الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
والآن فكشف الغطاء عن حد الاقتصاد في هذه الأمور داخل في علم المكاشفة ، والقول فيه يطول فلا نخوض فيه والغرض بيان موافقة الباطن الظاهر وأنه غير مخالف له فقد ، انكشف بهذه الأقسام الخمسة أمور كثيرة .

وإذا رأينا أن نقتصر بكافة العوام على ترجمة العقيدة التي حررناها وأنهم لا يكلفون غير ذلك في الدرجة الأولى إلا إذا كان خوف تشويش لشيوع البدعة فيرقى في الدرجة الثانية إلى عقيدة فيها لوامع من الأدلة مختصرة من غير تعمق .

فلنورد في هذا الكتاب تلك اللوامع ولنقتصر فيها على ما حررناه لأهل القدس وسميناه الرسالة القدسية في قواعد العقائد وهي مودعة في هذا الفصل الثالث من هذا الكتاب .

التالي السابق


(والآن فكشف الغطاء عن حد الاقتصاد في هذه الأمور داخل في علم المكاشفة، والقول فيه يطول) ؛ إذ هو بحر لا ساحل له، وقف لديه الفحول وتحيرت فيه العقول؛ (فلا نخوض فيه) ؛ إذ الخوض فيه يخرج عن بيان الغرض المهم (و) ذلك (الغرض) المهم هو (بيان موافقة الباطن الظاهر ومخالفته له، وقد انكشف) سره (بهذه الأقسام الخمسة) المذكورة بأمثلتها .

(وإذا رأينا أن نقتصر بكافة العوام) وقد دخل فيهم أكثر العلماء ممن لم يتصف بصفات الخواص التي ذكرت (على ترجمة) أي: بيان (العقيدة التي حررناها) وقد سبقت، وهي في أوراق يسيرة (وأنهم لا يكلفون غير ذلك) أي: مما زاد عليها، وذلك (في الدرجة الأولى) ثم تم المقصود (إلا إذا كان خوف [ ص: 85 ] تشويش) أي: يكون في بلد يشوش عليه في عقيدته (لشيوع البدعة) الحادثة وانتشارها؛ فيحتاج إلى معرفة أدلة تفصيلية عقلية وسمعية (فيرقى في الدرجة الثانية) بالتدريج (إلى) النظر في (عقيدة) جامعة مانعة (فيها لوامع) جمع لامعة (من الأدلة) العقلية والنقلية، وقد سمى إمام الحرمين شيخ المصنف كتابه "لمع الأدلة في قواعد أهل السنة والجماعة"؛ نظرا إلى هذا (مختصرة) بالنسبة إلى المطولات (من غير تعمق) فيها بإرسال الرسن في أبحاث خارجة عن أصل المقصد .

(فلنورد في هذا الكتاب تلك اللوامع) المضيئة أنوارها، الواضحة أسرارها (ولنقتصر فيها) أي: في تلك اللوامع (على ما حررناه لأهل القدس) الشريف حين وفد عليه زائرا ومجاورا، وذلك في أيام سياحته وتركه علائق الدنيا وخروجه من بغداد (وسميناه) لأجل ذلك (الرسالة القدسية) اسما دالا على مسماه (وهي) كما ترى (مودعة في هذا الفصل الثالث من هذا الكتاب) .

واعلم أن للمصنف عدة رسائل مختصرة أرسلها إلى بلدان شتى متضمنة على صريح الاعتقاد والمواعظ والنصائح، فمنها رسالة أرسلها إلى الموصل، مسماة بالقدسية أيضا، يخاطب فيها بعض المشايخ، وهي نحو ثلاثة أوراق، ذكر في آخرها ما نصه: وأما أقل ما يجب على المكلفين، فهو ما يترجمه قول "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، ثم إذا صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- فينبغي أن يصدقه في صفات الله -عز وجل- وفي اليوم الآخر، وكل ذلك مما يشتمل عليه القرآن من غير تأويل، أما في الآخرة فالإيمان بالجنة والنار والحساب وغيره، وأما صفات الله تعالى أنه حي قادر عالم متكلم مريد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، وليس عليه بحث عن حقيقة هذه الصفات، وإن الكلام والعلم وغيرهما قديم أو حادث، بل لو كان لا يخطر له هذه الأسئلة حتى مات، مات مؤمنا، وليس عليه تعلم الأدلة التي حررها المتكلمون، بل مهما حصل في قلبه التصديق بالحق بمجرد الإيمان من غير دليل وبرهان فهو مؤمن، ولم يكلفه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر من ذلك، وعلى هذا الاعتقاد المجمل استمر الأعراب وعوالم الخلق، إلا من وقع في بلدة يقرع سمعه فيها هذه المسائل، كقدم الكلام وحدوثه، ومعنى الاستواء أو النزول، وغيره .

فإن لم يجد لذلك أثرا في قلبه واشتغل بعبادته فلا حرج عليه، وإن أخذ ذلك بقلبه فأقل الواجبات عليه ما اعتقده السلف، فيعتقد في القرآن القدم، كما قال السلف: القرآن كلام الله غير مخلوق، ويعتقد أن الاستواء حق، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، والكيفية مجهولة، ويؤمن بجميع ما جاء به الشرع إيمانا مجملا من غير بحث على الحقيقة والكيف، فإن لم يقنعه ذلك وغلب على قلبه الإشكال والشك، فإن أمكن إزالة شكله وإشكاله بكلام قريب من الأفهام، وإن لم يكن قويا عند المتكلمين، ولا مرضيا عندهم، فذلك كاف، ولا حاجة به إلى تحقق الدليل، بل الأولى أن يزال شكه من غير ذكر حقيقة الدليل، فإن الدليل لا يتم إلا بذكر الشبهة والجواب عنها .

ومهما ذكرت الشبهة لم يؤمن أن تتشبث بقلبه ويكل فهمه عن درك جوابها، إذ الشبهة قد تكون جلية، والجواب دقيقا، لا يحتمله فهمه، بل عقله، فلهذا زجر السلف عن البحث والتفتيش في الكلام، وإنما زجروا عنه ضعفاء العوام، فأما المشتغلون بدرك الحقائق فلهم خوض غمرة الإشكالات .



ومنع العوام من الكلام يجرى مجرى منع الصبيان على شاطئ الدجلة خوف الغرق، ورخصة الأقوياء فيه تضاهي الرخصة للماهر في صفة السباحة، إلا أن هنا موضع غور ومزلة قدم، وهو أن كل ضعيف في عقله راض من الله بكمال عقله، ويظن بنفسه أنه يقدر على درك الحقائق كلها، وأنه من جملة الأقوياء، فربما يخوضون ويغرقون في بحر الجهالات من حيث لا يشعرون، فالصواب للخلق كلهم إلا الشاذ النادر التي لا تسمح الأعصار إلا بواحد منهم أو اثنين أن يسلكوا مسلك السلف في الإيمان المرسل، والتصديق المجمل بكل ما أنزل الله تعالى وأخبر به من غير بحث ولا تفتيش، والاشتغال بالتقوى، ففيه شغل شاغل، إذ قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيث رأى أصحابه يختصمون بعد أن غضب حتى احمرت وجنتاه: "أبهذا أمرتم؟! تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ انظروا إلى ما أمركم الله به [ ص: 86 ] فافعلوه، وما نهاكم عنه فانتهوا"، فهذا ينبه على نهج الصواب والحق، واستيفاء ذلك قد شرحناه في كتاب قواعد العقائد؛ فليطلب منه، انتهى .

وبهذا تم الفصل الثاني من هذا الكتاب والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما .




الخدمات العلمية