الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقال بعضهم : للربوبية سر لو أظهر لبطلت النبوة ، وللنبوة سر لو كشف لبطل العلم وللعلماء بالله ، سر لو أظهروه لبطلت الأحكام وهذا القائل إن لم يرد بذلك بطلان النبوة في حق الضعفاء ؛ لقصور فهمهم فما ذكره ليس بحق ، بل الصحيح أنه لا تناقض فيه ، وأن الكامل من لا يطفي نور معرفته نور ورعه ، وملاك الورع النبوة .

التالي السابق


(وقال بعضهم:) أي: العارفين، ومثله في القوت أيضا، ولكن سياق المصنف في الإملاء الآتي ذكره صريح في أنه قول سهل التستري، وهو محل تأمل (للربوبية سر لو ظهر لبطلت النبوة، وللنبوة سر لو كشف بطل العلم، وللعلم سر لو [ ص: 68 ] ظهر لبطلت الأحكام) وهذا القول أيضا أورده صاحب القوت، إلا أنه قال: وللعلماء بالله سر لو أظهره الله تعالى لبطلت الأحكام، ثم قال: فقوام الإيمان واستقامة الشرع بكتم السر، به وقع التدبير وعليه انتظم الأمر والنهي، والله غالب على أمره. اهـ .

(وهذا القائل) من العارفين (إن لم يرد بذلك بطلان النبوة في حق الضعفاء؛ لقصور فهمهم) عن إدراك المعارف الخفية (فما ذكره ليس بحق، بل الصحيح أنه لا تناقض، وأن الكامل من لا يطفئ نور معرفته نور ورعه، وملاك الورع النبوة) قال المصنف في الإملاء: فإن قيل: فما معنى قول سهل الذي ينسب إليه: للإلهية سر، إلخ. وجاء في الإحياء على أثر هذا القول: وقائل هذا إن لم يرد به بطلان النبوة في حق الضعفاء فما قاله ليس بحق، فإن الصحيح لا يتناقض، والكامل من لا يطفئ نور معرفته نور ورعه، وهذا وإن لم يكن من الأسئلة المرسومة فهو متعلق منها بما فرع من الكلام فيه آنفا، وناظر إليه، إذ ما أدى إفشاؤه إلى بطلان النبوة والأحكام فهو كفر، والجواب: إن الذي قاله -رحمه الله- وإن كان مستعجما في الظاهر فهو قريب المسلك، بادي الصحة للمتأمل الذي يعرف مصادر أغراضهم ومسالك أقوالهم .



وسر الألوهية الذي بمعرفته يستحق النبوة من وصل إلى الله باليقين الذي لولاه لم يكن نبيا لا يخلو إما أن يكون انكشافه من الله تعالى مما يطلع على القلوب من الأنوار التي كانت غالبة عنها بأن كانت القلوب ضعيفة طرأ عليها من الدهش والاصطلام والحيرة والتيه ما يبهر العقول ويفقد الإحساس ويقطع عن الدنيا وما فيها؛ وذلك لضعفه، ومن انتهى إلى هذه الحالة فتبطل النبوة في حقه أن يعرفها أو يعقل ما جاء من قبلها، إذ قد شغله عنها ما هو أعظم لديه منها، وربما كان ذلك سبب موته لعجزه عن حمل ما يطرأ عليه، كما حكي أن شابا من سالكي طريق الآخرة عرض عليه أبو يزيد، ولم يره من قبل، فلما نظر إليه الشاب مات لساعته، فقيل له في ذلك، فقال: كان في صدره أمر لم تنكشف له حقيقته، فلما رآني انكشف له، وكان في مقام الضعفاء من المريدين، فلم يطق حمله، فمات به .

وإما أن يكون انكشافه من عالم به على جهة الخبر عنه؛ فتبطل النبوة في حق المخبر، حيث نهي عن الإفشاء فأفشى، وأمر ألا يتحدث فلم يفعل، فخرج بهذه المعصية عن طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها، فلهذا قيل في ذلك: بطلت النبوة في حقه بإخباره، فإن قلت: فلم لا تكفروه على هذا الوجه إذا بطلت النبوة في حقه بإخباره؛ قلنا: لم يبطل في حقه جميعها، وإنما بطل في حقه منها ما خالف الأمر الثابت من قبلها، ويعد مقوله من الكلم إغلاء وتغليظا لحق الإفشاء، وقد سبق الكلام عليه في معنى إفشاء سر الربوبية، وأما سر النبوة الذي أوجب بطلان العلم لمن رزقها أو رزق معرفتها على الجملة، إذ النبوة لا يعرفها بالحقيقة إلا نبي، فإن انكشف ذلك لقلب أحد بطل العلم في حقه باعتبار المحبة له بالأمر المتوجه عليه بطلبه والبحث عنه والتفكر، فيكون كالنبي إذا سئل عن شيء أو وقعت له واقعة لم يحتج إلى النظر فيها ولا إلى البحث عنها، بل ينتظر ما عود من كشف الحقائق بإخبار ملك أو ضرب مثل يفهم إياه، أو اطلاع على اللوح المحفوظ، أو إلقاء في روع، فيعود ذلك أصلا في العلم، ونسخا له ومعنى يقيس عليه غيره، وإما أن يكون كشفه بخبر ممن رزق علم ذلك، كان بطلان العلم في حق المخبر إذا أفشاه لغير أهله وأهداه لمن لا يستحقه .

كما روي أن عيسى -عليه السلام- قال: "لا تعلقوا الدر في أعناق الخنازير"، وإنما أراد ألا يباح العلم لغير أهله، وقد جاء: لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم، ولا تضعوها عند غير أهلها فتظلموها .

وأما سر العلم الذي يوجب كشفه بطلان الأحكام فإن كان كشفه من الله تعالى لقلوب ضعيفة بطلت الأحكام في حقها; لما تطلع عليه في ذلك السر من معرفة مآل الأشياء ومواقف الخلق وكشف أسرار العباد، وما بطن من المقدور، فمن عرف نفسه مثلا أنه من أهل الجنة لم يصل ولم يصم ولم يتعب نفسه في خير، وكذلك لو انكشف له أنه من أهل النار كمل انهماكه، فلا يحتاج إلى تعب زائد ولا نصب مكابد، فلو عرف كل واحد عاقبته ومآله بطلت الأحكام الجارية عليه، وإن كان كشفها من مخبر استروح الضعيف إلى ما يسمع من ذلك، فيتعطل وينخرم حاله وينحل قيده، وبعد هذا فلا يحمل كلام سهل -رحمه الله- [ ص: 69 ] إلا على ما تعذر، لا على ما يوجد، ولذلك جعله مقرونا بحرف "لو" الدال على امتناع لامتناع غيره، كما يقال: لو كان للإنسان جناحان لطار، ولو كان للسماء درج لصعد إليها، ولو كان البشر ملكا لفقد الشهوة، فعلى هذا يخرج كلام سهل -رحمه الله- في ظاهر الأمر، والله أعلم. اهـ .




الخدمات العلمية