرداء قال لعلقمة: أليس فيكم أو منكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيرهن يعني حذيفة.




الخدمات العلمية