الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الآفة الثانية أن يقدر على ترك الشهوات لكنه يفرح أن يعرف به فيشتهر بالتعفف عن الشهوات فقد خالف شهوة ضعيفة ، وهي شهوة الأكل ، وأطاع شهوة هي شر منها ، وهي شهوة الجاه وتلك هي الشهوة الخفية فمهما أحس بذلك من نفسه ، فكسر هذه الشهوة آكد من كسر شهوة الطعام ، فليأكل ؛ فهو أولى له ، قال أبو سليمان إذا قدمت إليك شهوة ، وقد كنت تاركا لها ، فأصب منها شيئا يسيرا ، ولا تعط نفسك مناها ، فتكون قد أسقطت عن نفسك الشهوة وتكون قد نغصت ، عليها إذا لم تعطها شهوتها وقال جعفر بن محمد الصادق إذا قدمت إلى شهوة نظرت إلى نفسي ، فإن هي أظهرت شهوتها أطعمتها منها ، وكان ذلك أفضل من منعها ، وإن أخفت شهوتها وأظهرت العزوب عنها عاقبتها بالترك ، ولم أنلها منها شيئا وهذا طريق في عقوبة النفس على هذه الشهوة الخفية .

وبالجملة من ترك شهوة الطعام ووقع في شهوة الرياء كان كمن هرب من عقرب وفزع إلى حية لأن شهوة الرياء أضر كثيرا من شهوة الطعام، والله ولي التوفيق. .

القول في شهوة الفرج: .

اعلم أن شهوة الوقاع سلطت على الإنسان لفائدتين: إحداهما أن يدرك لذته فيقيس به لذات الآخرة. .

فإن لذة الوقاع لو دامت لكانت أقوى لذات الأجساد كما أن النار وآلامها أعظم آلام الجسد، والترغيب والترهيب يسوق الناس إلى سعادتهم، وليس ذلك إلا بألم محسوس ولذة محسوسة مدركة، فإن ما لا يدرك بالذوق لا يعظم إليه الشوق. .

الفائدة الثانية بقاء النسل ودوام الوجود فهذه فائدتها ولكن فيها من الآفات ما يهلك الدين والدنيا إن لم تضبط ولم تقهر ولم ترد إلى حد الاعتدال، وقد قيل في تأويل قوله تعالى: ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به معناه شدة الغلمة .

وعن ابن عباس في قوله تعالى: ومن شر غاسق إذا وقب قال: هو قيام الذكر. وقد أسنده بعض الرواة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه قال في تفسيره: الذكر إذا دخل وقد قيل: إذا قام ذكر الرجل ذهب ثلثا عقله، وكان صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي وبصري وقلبي وهني ومني. وقال صلى الله عليه وسلم: النساء حبائل الشيطان، ولولا هذه الشهوة لما كان للنساء سلطنة على الرجال. .

روي أن موسى عليه السلام كان جالسا في بعض مجالسه إذا أقبل إليه إبليس وعليه برنس يتلون فيه ألوانا، فلما دنا منه خلع البرنس، فوضعه ثم أتاه، فقال: السلام عليك يا موسى، فقال له موسى: من أنت؟ فقال: أنا إبليس، فقال: لا حياك الله، ما جاء بك؟ قال: جئت لأسلم عليك لمنزلتك من الله ومكانتك منه، قال: فما الذي رأيت عليك؟ قال: برنس أختطف به قلوب بني آدم، قال: فما الذي إذا صنعه الإنسان استحوذت عليه؟ قال: إذا أعجبته نفسه واستكثر عمله ونسي ذنوبه، وأحذرك ثلاثا: لا تخل بامرأة لا تحل لك؛ فإنه ما خلا رجل بامرأة لا تحل له إلا كنت صاحبه دون أصحابي حتى أفتنه بها وأفتنها به، ولا تعاهد الله عهدا إلا وفيت به، ولا تخرجن صدقة إلا أمضيتها؛ فإنه ما أخرج رجل صدقة فلم يمضها إلا كنت صاحبه دون أصحابي حتى أحول بينه وبين الوفاء بها. ثم ولى وهو يقول: يا ويلتاه علم موسى ما يحذر به بني آدم! .

وعن سعيد بن المسيب قال: ما بعث الله نبيا فيما خلا إلا لم ييأس إبليس أن يهلكه بالنساء، ولا شيء أخوف عندي منهن. وما بالمدينة بيت أدخله إلا بيتي وبيت ابنتي أغتسل فيه يوم الجمعة ثم أروح .

وقال بعضهم: إن الشيطان يقول للمرأة: أنت نصف جندي وأنت سهمي الذي أرمي به فلا أخطئ وأنت موضع سري وأنت رسولي في حاجتي؛ فنصف جنده الشهوة ونصف جنده الغضب . .

وأعظم الشهوات شهوة النساء، وهذه الشهوة أيضا لها إفراط وتفريط واعتدال؛ فالإفراط ما يقهر العقل حتى يصرف همة الرجال إلى الاستمتاع بالنساء والجواري، فيحرم عن سلوك طريق الآخرة أو يقهر الدين حتى يجر إلى اقتحام الفواحش، وقد ينتهي إفراطها بطائفة إلى أمرين شنيعين : .

أحدهما أن يتناولوا ما يقوي شهواتهم على الاستكثار من الوقاع كما قد يتناول بعض الناس أدوية تقوي المعدة لتعظم شهوة الطعام، وما مثال ذلك إلا كمن ابتلي بسباع ضارية وحيات عادية، فتنام عنه في بعض الأوقات؛ فيحتال لإثارتها وتهييجها ثم يشتغل بإصلاحها وعلاجها؛ فإن شهوة الطعام والوقاع على التحقيق آلام يريد الإنسان الخلاص منها، فيدرك لذة بسبب الخلاص .

فإن قلت: فقد روي في غريب الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: شكوت إلى جبرائيل ضعف الوقاع؛ فأمرني بأكل الهريسة؛ فاعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان تحته تسع نسوة ووجب عليه تحصينهن بالإمتاع وحرم على غيره نكاحهن وإن طلقهن، فكان طلبه القوة لهذا لا للتمتع .

والأمر الثاني أنه قد تنتهي هذه الشهوة ببعض الضلال إلى العشق وهو غاية الجهل بما وضع له الوقاع؛ وهو مجاوزة في البهيمية لحد البهائم؛ لأن المتعشق ليس يقنع بإراقة شهوة الوقاع، وهي أقبح الشهوات وأجدرها أن يستحي منه حتى أعتقد أن الشهوة لا تنقضي إلا من محل واحد، والبهيمة تقضي الشهوة أين اتفق فتكتفي به وهذا لا يكتفي إلا بشخص واحد معين حتى يزداد به ذلا إلى ذل وعبودية إلى عبودية وحتى يستسخر العقل لخدمة الشهوة وقد خلق ليكون مطاعا لا ليكون خادما للشهوة ومحتالا لأجلها، وما العشق إلا سعة إفراط الشهوة وهو مرض قلب فارغ لا هم له، وإنما يجب الاحتراز من أوائله بترك معاودة النظر والفكر وإلا فإذا استحكم عسر دفعه، فكذلك عشق المال والجاه والعقار والأولاد حتى حب اللعب بالطيور والنرد والشطرنج؛ فإن هذه الأمور قد تستولي على طائفة بحيث تنغص عليهم الدين والدنيا ولا يصبرون عنها البتة .

ومثال من يكثر سورة العشق في أول انبعاثه مثال من يصرف عنان الدابة عند توجهها إلى باب لتدخله، وما أهون منعها بصرف عنانها! ومثال من يعالجها بعد استحكامها مثل من يترك الدابة حتى تدخل وتجاوز الباب ثم يأخذ بذنبها ويجرها إلى ورائها، وما أعظم التفاوت بين الأمرين في اليسر والعسر! فليكن الاحتياط في بدايات الأمور، فأما في أواخرها فلا تقبل العلاج إلا بجهد جهيد يكاد يؤدي إلى نزع الروح .

فإذن إفراط الشهوة أن يغلب العقل إلى هذا الحد وهو مذموم جدا، وتفريطها بالعنة أو بالضعف عن إمتاع المنكوحة وهو أيضا مذموم، وإنما المحمود أن تكون معتدلة ومطيعة للعقل والشرع في انقباضها وانبساطها، ومهما أفرطت فكسرها بالجوع والنكاح؛ قال صلى الله عليه وسلم: معاشر الشباب، عليكم بالباءة؛ فمن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فالصوم له وجاء. .

التالي السابق


(الآفة الثانية أن يقدم على ترك الشهوات لكنه يفرح أن يعرف به) بين الناس، (فيشتهر بالتعفف عن الشهوات) أي: ترك كل شهوة لأجل الشهرة، ثم اشتهى أن يعرف بتركها ، فهذا شهوة الشهوات، (فقد خالف شهوة ضعيفة، وهي الأكل، وأطاع شهوة هي شر منها، وهي شهوة الجاه) ، فقد وقع في أعظم مما كره، ومتعته بشهوة النظر إليه والمدح له أكبر من متعته بترك شهوته المأكولة، (وذلك هي الشهوة الخافية) التي جاء في الخبر: "أخوف ما أخاف على أمتي الرياء والشهوة الخفية" . وفسروها بأن يشتهي أن يعرف ويوصف بترك الشهوات، (فمهما أحس بذلك من نفسه، فكسر هذه الشهوة آكد من كسر شهوة الطعام، فليأكل؛ فهو أولى، قال أبو سليمان) الداراني رحمه الله تعالى: (إذا قدمت إليك شهوة، وقد كنت تاركا لها، فأصب منها شيئا يسيرا، ولا تعط نفسك) منها (مناها، فتكون قد أسقطت عن نفسك الشهوة، و) تكون قد (نقصت عليها) ، إذ لم تبلغ (شهوتها) ، قال صاحب القوت: فإن فعل هذا فحسن; لأن أبا سليمان خاف عليه ما ذكرناه قبيل، من أن يظهر ترك الشهوة فيصير منعه باعتقاد فضله من ترك الشهوات أبلغ من أكل الشهوات، أو أن يأكلها فتشرف عليها نفسه ببلوغ شهوته التي كان تركها لعلة الإخلاص، كما تقول العامة: بعلة الصبي تشبع الداية. فإن بقي يقينه وغاب الخلق عن عينه تركها، وقلبه مطمئن بالإيمان; لأنه لم يعتل [ ص: 428 ] بالنظر فيتداوى بالتناول للبعض، فأما إن كان قد اعتقد ترك شهوة لمعنى دخل عليه منها يخرجه من الورع، أو بعزم على المجاهدة، ثم أتى بها، فهذا اختبار من الله له؛ لينظر كيف يعمل بالوفاء بالعقد، فأحب ألا ينال منها شيئا، وليتعلل وليدافع عن نفسه بالمعاريض والمعاني حتى لا يفطن به أنه تركها للمجاهدة؛ فيكون قد فعل الوصفين معا; الوفاء بالعقد في تركها، والتورية بلطيف الحيلة عن الفطنة له في قصده، وهذا طريق المريدين وصفات المتقين، وهو الطريق الأدنى الذي ذكرناه أولا; فإن ظهر قرب الله تعالى منه وغلبة نظره إليه، أغناه عن الحيلة والاحتيال لقربه، وشهادة ذي الجلال والإكرام، وهو الطريق الأعلى الذي ذكرناه آخرا، وهذا للموقنين، (وقال جعفر بن محمد) بن علي بن الحسين (الصادق) رحمه الله تعالى: (إذا قدمت إلى الشهوة نظرت إلى نفسي، فإن هي أظهرت شهوتها) لها (أطعمتها منها، وكان ذلك أفضل من منعها، وإن أخفت شهوتها وأظهرت العزوف عنها عاقبتها بالترك، ولم أنلها منها شيئا) ، نقله صاحب القوت، وقال: وتفسير ذلك أن إظهار النفس للشهوة ألا تبالي أن تعرف بأكل الشهوات، وأن تحب أن يظهر على ذلك من يعرف من أهل الديانات، وإخفاء النفس للشهوة أن تشتهي، وتحب ألا يعلمها أنها تحب وتشتهي، وتكره أن تعرف بأنها ممن تشتهيها، (وهذا طريق في عقوبة النفس على هذه الشهوة الخفية) التي هي شهوة الشهوات، (وبالجملة من ترك شهوة الطعام ووقع في شهوة الرياء كان) في المثال، (كمن هرب من عقرب وفزع إلى حية; لأن شهوة الرياء أضر من شهوة الطعام) كما تقدم .



( القول في شهوة الفرج )

(اعلم) أيدك الله (أن شهوة الوقاع) أي: المجامعة بين الرجل وزوجته (سلطت على الإنسان لفائدتين; إحداهما أن يدرك لذته فيقيس به لذات الآخرة) ; إذ ليس كل الناس يعرف اللذات المعقولة، ولو توهمناها مرتفعة لما تشوقوا إلى لذات الجنة، (فإن لذة الوقاع) هي لذة ساعة، (لو دامت لكانت أقوى لذات الأجساد) كلها، (كما أن النار وألمها أعظم آلام الجسد، والترغيب والترهيب يسوق الناس إلى سعادتهم، وليس ذلك إلا بألم محسوس ولذة محسوسة مدركة; فإن ما لا يدرك بالذوق لا يعظم إليه الشوق)، ولا تحصل فيه الرغبة .

(الفائدة الثانية: بقاء النسل ودوام الوجود) ونظام العالم، (فهذه فائدتها)، فلولا الشهوة ما كان الوقاع، ولولا الوقاع ما كان النسل، فالله سبحانه جعلها سببا لهذا الإيجاد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "تناكحوا تكثروا" . وقال: "خير النساء الولود الودود، وشرها العقيم" . وقال: "تزوجوا الولود الودود، فإني مكاثر بكم الأمم" . وقال: "سوداء ولود خير من حسناء عقيم" . ولقصد النسل حظر إتيان المرأة في محاشها، وكره العزل؛ تأكيدا للمقصود من النكاح، (ولكن فيها من الآفات ما يهلك الدين والدنيا، إن لم تضبط) على القانون، (وتقهر وترد إلى حد الاعتدال) الذي هو خير الأمور (وقد قيل في تأويل قوله تعالى: ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به معناه الغلمة) .

قال صاحب القوت: رويناه عن قتادة ، قلت: وأخرج ابن أبي حاتم عن مكحول : ما لا طاقة لنا به ، قال: العزبة والإنعاظ والغلمة .

وأخرج السدي قال: من التغليظ والإغلال إلى الغلمة، (وعن ابن عباس ) رضي الله عنهما (في قوله تعالى: ومن شر غاسق إذا وقب ، قال: هو قيام الذكر)، قال صاحب القوت: رويناه عن ابن عباس .

قلت: والمشهور عن ابن عباس في تفسيره قال: الليل إذا أقبل، هكذا أخرجه ابن جرير وابن المنذر ، وروي عنه أيضا: الغاسق الظلمة، والوقب شدة سواده إذا دخل في كل شيء .

أخرجه الطستي في فوائده، وروي عن مجاهد قال: يعني الليل إذا دخل، هكذا رواه ابن جرير وابن المنذر ، وإن صح ما قاله المصنف فهو نقل غريب عن ابن عباس ، وقوله: هو قيام الذكر؛ كأنه تفسير للوقوب، والغاسق هو الذكر، وهو في غريب اللغة .

(وقد أسنده بعض الرواة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنه قال في تفسيره: الذكر إذا دخل)، هكذا ذكره صاحب القوت، قلت: وهذا أغرب من الأول، ولغرابة القولين نقلهما صاحب القاموس في كتابه، وأسندهما للمصنف، وهو إنما تبع صاحب القوت، وكأنه لعدم اشتهار كتابه بين أيدي الناس تنوسي، وجعل كأن الغزالي هو الذي أبدى هذين القولين، وقد ذكرت في شرحي عليه [ ص: 429 ] كلاما يحتاج إلى مراجعته، وكان شيخنا المرحوم أبو عبد الله بن الطيب رحمه الله تعالى ينكر هذا جدا، ويدلك على هذا قول العراقي في تخريجه حديث ابن عباس موقوفا ومسندا: لا أصل له .

(وقد قيل: إذا قام ذكر الرجل ذهب ثلثا عقله) هو قول فياض بن نجيح ، نقله عنه صاحب القوت، وزاد في موضع آخر فقال: وقال بعضهم: ثلث دينه، ( وكان صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: أعوذ بك من شر سمعي وبصري وقلبي ومنيي )، تقدم الكلام عليه في كتاب الدعوات .

( وقال صلى الله عليه وسلم: النساء حبائل الشيطان ) قال العراقي : رواه الأصبهاني في الترغيب والترهيب من حديث زيد بن خالد الجهني بإسناد فيه جهالة. اهـ .

قلت: الحبائل جمع حبالة، بالكسر، هو ما يصاد به من أي شيء كان .

وروى أبو نعيم من حديث عبد الرحمن بن عابس ، وابن لال من حديث ابن مسعود ، والديلمي من حديث عبد الله بن عامر ، وعقبة بن عامر ، والتيمي في ترغيبه في حديث زيد بن خالد ، كلهم بلفظ: الشباب شعبة من الجنون، والنساء حبالة الشيطان ، هكذا روي عندهم بالإفراد، والرواية بالجمع أكثر، نبه عليه الحافظ السخاوي رضي الله تعالى عنه، قلت: وقد رواه أيضا الخرائطي في اعتلال القلوب، والقضاعي في مسند الشهاب من حديث زيد بن خالد ، (ولولا هذه الشهوة) قد ركبت في الرجال (لما كان للنساء سلطة على الرجال)، قال صاحب القوت: وقد حدثت عن ابن البراء عن عبد المنعم بن إدريس قال: حدثنا أبي، عن وهب بن منبه أنه وجد في التوراة: "خلق آدم عليه السلام حين خلقه الله عز وجل وابتدعه، فقال: إني خلقت آدم وركبت جسده في أربعة أشياء..." ، ثم ذكر الحديث بطوله في ذكر الطبائع الأربعة، ثم قال: وقد تغلب الحرارة على بعض المريدين من قبيل قوة المزاج وحدة الشباب، فيظهر الطبع بتبيغ المني على العزاب، كما تقوى الحرارة بتبيغ الدم; لأن أصل المني هو الدم يتصاعد في خرزات الصلب، وهناك مسكنه، فتنضجه الحرارة فيستحيل أبيض، فإذا امتلأ منه خرزات الصلب، وهو الفقار، طلب الخروج من مسلكه، فقويت الصفة لذلك، فهذا حين هيجان الإنسان للنكاح، فلا يصح لمثل هذا أن يأكل الحرارات من الأطعمة، وليطفئ ذلك بأكل المبردات والأشياء القاطعة، وليتجنب أكل كل حار يابس، أو بارد رطب؛ فإنه يهيج الطبع ويقوي العضو .

وقد روينا أن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهن كن يأكلن الخل والبرودات بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يقطعن به الشهوة، (وروي أن موسى عليه السلام كان جالسا) ذات يوم; (إذ أقبل إليه إبليس وعليه برنس يتلون فيه ألوانا) مختلفة، (فلما دنا منه قلع) ذلك البرنس، (فوضعه، ثم أتاه فقال: السلام عليك. فقال له موسى ) عليه السلام: (من أنت؟ فقال: أنا إبليس. فقال: لا حياك الله، ما جاء بك؟ قال: جئت لأسلم عليك؛ لمنزلتك من الله) تعالى، (ومكانك منه. قال) له موسى عليه السلام: (فما الذي رأيت عليك؟) يعني البرنس الذي قلعه، (قال: إني أختطف به قلوب بني آدم . قال) له موسى عليه السلام: (فما الذي إذا صنعه الإنسان استحوذت عليه؟) أي: غلبته وملكته، (قال: إذا أعجبته نفسه)، أي: رضي عنها (واستكثر عمله ونسي ذنوبه)، قال: (وأحذرك) يا موسى (ثلاثة); الأولى (لا تخل بامرأة لا تحل لك؛ فإنه ما خلا رجل بامرأة لا تحل له إلا كنت صاحبه دون أصحابي حتى أفتنه بها، و) الثانية: (لا تعاهد الله عهدا إلا وفيت به، و) الثالثة: (لا تخرجن صدقة إلا أمضيتها) بالفعل؛ (فإنه ما أخرج رجل صدقة فلم يمضها إلا كنت صاحبه دون أصحابي حتى أحول بينه وبين الوفاء بها. ثم ولى) إبليس (وهو يقول: يا ويلتاه، علم موسى ما يحذر به بني آدم ) .

وهذه الخصال التي أشار إليها إبليس قد حذر منها نبينا صلى الله عليه وسلم، كما هو في الأخبار الواردة في ذلك، لاسيما الأولى منها، ففي حديث بريدة عند الطبراني : "لا يخلون رجل بامرأة؛ فإن الشيطان ثالثهما" ، وعنده وعند البيهقي من حديث ابن عباس : "لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر امرأة إلا مع محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا مع محرم" . وعند البيهقي أيضا: "لا يدخل رجل على امرأة إلا ومعها محرم، من دخل فليعلم أن الله معه" . وعند ابن سعد من مرسل الحسن : "لا تحدثن من الرجال إلا محرما" . وعند البزار من حديث جابر : "لا تدخلوا على هؤلاء المغيبات؛ فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" . والأخبار في التحذير عن الخلوة مع النساء [ ص: 430 ] الأجنبيات كثيرة، (وعن سعيد بن المسيب) القرشي المدني التابعي رحمه الله (قال: ما بعث الله نبيا فيما خلا) أي: مضى، (إذ لم ييأس إبليس أن يهلكه بالنساء) أي: ما عدا نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد أعانه عليه فأسلم، فلم يكن له عليه سبيل، وقد روى نحو ذلك البزار من حديث جابر ، (ولا شيء أخوف عندي منهن) أي: من طائفة النساء، قال ذلك وسنه ثمانون، كما سيأتي قريبا، (وما بالمدينة بيت أدخله إلا بيتي وبيت ابنتي)، وهي التي زوجها عبد الله بن أبي وداعة ، كما سيذكر المصنف قصتها قريبا. (أغتسل فيه يوم الجمعة، ثم أروح، وقال بعضهم: إن الشيطان يقول للمرأة: أنت نصف جندي، وأنت سهمي الذي أرمي به؛ فلا أخطئ)، غرضي، (وأنت موضع سري، وأنت رسولي في حاجتي)، وقد صدق في قوله، (فنصف جنده الشهوة) بها يقاتل المؤمنين، (ونصف جنده) الآخر (الغضب)، فإذا اجتمع في رجل فقد كمل عنده جند الشيطان .



( وأعظم الشهوات شهوة النساء )، ولذا كانت لذة وقاعهن أعظم اللذات لو دامت، ولكثرة استحواذهن على قلوب الرجال بمقتضى الشهوات كن من سهام إبليس التي لا تخطئ المرامي أبدا، فيحملن الرجال ما لا يطيقون، ويقعون في المحظور لأجلهن، وإذا كن رسلا في حاجة لا ترد شفاعتهن، وتقضى حاجتهن، وكل ذلك لما فيهن من مخايل الفتن، فهن شر غالب لمن غلب، (وهذه الشهوة أيضا لها) ثلاث مراتب، (إفراط وتفريط واعتدال، فالإفراط) وهي المرتبة الأولى، (ما يقهر العقل حتى تصرف همة الرجل إلى الاستمتاع بالنساء) المنكوحات، (والجواري) بملك اليمين، ويشتغل بهن، (فيحرم عن سلوك طريق الآخرة، أو) ما (يقهر الدين حتى يجر إلى اقتحام الفواحش) التي حرم الله ما ظهر منها وما بطن، وذلك على ضربين، أحدهما تعاطيه في المحرث، ولكن لا على الوجه الذي يجب، وقد عظم الله أمره، فقرنه مرة بالشرك فقط، فقال: الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ، ومرة قرنه بالشرك وقتل النفس المحرمة، فقال: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ، وسمى ذلك سفاحا؛ من حيث إن المجتمعين عليه لا غرض لهما سوى سفح الماء للشهوة، كمن ضيع ماء في غير حرثه، والثاني تعاطيه في غير المحرث، كاللواطة، وهي أعظم من الزنا; لأن الزنا وضع البذر في المحرث على غير الوجه المأثور، فهو كمن زرع في أرض غيره، أو على غير الوجه الذي يجوز أن يزرع فيها، وفي اللواطة مع ذلك تضييع البذر؛ فمتعاطيها كمن قال الله تعالى فيه: ويهلك الحرث والنسل ، ولهذا وصف قوم لوط بالإسراف، فقال: إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون .

(حتى ينتهي إفراطها بطائفة إلى أمرين شنيعين; أحدهما أن يتناولوا ما يقوي شهواتهم على الاستكثار من الوقاع) من غير ضعف وفتور، (كما قد يتناول بعض الناس أدوية تقوي المعدة لتعظم شهوة الطعام)، وكل منهما شنيع .

قال صاحب القوت: وحدثونا في أخبار الملوك أن ملك الهند أهدى إلى المنصور تحفا، منها أنه وجه إليه بفيلسوف طبيب، قال: فأنزله المنصور وأحسن إليه، فلما دخل إليه قال الفيلسوف: قد جئتك يا أمير المؤمنين بثلاث خصال تتنافس الملوك فيها، لا نصنعها إلا لهم. قال: وما هي؟ قال: اخضب لحيتك بسواد، لا تنصل أبدا، ولا تتغير عن حالها. قال: وما الخصلة الثانية؟ قال: أعالجك بعلاج تتسع به في المآكل فتأكل أي شيء شئت لا تتخم، ولا يؤذيك الطعام. قال: وما الثالثة؟ قال: أقوي صلبك بتقوية تنشط بها إلى الجماع فتجامع ما شئت لا تمل من ذلك، ولا يضعف بصرك، ولا تنقص من قوتك. قال: فأطرق المنصور ثم رفع رأسه إليه فقال: قد كنت أظن أنك أعقل مما أنت، أما ما ذكرت من السواد فلا حاجة لي به; لأن ذلك غرور وزور، والشيب هيبة ووقار، ولم أكن لأغير نورا جعله الله في وجهي بظلمة السواد، وأما ما ذكرته من الأكل فوالله ما أنا بشره، وما لي في الاستكثار من الطعام حاجة; لأنه يثقل الجسم ويشغل عن النوائب، وأقل شيء فيه كثرة الاختلاف إلى الخلاء، فأرى ما أكره وأسمع ما لا أحب، وأما ما ذكرت من النساء فإن النكاح شعبة من الجنون، وما أقبح بخليفة مثلي يجثو بين يدي صبية! ارجع إلى صاحبك مذموما مدحورا، فلا حاجة لي بما جئت به، (وما مثل ذلك إلا كمن ابتلي بسباع ضارية وبهائم عادية، فتنام عنه في بعض الأوقات، فيحتال لإثارتها [ ص: 431 ] وتهييجها، ثم يشتغل بإصلاحها وعلاجها)، وكفى بما يهتاج من باعث الطبيعة على ذلك، فهو كمن قال:


كلما أنبت الزمان قناة ركب المرء في القناة سنانا



(فإن شهوة الطعام والوقاع على التحقيق ألم) يحس في الباطن، وفي نسخة: آلام، (يريد الإنسان الخلاص منه)، وفي نسخة: منها، (فيدرك لذة بسبب الخلاص) من تلك الآلام، (فإن قلت: فقد روي في غريب الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: شكوت إلى جبريل ضعف الوقاع، فأمرني بأكل الهريسة )، قال العراقي : رواه العقيلي في الضعفاء، والطبراني في الأوسط، من حديث حذيفة ، وقد تقدم، وهو موضوع، (فاعلم أنه صلى الله عليه وسلم كانت تحته تسع نسوة) تقدم ذكر أسمائهن، (وجب عليه تحصينهن) بالإمتاع، فكان يقسم لهن، وربما دار عليهن كلهن بغسل واحد، كما ورد، (وحرم على غيره نكاحهن، وإن طلقهن)، كما هو مذكور في خصائصه صلى الله عليه وسلم، (فكان طلبه القوة لهذا) السبب، (لا للتنعيم)، فلا يكون مذموما، بل هو محمود بهذا النظر .



(والأمر الثاني أنه قد تنتهي هذه الشهوة ببعض الضلال) عن نهج الدين (إلى) مرتبة (العشق، وهو) نهاية الحماقة، و(غاية الجهل بما وضع له) أي: لأجله (الوقاع، وهو مجاوزة في) الصفة (البهيمية لحد البهائم) في عدم ملك النفس وذم الهوى; (لأن المتعشق ليس يقنع بإراقة شهوة الوقاع )، ولا يرضى بإرادة لذة الباءة، (وهي) من (أقبح الشهوات) وأسمجها، (وأجدرها بأن يستحي منه، حتى اعتقد) في نفسه (أن الشهوة لا تقضى إلا من محل واحد، والبهيمة تقضي الشهوة أين اتفق، فتكتفي به); لأنها إذا أسقطت الأذى عنها بالسفاد سكنت، فصارت إلى الراحة، (وهذا) المتعشق (لا يكتفي إلا بواحد معين)، ثم لا يرضى بذلك، (حتى يزداد به ذلا على ذل، وعبودية على عبودية)، فالبهيمة أحسن حالا منه، ثم لا يرضى بذلك (حتى يستسخر)، ويستدل ما هو الأشرف الذي هو (العقل، لخدمة) ما هو أخس، وهو (الشهوة، وقد خلق) العقل وأعطي ليقمع به الشهوة القبيحة، و(ليكون مطاعا) رئيسا آمرا مخدوما، (لا ليكون خادما للشهوة) وساعيا في صحبتها، (ومحتالا لأجلها)، فما أخس حال من جعل الخادم مخدوما، والمخدوم خادما، وما مثله إلا كمن انتعل بالمنديل، ونشف الوجه بالنعل، ( وما العشق إلا منبع إفراط الشهوة، وهو مرض قلب فارغ، لا هم له )، وتعاطيه حال كل جاهل فارغ سيما إذا نظر إلى أخيار العشق، وجالس العشاق، وربما يؤدي بالعاشق إلى ذبول ودق، بل إلى الموت، قال الشاعر:


لو فكر العاشق في منتهى معشوقه قصر عن حبه



وقال حكيم لتلميذ له هوي جارية: هل تشك في أن لا بد أن تفارقها يوما ما؟ قال: لا. قال: فاجعل تلك المرارة المتجرعة في ذلك اليوم في يومك هذا، وارتج ما بينهما من الخوف المنتظر وصعوبة معالجة ذلك بعد الاستحكام وانضمام الإلف إليه. وقيل لبعض الحكماء: ما العشق؟ فقال: جنون لا يؤجر صاحبه عليه. وسئل آخر عنه فقال: مرض نفس فارغة. فأشاروا كلهم إلى معنى واحد، (وإنما يجب الاحتراز عن أوائله بترك معاودة النظر، و) إجالة (الفكر) فيه، (وإلا فإذا استحكم) غرسه في القلب (عسر دفعه، وكذلك عشق المال والجاه والعقار والأولاد )، وما في معناهما، ( حتى حب اللعب بالطيور ) كالحمام وغيره، (والعود) وما في معناه، (والنردشير والشطرنج) وما في معناهما، (فإن هذه الأمور قد تستولي على طائفة بحيث تنغص عليهم الدين والدنيا، ولا يصبرون عنها ألبتة)، أما نقص الدين عليهم فمن جهات متعددة; وأما نقصان الدنيا فإنه إن كان محترفا يشتغل بها عن حرفته ويضيع عياله، وإن كان ذا مال فإنه يضيعه فيما يتعلق بتلك الأشياء، وهلم جرا إلى أن ينفد، وأما عدم صبرهم عنها فذلك مشاهد، كادت أن تحول بينهم وبين أكلهم .



( ومثال من يكسر سورة العشق في أول انبعاثه مثال من يصرف عنان الدابة عند توجهها إلى باب لتدخله )؛ فإنه يمكنه ذلك، (وما أهون منعها بصرف [ ص: 432 ] عنانها، ومثال من يعالجها بعد استحكامها) ورسوخها (مثال من يترك الدابة) على حالها، (حتى تدخل وتجاوز الباب ثم يأخذ بذنبها ويجرها إلى ورائها، وما أعظم التفاوت بين الأمرين في العسر واليسر! فليكن الاحتياط في بدايات الأمور)، أي: أوائلها، (فأما في أواخرها فلا تقبل العلاج إلا بجهد جهيد) وتعب شديد (يكاد يؤدي إلى نزع الروح) من البدن، (فإذا إفراط الشهوة أن يغلب العقل إلى هذا الحد، وهو مذموم جدا، وتفريطها بالعنة) بالضم، وهي ألا يقدر على إتيان النساء، أو لا يشتهيهن، والاسم عنين، ويكون خلقة، ويكون عن سحر، (أو بالضعف عن امتناع المنكوحة) عن سبب عارض، كبرد في الصلب أو غيره، (وهو أيضا مذموم، وإنما المحمود) من الشهوة (أن تكون معتدلة مطيعة بالعقل والشرع في انقباضها وانبساطها)، والوقاع الصادر من هذه الشهوة إذا كانت بالوصف المذكور إن تعاطاه العبد على الوجه الذي سنه الشرع، وذلك إما محمود، وهو أن يتعاطاه قاصدا به النسل، أو مسكنا لنفسه، فالماء إذا اجتمع في مقره يجري مجرى مدة وقيح من جرح يعظم بحسبه الضرر، ويدعو صاحبه إلى ما هو في الشرع محرم، وإما مكروه طبا، وإن لم يكن قد كره شرعا، وذلك أن يتعاطاه فضلا عما تقدم ذكره؛ فإنه ينفد العمر ويستنفد القوى، ويوسع أوعية المني ويجلب إليه دما كثيرا، ويزيد شهوة، فأعظم فائدة فيه أن يلحق صاحبه بأفق البهائم والتيوس والثيران وغيرهما مما يوصف بالشبق، (ومهما أفرطت لكسرها بالجوع والنكاح، قال صلى الله عليه وسلم: معشر الشباب عليكم بالباءة)، أي: النكاح، (فمن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء)، أي: قطع له، وقد تقدم الكلام على هذا الحديث في كتاب النكاح مفصلا .




الخدمات العلمية