الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقال سهل التستري رضي الله عنه للعالم ثلاثة علوم : علم ظاهر يبذله لأهل الظاهر ، وعلم باطن لا يسعه إظهاره إلا لأهله ، وعلم هو بينه وبين الله تعالى لا يظهره لأحد .

وقال بعض العارفين : إفشاء سر الربوبية كفر .

التالي السابق


(وقال) أبو محمد (سهل) بن عبد الله (التستري) رحمه الله تعالى (للعالم ثلاثة علوم: علم ظاهر يبذله لأهل الظاهر، وعلم باطن لا يسعه إظهاره إلا لأهله، وعلم هو بينه وبين الله تعالى لا يظهره لأحد) هكذا أورد صاحب القوت عن سهل، إلا أنه قال: وعلم هو سر بين الله وبين العالم، هو حقيقة إيمانه، لا يظهره لأهل الظاهر، ولا لأهل الباطن (وقال بعض العارفين: إفشاء سر الربوبية كفر) هذا القول أورده صاحب القوت في الباب الثالث والثلاثين في آخر أخبار الصفات ما نصه: وحقيقة علم التوحيد باطن المعرفة، وهو سبق المعروف إلى من به تعرف، بصنعة مخصوصة بحبيب مقرب مخصوص، ولا يسع معرفة ذلك الكافة، وإفشاء سر الربوبية كفر، وقال بعض العارفين: من صرح بالتوحيد وأفشى الوحدانية فقتله أفضل من إحياء غيره. اهـ .

وقد علم من هذا السياق أن المراد ببعض العارفين في قول المصنف هو أبو طالب المكي صاحب القوت، وقد أنكر على المصنف هذا القول في زمنه، فأجاب عنه في كتابه "الإملاء" ما نصه: فصل، وأما معنى "إفشاء سر الربوبية كفر"، فيخرج على وجهين: أحدهما: أن يراد به كفر دون كفر، سمي بذلك تغليظا لما أتى به المفشي، وتعظيما لما ارتكبه، ويعترض هذا بأن يقال: لا يصح أن يسمى هذا كفرا; لأنه ضد الكفر، إذ الكافر الذي سمي هذا على معناه ساتر، وهذا المفشي للسر ناشر، وأين النشر من الستر والإظهار من التغطية، والإعلان من الكتم، واندفاع هذا بين بأن يقال: ليس الكفر الشرعي تابع الاشتقاق، وإنما هو حكم لمخالفة الأمر وارتكاب النهي، فمن رد إحسان محسن أو جحد نعمة متفضل فيقال له: كافر; لجهتين، إحداهما: من جهة الاشتقاق، ويكون إذ ذاك اسما؛ بناء على وصف، والثانية: من جهة الشرع، ويكون إذ ذاك حكما يوجب عقوبة، والشرع قد ورد لشكر المنعم، فافهم، لا تذهب مع الألفاظ، ولا تحجبك التسميات، وتفطن لخداعها، واحترس من استدراجها، فإذا من أظهر ما أمر بكتمه كمن كتم ما أمر بنشره، وفي مخالفة الأمر فيهما حكم واحد على هذا الاعتبار .

ويدل على ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تحدثوا الناس بما لم تصله عقولهم"، وفي ارتكاب النهي عصيان، ويسمى في باب القياس على المذكور كفرانا .

والوجه الثاني: أن يكون معناه كفرا للسامع دون المخبر، بخلاف الوجه الأول، ويكون هذا مطابقا لحديث: "لاتحدثوا الناس بما لم تصله عقولهم، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟"، فمن حدث أحدا بما لم يصل إليه عقله ربما سارع إلى التكذيب، وهو الأكثر، ومن كذب بقدرة الله تعالى أو بما أوجد بها فقد كفر، ولو لم يقصد الكفر فإن أكثر اليهود والنصارى وسائر النحل ما قصدت الكفر ولا تظنه بأنفسها، وهم كفار بلا ريب، وهذا وجه واضح قريب، ولا يلتفت إلى ما مال إليه بعض من لا يعرف وجوه التأويل، ولا يعقل كلام أولي الحكم والراسخين في العلم، حتى ظن أن قائل ذلك إن أراد به الكفر الذي هو نقيض الإيمان والإسلام يتعلق بمخبره ويلحق قائله، وهذا لا يخرج إلا على مذاهب أهل الأهواء الذين يكفرون بالمعاصي، وأهل السنة لا يرضون بذلك، وكيف يقال لمن آمن بالله واليوم الآخر وعبد الله بالقول الذي ينزهه والعمل الذي يقصد به التعبد لوجهه، والأمر الذي يستزيده إيمانا ومعرفة، ثم يكرمه الله على ذلك بفوائد المزيد، وينيله ما يشرف من المنح، ويريه أعلام الرضا، ثم يكفره أحد بغير شرع ولا قياس عليه؟ والإيمان لا يخرج عنه إلا بنبذه واطراحه وتركه واعتقاد ما يتم الإيمان معه، ولا يحصل بمفارقته .

وليس في إفشاء الولي شيء مما يناقض الإيمان، اللهم إلا أن يريد بإفشائه وقوع الكفر من السامع له، فهذا عابث متمرد وليس بولي، ومن أراد من خلق الله أن يكفروا بالله فهو لا محالة كافر، وعلى هذا يخرج قوله تعالى: ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ، ثم إنه من سب أحدا منهم على معنى ما يجد له من العداوة والبغضاء قيل له: أخطأت وأثمت من غير تكفير، وإن كان إنما فعل ذلك ليسمع سب الله وسب رسوله فهو كافر بالإجماع. اهـ .




الخدمات العلمية