الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن أبوابه العظيمة: التعصب للمذاهب والأهواء والحقد على الخصوم، والنظر إليهم بعين الازدراء والاستحقار ، وذلك مما يهلك العباد والفساق جميعا ، فإن الطعن في الناس ، والاشتغال بذكر نقصهم صفة مجبولة في الطبع من الصفات السبعية فإذا خيل إليه الشيطان أن ذلك هو الحق ، وكان موافقا لطبعه غلبت حلاوته على قلبه ، فاشتغل به بكل همته ، وهو بذلك فرحان مسرور يظن ، أنه يسعى في الدين ، وهو ساع في اتباع الشياطين ، فترى الواحد منهم يتعصب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو آكل الحرام ومطلق اللسان بالفضول والكذب ومتعاط لأنواع الفساد ، ولو رآه أبو بكر لكان أول عدو له إذ موالي أبي بكر من أخذ سبيله وسار بسيرته وحفظ ما بين لحييه وكان من سيرته رضي الله عنه أن يضع حصاة في فمه ليكف لسانه عن الكلام فيما لا يعنيه فأنى لهذا الفضولي أن يدعي ولاءه وحبه ولا يسير بسيرته .

وترى فضوليا آخر يتعصب لعلي رضي الله عنه وكان من زهد علي وسيرته أنه لبس في خلافته ثوبا اشتراه بثلاثة دراهم ، وقطع رأس الكمين إلى الرسغ ونرى الفاسق لابسا الثياب الحرير ومتجملا بأموال اكتسبها من حرام وهو يتعاطى حب علي رضي الله عنه ويدعيه ، وهو أول خصمائه يوم القيامة وليت شعري من أخذ ولدا عزيزا لإنسان هو قرة عينه وحياة قلبه ، فأخذ يضربه ويمزقه وينتف شعره ويقطعه بالمقراض ، وهو مع ذلك يدعي حب أبيه وولاءه ، فكيف يكون حاله عنده .

ومعلوم أن الدين والشرع كانا أحب إلى أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة رضي الله عنهم من الأهل والولد ، بل من أنفسهم والمقتحمون لمعاصي الشرع هم الذين يمزقون الشرع ويقطعونه بمقاريض الشهوات ويتوددون به إلى عدو الله إبليس وعدو أوليائه ، فترى كيف يكون حالهم يوم القيامة عند الصحابة وعند أولياء الله تعالى لا ، بل لو كشف الغطاء وعرف هؤلاء ما تحبه الصحابة في أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لاستحيوا أن يجروا على اللسان ذكرهم مع قبح أفعالهم ثم إن الشيطان يخيل إليهم أن من مات محبا لأبي بكر وعمر فالنار لا تحوم حوله ويخيل إلى الآخر أنه إذا مات محبا لعلي لم يكن عليه خوف ، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لفاطمة رضي الله عنها وهي بضعة منه اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئا وهذا مثال أوردناه من جملة الأهواء .

وهكذا حكم المتعصبين للشافعي وأبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم من الأئمة فكل من ادعى مذهب إمام وهو ليس يسير بسيرته فذلك الإمام هو خصمه يوم القيامة ؛ إذ يقول له كان مذهبي العمل دون الحديث باللسان وكان الحديث باللسان لأجل العمل لا لأجل الهذيان فما بالك خالفتني في العمل والسيرة التي هي مذهبي ومسلكي الذي سلكته وذهبت فيه إلى الله تعالى ثم ادعيت مذهبي كاذبا ، وهذا مدخل عظيم من مداخل الشيطان ، قد أهلك به أكثر العالم ، وقد سلمت المدارس لأقوام قل من الله خوفهم ، وضعفت في الدين بصيرتهم ، وقويت في الدنيا رغبتهم واشتد على الاستتباع حرصهم ، ولم يتمكنوا من الاستتباع وإقامة الجاه إلا بالتعصب فحبسوا ذلك في صدورهم ولم ينبهوهم على مكايد الشيطان فيه ، بل نابوا عن الشيطان في تنفيذ مكيدته فاستمر الناس عليه ونسوا أمهات دينهم ، فقد هلكوا وأهلكوا فالله تعالى يتوب علينا وعليهم ، وقال الحسن بلغنا أن إبليس قال : سولت لأمة محمد صلى الله عليه وسلم المعاصي فقصموا ظهري بالاستغفار ، فسولت لهم ذنوبا لا يستغفرون الله تعالى منها وهي الأهواء وقد صدق الملعون ، فإنهم لا يعلمون أن ذلك من الأسباب التي تجر إلى المعاصي ، فكيف يستغفرون منها .

ومن عظيم حيل الشيطان أن يشغل الإنسان عن نفسه بالاختلافات الواقعة بين الناس في المذاهب والخصومات ، قال عبد الله بن مسعود جلس قوم يذكرون الله تعالى فأتاهم الشيطان ليقيمهم عن مجلسهم ويفرق بينهم ، فلم يستطع فأتى رفقة أخرى يتحدثون بحديث الدنيا فأفسد بينهم ، فقاموا يقتتلون وليس إياهم يريد فقام الذين يذكرون الله تعالى .

فاشتغلوا بهم يفصلون بينهم فتفرقوا عن مجلسهم وذلك مراد الشيطان منهم .

التالي السابق


(ومن أبوابه العظيمة التعصب للمذاهب والأهواء) المختلفة، (والحقد) أي: إضمار العداوة (على الخصوم، والنظر إليهم بعين الازدراء والاستحقار ، وذلك مما يهلك العباد والفساق جميعا ، فالطعن في الناس ، والاشتغال بذكر نقصهم صفة مجبولة في الطبع من الصفات السبعية) البهيمية (فإذا خيل إليه الشيطان) أي: ألقى في خياله (أن ذلك هو الحق ، وكان موافقا لطبعه غلبت حلاوته على قلبه ، فاشتغل به بكل همه ، وهو بذلك فرحان مسرور، ويظن) في نفسه (أنه يسعى في الدين، وهو ساع في اتباع الشيطان ، فترى الواحد منهم يتعصب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه) أي: في محبته وتفضيله على غيره من الصحابة (وهو آكل الحرام ومطلق اللسان بالفضول) والهذيان (والكذب ومتعاط لأنواع الفساد ، ولو رآه أبو بكر) رضي الله عنه، (لكان أول عدوه) أي: أول من يعاديه وينكر عليه، (إذ موالي أبي بكر) رضي الله عنه (من أخذ سبيله) وسلك مناهجه (وسار بسيرته وحفظ ما بين لحييه) أي: من أكل الحرام، والكلام فيما لا يعني، (وكان من سيرته رضي الله عنه أن يضع حصاة في فمه ليكف لسانه عن الكلام فيما لا يعنيه) ومن سيرته أيضا أنه كان لا يأكل إلا من حل ، ولا يستقر في جوفه فيما فيه شبهة (فأنى لهذا الفضولي أن يدعي ولاءه وحبه) وهو يأكل الحرام ويتكلم بما لا يعني .

(وترى فضوليا آخر يتعصب لعلي) رضي الله عنه، ويذهب إلى حبه وتفضيله على غيره (وكان من زهد علي) رضي الله عنه (وسيرته أن لبس في خلافته ثوبا اشتراه بثلاثة دراهم، وقطع رأس الكمين إلى الرسغ) ، وقال أبو نعيم في الحلية: حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثنا عبد الله بن مطيع ، حدثنا هشيم ، عن إسماعيل بن سالم ، عن أبي سعيد الأزدي قال: رأيت عليا أتى السوق وقال: من عنده قميص صالح بثلاثة دراهم؟ فقال رجل: عندي ، فجاء به فأعجبه ، فقال: لعله خير من ذلك ، قال: لا ذلك ثمنه ، قال: فرأيت عليا يقرض رباط الدراهم من ثوبه ، فأعطاه فلبسه ، وإذا هو يفضل من أطراف أصابعه ، فأمر به فقطع ما فضل من أطراف أصابعه، (وترى الفاسق لابسا لثياب الحرير ومتجملا بأموال اكتسبها من حرام

[ ص: 281 ] وهو يتعاطى حب علي) رضي الله عنه (ويدعيه ، وهو أول خصمائه يوم القيامة وليت شعري من أخذ ولدا عزيزا لإنسان هو قرة عينه وحياة قلبه ، فأخذ يضربه ويمزقه وينتف شعره ويقطعه بالمقراض ، وهو مع ذلك يدعي حب أبيه وولاءه ، فكيف يكون حاله عنده) أيقربه عنده ويصدق حبه له أم يبعده ويبغضه؟ (ومعلوم أن الدين والشرع كان أحب) الأشياء (إلى أبي بكر وعلي) رضي الله عنهما ، بل (و) إلى (سائر الصحابة رضي الله عنهم من الأهل والولد ، بل من أنفسهم) كما هو ظاهر لمن سبر أخبارهم وعرف سيرتهم (والمقتحمون لمعاصي الشرع هم الذين يمزقون الشرع ويقطعونه بمقاريض الشهوات ويتوددون به إلى عدو الله إبليس وعدو أوليائه ، فترى كيف يكون حالهم يوم القيامة عند) لقاء (الصحابة وعند) لقاء (أولياء الله تعالى ، بل لو كشف الغطاء وعرف هؤلاء ما تحبه الصحابة في أمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لاستحيوا أن يجروا على اللسان ذكرهم من قبح أفعالهم) وسوء سيرتهم، (ثم الشيطان يخيل إليهم أن من مات محبا لأبي بكر وعمر) رضي الله عنهما ( فالنار لا تحوم حوله) أي: لا تقربه، (ويخيل إلى الآخر أنه إذا مات محبا لعلي) رضي الله عنه (لم يكن عليه خوف، وهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لفاطمة رضي الله عنها وهي بضعة منه) كما رواه الشيخان وأحمد والحاكم من حديث المسور بن مخرمة: " فاطمة بضعة مني يقبضني ما يقبضها ويبسطني ما يبسطها " وعند البخاري في التاريخ: " فمن أغضبها فقد أغضبني ، يا فاطمة (اعملي) لله خيرا (فإني لا أغني عنك من الله شيئا) يوم القيامة " قال العراقي : متفق عليه من حديث أبي هريرة . ا هـ .

قلت: ورواه أيضا البيهقي في السنن بلفظ: " يا فاطمة بنت محمد، اشتري نفسك من النار؛ فإني لا أملك لك شيئا " ورواه البزار من حديث سماك بن حذيفة عن أبيه بلفظ: " يا فاطمة بنت رسول الله اعملي خيرا ، فإني لا أغني عنك من الله شيئا " (وهذا مثال أوردناه من جملة الأهواء ، وهكذا حكم المتعصبين للشافعي وأبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم من الأئمة) المتبوعين رضي الله عنهم (فكل من ادعى مذهب إمام وهو ليس يسير بسيرته) المعهودة عنه من زهد في الدنيا وتقوى من الله وإخلاص في العمل، (فذلك الإمام هو خصمه يوم القيامة؛ إذ يقول له كان مذهبي العمل) بالعلم الذي تلقفته (دون الحديث باللسان و) إنما (كان الحديث باللسان لأجل العمل) به (لا لأجل الهذيان) والتعصبات (فما بالك خالفتني في العمل والسيرة التي هي مذهبي ومسلكي الذي سلكته وذهبت إليه) وحثثت عليه (ثم ادعيت مذهبي كاذبا، وهذا مدخل عظيم من مداخل الشيطان ، قد أهلك به أكثر العالم ، وقد سلمت المدارس لأقوام قل من الله خوفهم ، وضعفت في الدين بصيرتهم ، وقويت في الدنيا رغبتهم) وأطماعهم (واشتد على الاستتباع حرصهم ، ولم يتمكنوا من الاستتباع وإقامة الجاه بالتعصب) لمذاهبهم واعتقاداتهم (فحبسوا ذلك في صدورهم ولم ينبهوهم على مكايد الشيطان) وخدعه (فيه ، بل نابوا عن الشيطان في تنفيذ مكايده بهم فاستمر الناس عليه ونسوا أمهات دينهم ، فقد هلكوا) بأنفسهم (وأهلكوا) غيرهم (والله تعالى يتوب علينا ، وقال الحسن) البصري رحمه الله تعالى: (بلغنا أن إبليس قال: سولت لأمة محمد المعاصي) أي: زينتها في أعينهم (فقطعوا ظهري

[ ص: 282 ] بالاستغفار، فسولت لهم ذنوبا لا يستغفرون الله منها وهي الأهواء) أي: اتباع ما تهواه نفوسهم فظنوها عبادة لا ذنوبا، (وقد صدق الملعون، فإنهم لا يعلمون أن ذلك من الأسباب التي تجر إلى المعاصي ، فكيف يستغفرون منها) وكل ما جر إلى المعصية فهو معصية ، ولو علموا أنه سبب للمعصية لتابوا منه ، ولكن الشيطان أعمى أبصارهم عن فهم ذلك .

(ومن عظيم حيل الشيطان أن يشغل الإنسان عن نفسه بالاختلافات الواقعة بين الناس في المذاهب والخصومات ، قال عبد الله بن مسعود) رضي الله عنه (جلس قوم يذكرون الله تعالى فأتاهم الشيطان ليقيمهم عن مجلسهم ويفرق بينهم، فلم يستطع) لقوة حالهم في الذكر (فأتى رفقة أخرى) بالقرب من ذلك المجلس (يتحدثون بحديث الدنيا فأفسد بينهم ، فقاموا يقتتلون وليس إياهم يريد) وإنما يريد تفرقة أولئك القوم الذين يذكرون الله، (فقام الذين يذكرون الله فاشتغلوا يفصلون بينهم) ويصالحونهم، (فتفرقوا عن مجلسهم) وتركوا ذكر الله تعالى، (وذلك مراد الشيطان منهم) وقد ناله ، ويرشح له ما رواه أحمد ومسلم والترمذي من حديث جابر: إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون ولكن هو في التحريش بينهم أي يسعى في إغراء بعضهم على بعض وحملهم على الفتن والحروب والشحناء ، وهذا من دقائق دسائسه .




الخدمات العلمية