الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الوظيفة الثانية في وقت الأكل ومقدار تأخيره ، وفيه أيضا أربع درجات .

; الدرجة العليا أن يطوي ثلاثة أيام ، فما فوقها ، وفي المريدين من رد الرياضة إلى الطي ، لا إلى المقدار ، حتى انتهى بعضهم إلى ثلاثين يوما وأربعين يوما ، وانتهى إليه جماعة من العلماء يكثر عددهم منهم محمد بن عمرو القرني وعبد الرحمن بن إبراهيم ورحيم وإبراهيم التيمي وحجاج بن فرافصة وحفص العابد المصيصي ، والمسلم بن سعيد وزهير وسليمان الخواص وسهل بن عبد الله التستري وإبراهيم بن أحمد الخواص وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يطوي ستة أيام ، وكان عبد الله بن الزبير يطوي سبعة أيام ، وكان أبو الجوزاء ، صاحب ابن عباس يطوي سبعا وروي أن الثوري وإبراهيم بن أدهم كانا يطويان ثلاثا ثلاثا كل ذلك كانوا يستعينون بالجوع على طريق الآخرة .

قال بعض العلماء من طوى لله أربعين يوما ظهرت له قدرة من الملكوت أو كوشف ببعض الأسرار الإلهية وقد حكي أن بعض أهل هذه الطائفة مر براهب فذاكره بحاله وطمع في إسلامه ، وترك ما هو عليه من الغرور ، فكلمه في ذلك كلاما كثيرا ، إلى أن قال له الراهب : إن المسيح كان يطوي أربعين يوما ، وإن ذلك معجزة لا تكون إلا لنبي أو صديق فقال له الصوفي فإن : طويت خمسين يوما تترك ما أنت عليه وتدخل في دين الإسلام وتعلم أنه حق وأنك على باطل ? قال : نعم . فجلس لا يبرح إلا حيث يراه ، حتى طوى خمسين يوما ثم قال : وأزيدك أيضا . فطوى إلى تمام الستين فتعجب الراهب منه وقال : ما كنت أظن أن أحدا يجاوز المسيح فكان ذلك سبب إسلامه .

وهذه درجة عظيمة قل من يبلغها إلا مكاشف محمول شغل بمشاهدة ما قطعه عن طبعه وعادته ، واستوفى نفسه في لذته وأنساه جوعته وحاجته .

الدرجة الثانية أن يطوي يومين إلى ثلاثة وليس ذلك خارجا عن العادة ، بل هو قريب يمكن الوصول ، إليه بالجد والمجاهدة .

الدرجة الثالثة ، وهي أدناها : أن يقتصر في اليوم والليلة على أكلة واحدة ، وهذا هو الأقل ، وما جاوز ذلك إسراف ومداومة للشبع حتى لا يكون له حالة جوع وذلك فعل المترفين ، وهو بعيد من السنة فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تغدى لم يتعش ، وإذا تعشى لم يتغد وكان السلف يأكلون في كل يوم أكلة وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة : إياك والسرف ، فإن أكلتين في يوم من السرف وأكلة واحدة في كل يومين إقتار ، وأكلة في كل يوم قوام بين ذلك ، وهو المحمود في كتاب الله عز وجل .

ومن اقتصر في اليوم على أكلة واحدة فيستحب له أن يأكلها سحرا قبل طلوع الفجر ؛ فيكون أكله بعد التهجد ، وقبل الصبح ، فيحصل له جوع النهار للصيام وجوع الليل ؛ للقيام ، وخلو القلب لفراغ المعدة ، ورقة الفكر واجتماع الهم وسكون النفس إلى المعلوم ، فلا تنازعه قبل وقته وفي حديث عاصم بن كليب عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قيامكم هذا قط ، وإن كان ليقوم حتى تورم قدماه وما واصل وصالكم هذا قط ، غير أنه قد أخر الفطر إلى السحر .

وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يواصل إلى السحر .

فإن كان يلتفت قلب الصائم بعد المغرب إلى الطعام ، وكان ذلك يشغله عن حضور القلب في التهجد فالأولى أن يقسم طعامه نصفين فإن ، كان رغيفين مثلا أكل رغيفا عند الفطر ، ورغيفا عند السحر ; لتسكن نفسه ويخف بدنه عند التهجد ولا يشتد بالنهار جوعه ؛ لأجل التسحر ، فيستعين بالرغيف الأول على التهجد ، وبالثاني على الصوم ومن كان يصوم يوما ويفطر يوما فلا بأس أن يأكل كل يوم فطره وقت الظهر ، ويوم صومه وقت السحر فهذه الطرق في مواقيت الأكل وتباعده وتقاربه .

التالي السابق


(الوظيفة الثانية في وقت الأكل ومقدار تأخيره، وفيه أربع درجات ; الدرجة العليا أن يطوي ثلاثة أيام، فما فوقها، سبعة وعشرة وخمسة عشر) يوما، وصاحب هذه الدرجة لا يعرض للأقوات، ولكن يعمل في زيادة الأوقات فيؤخر أكله وقتا بعد وقت حتى ينتهي إلى أكثر طاقة النفس؛ لحمل الجوع بضعف الجسم عن الفرض أو خشية اضطراب العقل، فمن أراد هذه الطريق أخر فطره كل ليلة إلى نصف سبع الليل، وقد يكون قد طوى ليلة في نصف شهر، وهذا طريق من أراد الطي المذكور; لأنه يعمل في تجوعه على مزيد الأيام، ولا يعمل في نقصان الطعام، فلا يؤثر ذلك نقصا في عقله ولا ضعفا عن أداء فرضه، إذا كان على صحة قصد، وبحسن نية وصدق عقد، فإنه يعان على ذلك، ويحفظ فيه، ويكون طعمه إذا أكل عند كل وقت يزيد فيه، وينقص ضرورة عن غير تعمل لنقصانه; لأن معناه يضيق لا محالة، فكلما زاد جوعه نقص أكله على هذا، إلى أن ينتهي الجوع، وينتهي في قلة الطعم، ولا تنال فضيلة الجوع التي وردت في الأخبار السابقة إلا بالطي، وإليه الإشارة بقول المصنف: (وفي المريدين من رد الرياضة إلى الطي، لا إلى المقدار، حتى انتهى إلى ثلاثين يوما وأربعين) يوما (أيضا، وانتهى إليه) أي: إلى ثلاثين وأربعين (جماعة من العلماء يكثر عددهم) ، ولفظ القوت: وممن اشتهر بالطي وكثرة التقلل عنه بذلك الخمسة عشر يوما إلى العشرين إلى شهر جماعة من العلماء، يكثر عددهم، (منهم محمد بن عمرو العرني ) ، هكذا في النسخ، بضم العين المهملة، وفتح الراء، وكسر النون، وفي بعض نسخ القوت: العوفي، وفي تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر : محمد بن عمرو بن حجاج الغزي ، صدوق، مات سنة ثمانين ومئتين، ورسم عليه بعلامة الدال، على أنه من رجال أبي داود ، ولم يذكره الذهبي في الكاشف، (وعبد الرحمن بن إبراهيم) بن عمرو بن ميمون القرشي، أبو سعيد الدمشقي، لقبه (دحيم) مصغرا، ويعرف أيضا بابن اليتيم ، مولى آل عثمان بن عفان قاضي الأردن ، وفلسطين ، قدم بغداد سنة اثنتي عشرة ومئتين، فحدث بها، وكان ينتحل في الفقه مذهب الأوزاعي ، وقدم مصر ، فكتب بها وكتب عنه، وهو ثقة حافظ، ثبت، ولد في شوال سنة 170 وتوفي بالرملة سنة 245، روى عنه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه ، (وإبراهيم) بن يزيد بن شريك (التيمي) تيم الرباب، أبو أسماء الكوفي ، كان من العباد، ثقة، صالح الحديث، قال الأعمش : سمعت إبراهيم التيمي يقول: إني لأمكث ثلاثين يوما لا آكل. قتله الحجاج ولم يبلغ أربعين سنة، روى له الجماعة .

( وحجاج بن فرافصة ) بضم الفاء الأولى، وكسر الثانية، بعدها صاد مهملة، الباهلي المصري، صدوق عابد، روى له أبو داود والنسائي ، وقال القشيري في الرسالة: سمعت أبا عبد الله الشيرازي يقول: حدثنا محمد بن بشير ، حدثنا الحسين بن منصور ، حدثنا داود بن معاذ ، سمعت مجاهدا يقول: كان الحجاج بن فرافصة معنا بالشام ، فمكث خمسين ليلة لا يشرب الماء، ولا يشبع من شيء يأكله، ( وحفص العابد المصيصي ، والمسلم بن سعد ) ، وفي بعض النسخ: ابن سعيد ، (وزهير) بن نعيم البابي السلولي أبو عبد الرحمن السجستاني، نزيل البصرة ، عابد، مات بعد المئتين، روى له أبو داود في كتاب المسائل له، ( وسليمان الخواص ، و) أبو محمد (سهل بن عبد الله التستري) ، وقد تقدم عنه ما يدل على ذلك، (و) أبو إسحاق (إبراهيم بن أحمد الخواص) من أقران الجنيد، مات بالري سنة 291، هكذا سرد هؤلاء الأربعة صاحب القوت، ثم قال: ( وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يطوي ستة أيام ، وكان عبد الله بن الزبير ) رضي الله تعالى عنه (يطوي سبعة أيام، وكان أبو الجوزاء) أوس بن عبد الله الربعي، محركة، ثقة من قراء أهل البصرة ، روى له الجماعة، (يطوي سبعا، وكان صاحب ابن عباس ) ، وقد تكلم في سماعه عن عائشة ، (وروي أن) سفيان (الثوري وإبراهيم بن أدهم كانا يطويان ثلاثا ثلاثا) ، زاد صاحب القوت: وقد [ ص: 408 ] رأينا من كان يطوي تسعا وخمسا، وكثيرا ممن كان يطوي ثلاثا، (كل ذلك كانوا يستعينون بالجوع على طريق الآخرة) .

قال السهروردي في العوارف: واشتهر حال جدنا محمد بن عبد الله المعروف بعمرويه ، وكان صاحب أحمد الأسود الدينوري أنه كان يطوي أربعين يوما، وأقصى ما بلغ في هذا المعنى من الطي رجل أدركنا زمانه وما رأيته، كان بأبهر ، يقال له: زاهد خليفة ، كان يأكل في كل شهر لوزة، ولم يسمع أن أحدا بلغ في هذه الأمة بالطي والتدريج إلى هذا الحد، فكان في أول مرة على ما حكي ينقص القوت بنشاف العود، ثم يطوي حتى انتهى إلى اللوزة في الأربعين، فقد يسلك في هذه الطريق جمع من الصادقين، وقد يسلك غير الصادق هذا الوجود هوى مستكن في باطنه يهون عليه ترك الأكل، إذا كان له استحلاء نظر الخلق، وهذا عين النفاق، نعوذ بالله من ذلك، والصادق ربما يقدر على الطي إذا لم يعلم بحاله أحد، وربما يضعف إذا علم بأنه يطوي، فإن صدق في الطي ونظره إلى من يطوي لأجله يهون عليه الطي، فإذا علم به أحد تضعف عزيمته في ذلك، وهذه علامة الصادق، فمهما أحس في نفسه أنه يحب أن يرى بعين التقلل فليتهم نفسه، فإن فيه شائبة نفاق، ومن يطوي لله خالصا يعوضه الله تعالى فرحا في باطنه ينسيه الطعام، وقد لا ينسى الطعام؛ لامتلاء قلبه بالأنوار، يقوى جاذب الروح الروحاني فيجذبه إلى مركزه ومستقره من العالم الروحاني، ويقفو بذلك عن أرض الشهوة النفسانية، ومن آثر جاذب الروح إذا تخلف عنه جاذب النفس عند كمال طمأنينتها وانعكاس أنوار الروح عليها بواسطة القلب المستنير بأقل من جاذب المغناطيس للحديد; إذ المغناطيس يجذب الحديد لروح في الحديد مشاكل للمغناطيس يجذبه بنسبته الجنسية الخاصة، فإذا تجنس النفس بعكس نور الروح الواصل إليها بواسطة القلب يصير في النفس روح استمدها القلب من الروح، وأداها إلى النفس، فيجذب الروح النفس بجنسية الروح الحادث فيه، فيزدري الأطعمة الدنيوية والشهوات الحيوانية، ويتحقق بمعنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" ، ولا يقدر على ما ذكرناه إلا عبد تصير أعماله وأقواله وسائر أحواله ضرورة، فيتناول من الطعام أيضا ضرورة، ولو تكلم مثلا بكلمة من غير ضرورة التهب فيه نار الجوع التهاب الحلفاء بالنار; لأن النفس الراقدة تستيقظ بكل ما يوقظها، وإذا استيقظت نزعت إلى هواها، فالعبد المراد بهذا إذا فطن بسياسة النفس ورزق العلم سهل عليه الطي، وتداركته المعونة من الله تعالى، لا سيما إن كوشف بشيء من المنح الإلهية .

وقد حكى لي فقير أنه اشتد به الجوع، وكان لا يطلب ولا يتسبب، قال: فلما انتهى جوعي إلى الغاية بعد أيام فتح علي بتفاحة، قال: فتناولت التفاحة وقصدت أكلها، فلما كسرتها كوشفت بحوراء نظرت إليها عقب كسر التفاحة، فحدث عندي من الفرح بذلك ما استغنيت به عن الطعام أياما. (وقال بعض العلماء) : ولفظ القوت: وقد كان بعض العلماء يقول، والمراد به سهل التستري كما صرح به صاحب العوارف (من طوى لله أربعين يوما) أي: من الطعام، (ظهرت له قدرة من الملكوت، أي: كوشف ببعض الأسرار الإلهية) ، وكان يقول أيضا: لا يبلغ العبد حقيقة الزهد الذي لا شوبة فيه إلا بمشاهدة قدره من غيب الملكوت، ونقله صاحب القوت والعوارف .

(وقد حكي أن بعض أهل هذه الطائفة) من الصوفية (مر براهب) في دير له، (فذاكره بحاله وطمع في إسلامه، وترك ما هو عليه من الغرور، فكلمه في ذلك كلاما كثيرا، إلى أن قال له الراهب: إن المسيح كان يطوي أربعين يوما، وإن ذلك معجزة لا تكون إلا لنبي أو صديق) ، ولفظ القوت: وإنما نعتقد إعجاز هذا، وأنه لا يكون إلا لنبي، (فقال له الصوفي: إن طويت خمسين يوما تركت ما أنت عليه وتدخل في دين الإسلام وتعلم أنه حق) ، ولفظ القوت: أن ما نحن عليه حق، (وأنك على باطل؟ قال: نعم. فجلس لا يبرح إلا بحيث يراه، حتى طوى خمسين يوما) ، ولفظ القوت: فقعد عنده لا يبرح ولا يذهب إلا حيث يراه الراهب، إلى أن طوى خمسين يوما، (ثم قال: وأزيدك أيضا. فطوى إلى تمام الستين) يوما، (فتعجب الراهب) منه، واعتقد فضله وفضل دينه، (وقال: ما كنت أظن أن أحدا يجاوز المسيح ) عليه السلام، أي: فعله في الطي، ولكن هذه أمة تشبه بالأنبياء في العلم والفضل، (فكان ذلك سبب [ ص: 409 ] إسلامه) ، نقله صاحب القوت، قال: وبعضهم يقول: لا يوقن العبد يقينا ثابتا يحكم عليه بالاستقامة فيه ولبسة حال لازمة، وعلم نافذ في الملكوت، إلا بمشاهدة قدرة من قدرة الغيب برأي عين تظهر له بشهادة دائمة يقوم بها وتضطره، فعند هذا يعرف من الله تعالى وصفه المخصوص القيوم به، ويصح لعبد مراد بهذا الطريق المنهج له طي أربعين في سنة وأربعة أشهر على ما نزلنا من تأخير الأوقات وقتا بعد وقت، حتى تندرج الليالي في الأيام، وتدخل الأيام في الليالي، فتكون الأربعون بمنزلة يوم واحد وليلة واحدة، وهذا طريق المقربين، وقد أشار المصنف لهذا فقال: (وهذه درجة عظيمة قلما يبلغها إلا) مراد به (مكاشف له) بشهادة (محمول) فيه، قد (شغل بمشاهدة ما) شغله عن نفسه، و (قطعه عن طبعه وعادته، واستوفى نفسه في لذته وأنساه جوعته وحاجته) ، وكشف له حقيقته ومرجوعه، قال صاحب القوت: وقد عرفنا من كان فعل ذلك، وظهرت له آيات من الملكوت، وكشف له عن معاني قدرة الجبروت تجلى الله عز وجل بها، وفيها كيف شاء .

وقال صاحب العوارف: قيل لسهل التستري رحمه الله تعالى: هذا الذي يأكل في كل أربعين أو أكثر أكلة واحدة أين يذهب لهب الجوع؟ قال: يطفئه النور. وقد سألت بعض الصالحين عن ذلك فذكر لي كلاما بعبارة دلت على أنه يجد فرحا بربه ينطفئ معه لهب الجوع، وهذا في الخلق واقع أن الشخص يطرقه فرح وقد كان جائعا فيذهب عنه الجوع، وهكذا في طرق الخوف يقع ذلك، ثم قال صاحب العوارف: واعلم أن هذا المعنى من الطي والتقلل لو أنه عين الفضيلة ما فات أحدا من الأنبياء، ولكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبلغ من ذلك إلى أقصى غاية، ولا شك أن لذلك فضيلة لا تنكر، ولكنه لا تنحصر مواهب الحق تعالى في ذلك، فقد يكون من يأكل كل يوم أفضل ممن يطوي أربعين يوما، وقد يكون من لا يكاشف بشيء من معاني القدرة أفضل ممن يكاشف بها إذا كاشف الله تعالى بصرف المعرفة، فالقدرة أثر من القادر، ومن أهل لقرب القادر لا يستغرب ولا يستنكر شيئا من القدرة، ويرى القدرة تنجلي له من سجف أجزاء عالم الحكمة .

(الدرجة الثانية أن يطوي يومين إلى ثلاثة) أيام، (وليس ذلك خارجا عن العادة، بل هو قريب، لكن لا وصول إليه إلا بالجد والمجاهدة) ، ومراعاة التدريج بالوجه الذي ذكر آنفا. (الدرجة الثالثة، وهي أدناها: أن يقتصر في اليوم والليلة على أكلة واحدة، وهذا هو الأكل، وما جاوز ذلك) فهو (إسراف ومداومة للشبع حتى لا تكون له حالة الجوع) ، فإذا جعل العبد شبعه بين جوعتين كان جوعه أكثر من شبعه، وسلم من خبر أبي جحيفة ، ومن كانت له جوعة بعد كل شبعة اعتدل جوعه وشبعه، ومن أكل في كل يوم مرتين فقد تابع الشبع. وتحقق بخبر أبي جحيفة ، وشبعه حينئذ أكثر من جوعه، (وذلك فعل المترفين، وهو بعيد عن السنة) ، وقد كانوا يعدونه سرفا، هكذا نقله صاحب القوت، ولكن قال القشيري في الرسالة: سمعت محمد بن عبد الله بن عبيد الله يقول: سمعت علي بن الحسن الأرجاني يقول: سمعت أبا محمد الإصطخري ، يقول: سمعت سهل بن عبد الله ، وقد قيل له: الرجل يأكل في اليوم أكلة. فقال: أكل الصديقين. قال: فأكلتين. قال: أكل المؤمنين. قال: فثلاثة. قال: قل لأهلك يبنوا لك معلفا. فهذا بظاهره يدل على أن الأكلتين في يوم من عمل المؤمنين، وهم تحت الصديقين، فليتأمل في الجمع بين الكلامين .

(فقد روى أبو سعيد) مالك بن سنان (الخدري) الأنصاري رضي الله عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تغدى لم يتعش، وإذا تعشى لم يتغد ) ، هكذا نقله صاحب القوت، وقال العراقي : لم أجد له أصلا في المرفوع، ورواه البيهقي في الشعب من فعل أبي جحيفة . اهـ .

قلت: بل أخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة عطاء بن أبي رباح : حدثنا محمد بن عمر بن مسلم ، وأحمد بن السندي قالا: حدثنا جعفر بن محمد الفريابي ، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ، حدثنا أيوب بن حبان ، حدثنا الوضين بن عطاء عن عطاء بن أبي رباح قال: دعي أبو سعيد الخدري إلى وليمة وأنا معه، فرأى صفرة وخضرة فقال: أما تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تغدى لم يتعش، وإذا تعشى لم يتغد ؟ (وكان السلف يأكلون في كل يوم أكلة) ، نقله صاحب القوت .

( وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: إياك والسرف، فإن أكلتين في كل يوم من [ ص: 410 ] السرف ) ، كذا في القوت، قال العراقي : رواه البيهقي في الشعب من حديث عائشة ، وقال: في إسناده ضعف، (وأكلة واحدة في كل يومين إقتار، وأكلة في كل يوم قوام بين ذلك، وهو المحمود في كتاب الله عز وجل) ، يشير إلى قوله تعالى: والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ، ولفظ القوت بعد إيراده هذه الآية: فكأن الأكلتين في يوم من الإسراف، وأكلة في يومين من الإقتار، وأكلة في يوم قوام بين ذلك. وأقول على هذا: إن أكل أربعة أرغفة سرف، ورغيفين قتر، وثلاثة أرغفة قوام حسن، وهذا أعدل الأقوات، ولا يعجبني أكل أربعة أرغفة في مقام واحد; لأني لا آمن الازدياد؛ فيصير ذلك معتادا، فإن كان عن جوع شديد أو عدة لسفر أو عدم، فلا بأس، وقد كان للصحابة أكلتان وشربتان، فالأكلتان الوجبة والغبوق، فالوجبة من الوقت إلى الوقت، والغبوق أن يشرب مذقة لبن، أو يأكل كف تمر عند النوم أو بعد عتمة، أو يكون عند الظهيرة، وقد يكون سحرا، والشربتان العلل والنهل، فالنهل الشربة الأولى من اللبن، بمنزلة الوجبة، والعلل الشربة الثانية بمثابة الغبوق من نقيع تمر أو زبيب أو لبن، يقوم مقام الأكلتين، فهي تمام الري، والأولى علالة للنفس من العطش، فسمي عللا، وكان من أخلاق السلف ترك الشبع اختيارا لأنفسهم؛ لخفة الجسم، أو مواساة الفقراء، أو مساواة لهم في الحال; لئلا يتفضلوا عليهم في حالهم .

(ومن اقتصر في كل يوم على أكلة واحدة) وكان صائما، (فيستحب له أن) يعمل في تأخير الإفطار على رياضة، و (يأكلها) أي: تلك الأكلة (سحرا) أي: في وقت السحر، ولا يجاوزه وهو (قبل طلوع الفجر؛ فيكون أكله بعد التهجد، وقبل الصبح، فيحصل له) بذلك خمسة أشياء: (جوع النهار للصيام) ، أي: لأجله، والأولى بالصيام، (وجوع الليل؛ للقيام، وخلو القلب لفراغ المعدة، ورقة الفكر) أي: صفائه، (واجتماع الهم) بخلو القلب، (وسكون النفس إلى المعلوم، فلا تنازعه قبل وقته) ، فإن النفس إذا علمت أنها ستأكل رغيفا في السحر اطمأنت بالليل، ولم تنازع، وهذا أوسط الطرقات وأحبها إلي، وهو طريق السائرين، كذا في القوت، قال: ومن لم يكن له معلوم، فلا بأس أن يأكل شبعه ثم يتربص حتى ينتهي جوعه، وترك المعلوم في الطعام طريق صوفية البغداديين، والوقوف مع المعلوم طريقة البصريين، ولما قدم صوفية أهل البصرة على أبي القاسم الجنيد بعد وفاة أبي محمد سهل قال لهم: كيف تعملون في الصوم؟ فقالوا: نصوم بالنهار، فإذا أمسينا قمنا إلى قفافنا. فقال: آه آه، لو كنتم تصومون بلا قفاف كان أتم لحالكم. أي: لا تسكنون إلى معلوم، فقالوا: لا نقوى على هذا .

قال صاحب القوت: ولعمري إن طريق البغداديين بترك المعلوم من المطعوم أعلى، وهو طريق المتوكلين الأقوياء، وطريق البصريين بالمعلوم والتوقيت أسلم من آفات النفوس، وأقطع للتشرف والتطلع، وهو طريق المريدين والعاملين .

(وفي حديث عاصم بن كليب) بن شهاب بن المجنون الجرمي الكوفي، صدوق، مات سنة بضع وثلاثين ومئة، روى له البخاري تعليقا، ومسلم والأربعة (عن أبيه) تابعي صدوق، روى له البخاري في كتاب رفع اليدين، والأربعة أصحاب السنن، (عن أبي هريرة ) رضي الله عنه، (قال: ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قيامكم هذا قط، وإن كان ليقوم حتى تزلع قدماه) ، أي: تتورم وتتشقق، (وما وصل وصالكم هذا قط، غير أنه قد أخر الفطر إلى السحر) ، كذا هو في القوت، قال العراقي : رواه النسائي مختصرا: "كان يصلي حتى تزلع قدماه" ، وإسناده جيد. اهـ .

قلت: وروى الجماعة سوى أبي داود من حديث المغيرة : "كان يقوم من الليل حتى تنفطر قدماه" . (وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يواصل إلى السحر" ) ، كذا في القوت، قال العراقي : لم أجده من حديث عائشة ، لكن رواه أحمد من حديث علي ، ولا يصح، ورواه الطبراني من حديث جابر ، لكنه لم يصح من فعله، وإنما هو من قوله: فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر. ورواه البخاري من حديث أبي سعيد : "وأما هو فكان يواصل، وهو من خصائصه" ، (فإن كان يلتفت قلب الصائم بعد المغرب إلى الإفطار، وكان ذلك يشغله عن حضور القلب) في التهجد، (فالأولى أن يقسم طعامه نصفين، إن كان رغيفين مثلا أكل رغيفا عند الفطر، ورغيفا عند السحر; لتسكن النفس) عن الالتفات والاضطراب، (ويخف [ ص: 411 ] بدنه عند التهجد) وإحياء الليل بالذكر، (ولا يشتد بالنهار جوعه؛ لأجل التسحر، فيستعين بالرغيف الأول على التهجد، وبالثاني على الصوم) ، وقد استحسنه صاحب القوت، وأشار إليه صاحب العوارف، (ومن كان) من عادته أنه (يصوم يوما ويفطر يوما) ، وهو أعدل طرقات الصيام، (فلا بأس أن يأكل يوم الفطر وقت الظهر، ويوم صومه وقت السحر) ، فإن لم يفعل فليأكل يوم فطره نصف أكله بالأمس، فكأنه صائم، فإن لم يفعل اضطرب جسمه، وداخله الفتور في حاله، كذا في القوت، (فهذه هي الطريق في مواقيت الأكل وتباعده وتقاربه) ، وبقيت عليه طريق أخرى في المريد الذي لا يصوم ولا يقتصر على أكلة واحدة في اليوم والليلة، ويريد قوام جسده للطاعة، فالمستحب له إن كان ذا معلوم ألا يزيد على رغيفين في اليوم والليلة، وليجعل بينهما وقتا طويلا مرة، وقصيرا أخرى، على حسب الحاجة، وتوقان النفس إلى الغذاء لا على طريق العادة والشهوة، والرغيف ست وثلاثون لقمة، يكون قوام النفس في كل ساعة ثلاث لقمات، فإذا أراد أن يأكل الرغيف على هذا التقسيم فليجرع بعد كل ثلاث لقم جرعة ماء، فذلك اثنتا عشرة جرعة في تضاعيف ست وثلاثين لقمة، ففي ذلك قوام الجسد وصلاحه في يوم وليلة، على هذا الترتيب، وفيه بلاغ للعابدين .



(تنبيه) :

أما أكل العادات والتنقل في الشهوات والأكل حتى يشبع ، فهذا عند العلماء مكروه، وآكله عندهم بمنزلة البهائم، وأما الأكل على شبع، والامتلاء حتى يتخم، فهذا فسق عند بعض العلماء، وقد قاله بعض العارفين، ويروى أنه قيل لأبي بكرة : إن ابنك أكل البارحة حتى بشم. فقال: لو مات ما صليت عليه .



(تنبيه) :

ذكر بعض العلماء أن مراتب الشبع تنحصر في سبعة; الأول ما تقوم به الحياة، والثاني: أن يزيد حتى يصوم ويصلي من قيام، وهذان واجبان، الثالث: أن يزيد حتى يقدر على أداء النوافل. الرابع: أن يزيد حتى يقدر على الكسب، وهذان مندوبان. الخامس: أن يملأ الثلث، وهذا جائز. السادس: أن يزيد عليه، وبه يثقل البدن ويكثر النوم، وهذا مكروه. السابع: أن يزيد حتى يتضرر، وهي البطنة المنهي عنها، وهذا حرام، قال الحافظ ابن حجر بعد أن نقله: ويمكن دخول الثالث في الرابع، والأول في الثاني .




الخدمات العلمية