الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ولكن إذا انجر الكلام إلى تحريك خيال في مناقضة الظاهر للباطن فلا بد من كلام وجيز في حله .

فمن قال : إن الحقيقة تخالف الشريعة أو الباطن يناقض الظاهر فهو إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان بل الأسرار التي يختص بها المقربون بدركها ولا يشاركهم الأكثرون في علمها ويمتنعون عن إفشائها إليهم ترجع إلى خمسة أقسام .

القسم الأول : أن يكون الشيء في نفسه دقيقا تكل أكثر الأفهام عن دركه فيختص بدركه الخواص وعليهم أن لا يفشوه إلى غير أهله فيصير ذلك فتنة عليهم حيث تقصر أفهامهم عن الدرك .

وإخفاء سر الروح ، وكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيانه من هذا القسم فإن حقيقته بما تكل الأفهام عن دركه وتقصر الأوهام عن تصور كنهه .

ولا تظنن أن ذلك لم يكن مكشوفا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فإن من لم يعرف الروح فكأنه لم يعرف نفسه ومن لم يعرف نفسه ، فكيف يعرف ربه سبحانه ولا يبعد أن يكون ذلك مكشوفا لبعض الأولياء والعلماء وإن لم يكونوا أنبياء ، ولكنهم يتأدبون بآداب الشرع ، فيسكتون عما سكت عنه بل في صفات الله عز وجل من الخفايا ما تقصر أفهام الجماهير عن دركه ولم يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم منها إلا الظواهر للأفهام من العلم والقدرة وغيرهما حتى فهمها الخلق بنوع مناسبة توهموها إلى علمهم وقدرتهم إذ كان لهم من الأوصاف ما يسمى علما وقدرة ، فيتوهمون ذلك بنوع مقايسة .

ولو ذكر من صفاته ما ليس للخلق مما يناسبه بعض المناسبة شيء لم يفهموه بل لذة الجماع إذا ذكرت للصبي أو العنين لم يفهمها إلا بمناسبة إلى لذة المطعوم الذي يدركه ولا يكون ذلك فهما على التحقيق .

التالي السابق


(ولكن إذا انجر الكلام) والبحث (إلى تحريك خيال) وإثارة شبهة (في مناقضة الظاهر للباطن) في بادئ الرأي (فلا بد من) إيراد (كلام وجيز) مختصر (في حله) والكشف عن مظانه (فمن قال: إن الحقيقة تخالف الشريعة أو) زعم أن (الباطن يناقضه الظاهر فهو إلى الكفر) والضلال (أقرب منه إلى الإيمان) والرشد (بل الأسرار التي تختص بها المقربون) إلى الحضرات الإلهية (بدركها) ومعرفتها وإحاطتها (ولا يشاركهم الأكثرون) من العلماء (في علمها) أي: معرفتها (ويمنعون من إفشائها) وإظهارها لهم و (إليهم) ؛ فإنها (ترجع إلى خمسة أقسام) بالحصر والاستقصاء وما عداها مما تسبق إليه الأذهان راجع إليها عند التأمل التام .

(الأول: أن يكون الشيء في نفسه) أي: حد ذاته (دقيقا) خفيا لشدة خفائه (تكل أكثر الأفهام) وتمنع (عن دركه) على حقيقته (فيختص بدركه الخواص) من عباد الله الذين اختصهم الله لقربه، وجعلهم من أهل الاختصاص، وهم المفتوح عليهم باب الواردات الإلهية (وعليهم) أنهم إذا كشف لهم عن سر ذلك الشيء (ألا يفشوه إلى غير أهله) الذي ليس من أرباب ذلك الدرك (فيصير) ذلك الإفشاء (فتنة عليهم) ومصيبة لهم (حيث تقصر أفهامهم) الجامدة (عن الدرك، وإخفاء سر الروح، وكف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيانه من هذا القسم) .

أخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود حين سأله اليهود عن الروح قال: "فأمسك النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يرد عليهم شيئا" الحديث، وقال ابن عباس: قالت اليهود للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أخبرنا ما الروح؟ وكيف تعذب الروح التي في الجسد وإنما الروح من أمر الله؟ ولم يكن نزل إليه فيه شيء، فلم يجبهم، فأتاه جبريل -عليه السلام- بالآية ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ؛ (فإن [ ص: 70 ] حقيقته مما تكل الأفهام عن دركه وتقصر الأوهام عن تصور كنهه) ولذلك اختلف فيه الاختلاف الكثير على ما تقدم بيانه، وتفصيله في آخر كتاب العلم .

(ولا تظنن أن ذلك لم يكن مكشوفا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فإن من لم يعرف الروح) الذي به قوام كل ذات (فكأنه لم يعرف نفسه، فكيف يعرف ربه) وعليه يخرج قولهم: من عرف نفسه فقد عرف ربه (ولا يبعد أن يكون ذلك مكشوفا) أيضا (لبعض الأولياء) العارفين بما ألقي في روعهم بالنفث والإلهام، بل (العلماء) الراسخين (وإن لم يكونوا أنبياء، ولكنهم يتأدبون بآداب الشرع، فيسكتون عما سكت عنه) أي: من حيث إنه -صلى الله عليه وسلم- أمسك عن الإخبار عن الروح وماهيته بإذن الله تعالى ووحيه، وهو -صلى الله عليه وسلم- معدن العلم وينبوع الحكمة، لا يسوغ لغيره الخوض فيه والإشارة إليه، لا جرم لما تقاضت النفس الإنسانية المتطلعة إلى الفضول، المتشوفة إلى المعقول، المتحركة بوضعها إلى كل ما أمرت بالسكوت فيه، والمستورة بحرصها إلى كل تحقيق وكل تمويه، وأطلقت عنان النظر في مسارح الفكر، وخاضت غمرات ماهية الروح، تاهت في التيه، وتنوعت آراؤها فيه، ولم يوجد الاختلاف بين أرباب النقل والعقل في شيء كالاختلاف في ماهية الروح، ولو لزمت النفوس حدها معترفة بعجزها كان ذلك أجدر بها وأولى .

(بل في صفات الله تعالى من الخفايا) أي: الأسرار الخفية (ما تقصر أفهام الجماهير) أي: كثير من الناس (عن دركه) ومعرفته (ولم يذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منها إلا الظواهر للأفهام من العلم والقدرة وغيرهما) من الصفات (حتى فهمها الخلق بنوع مناسبة توهموها إلى علمهم وقدرتهم إذا كان لهم من الأوصاف ما يسمى علما وقدرة، فيتوهمون ذلك بنوع مقايسة، ولو ذكر من صفاته) -عز وجل- (مما ليس للخلق مما يناسبه بعض المناسبة شيء لم يفهموه) ولنفر الناس عن قبوله، ولبادروا بالإنكار وقالوا: هذا عين المحال، ووقعوا في التعطيل في حق الكافة، إلا الأقلين، وقد بعث -صلى الله عليه وسلم- داعيا للخلق إلى سعادة الآخرة، ورحمة للعالمين، فكيف ينطق بما فيه هلاك الأكثرين؟ (بل لذة الجماع إذا ذكرت للصبي) لم يدركها (أو العنين) هو الذي لا يقدر على إتيان النساء، أو لا يشتهيهن (لم يفهمها إلا بمناسبة لذة المطعوم الذي يدركه) كالسكر أو العسل مثلا (ولا يكون ذلك فهما على التحقيق) كما ينبغي؛ فإن اللذة التي تحصل من الجماع خلاف اللذة التي تحصل من استعمال السكر مثلا .




الخدمات العلمية