الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فإن قلت : أينفع كل علم لحل الإصرار أم لا بد من علم مخصوص فاعلم أن العلوم بجملتها أدوية لأمراض القلوب ، ولكن لكل مرض علم يخصه ، كما أن علم الطب نافع في علاج الأمراض بالجملة ، ولكن يخص كل علة علم مخصوص فكذلك دواء الإصرار ، فلنذكر خصوص ذلك العلم على موازنة مرض الأبدان ; ليكون أقرب إلى الفهم ، فنقول : يحتاج المريض إلى التصديق بأمور الأول أن يصدق على الجملة بأن للمرض والصحة أسبابا يتوصل إليها بالاختيار على ما رتبه مسبب الأسباب وهذا هو الإيمان بأصل الطب ; فإن من لا يؤمن به لا يشتغل بالعلاج ويحق عليه الهلاك وهذا وزانه مما نحن فيه الإيمان بأصل الشرع ، وهو أن للسعادة في الآخرة سببا هو الطاعة ، وللشقاوة سببا هو المعصية ، وهذا هو الإيمان بأصل الشرائع ، وهذا لا بد من حصوله ، إما عن تحقيق أو تقليد ، وكلاهما من جملة الإيمان .

الثاني أنه لا بد أن يعتقد المريض في طبيب معين أنه عالم بالطب حاذق فيه صادق فيما يعبر عنه لا يلبس ولا يكذب فإن إيمانه بأصل الطب لا ينفعه بمجرده دون هذا الإيمان ، ووزانه مما نحن فيه العلم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ، والإيمان بأن كل ما يقوله حق وصدق ، لا كذب فيه ولا خلف .

الثالث : أنه لا بد أن يصغي إلى الطبيب فيما يحذره عنه من تناول الفواكه والأسباب المضرة على الجملة حتى يغلب عليه الخوف في ترك الاحتماء فتكون شدة الخوف باعثة له على الاحتماء ووزانه من الدين الإصغاء إلى الآيات والأخبار المشتملة على الترغيب في التقوى والتحذير من ارتكاب الذنوب ، واتباع الهوى ، والتصديق بجميع ما يلقى إلى سمعه من ذلك من غير شك واسترابة حتى ينبعث به الخوف المقوي على الصبر الذي هو الركن الآخر في العلاج .

الرابع : أن يصغي إلى الطبيب فيما يخص مرضه ، وفيما يلزمه في نفسه الاحتماء عنه ; ليعرفه أولا تفصيل ما يضره من أفعاله وأحواله ، ومأكوله ، ومشروبه ، فليس على كل مريض الاحتماء عن كل شيء ، ولا ينفعه كل دواء ، بل لكل علة خاصة علم خاص ، وعلاج خاص ، ووزانه من الدين أن كل عبد فليس يبتلى بكل شهوة ، وارتكاب ذنب ، بل لكل مؤمن ذنب مخصوص ، أو ذنوب مخصوصة ، وإنما حاجته في الحال مرهقة إلى العلم بأنها ذنوب ، ثم إلى العلم بآفاتها وقدر ضررها ، ثم العلم بكيفية التوصل إلى الصبر عنها ، ثم إلى العلم بكيفية تكفير ما سبق منها .

فهذه علوم يختص بها أطباء الدين ، وهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء فالعاصي إن علم عصيانه ، فعليه طلب العلاج من الطبيب ، وهو العالم وإن كان لا يدري أن ما يرتكبه ذنب ، فعلى العالم أن يعرفه ذلك وذلك بأن يتكفل كل عالم بإقليم أو بلدة ، أو محلة ، أو مسجد أو مشهد فيعلم أهله دينهم ويميز ما يضرهم عما ينفعهم وما يشقيهم عما يسعدهم ، ولا ينبغي أن يصبر إلى أن يسأل عنه ، بل ينبغي أن يتصدى لدعوة الناس إلى نفسه فإنهم ورثة الأنبياء والأنبياء ما تركوا الناس على جهلهم ، بل كانوا ينادونهم في مجامعهم ويدورون على أبواب دورهم في الابتداء ، ويطلبون واحدا واحدا فيرشدونهم فإن مرضى القلوب لا يعرفون مرضهم كما أن الذي ظهر على وجهه برص ولا مرآة معه لا ، يعرف برصه ما لم يعرفه غيره ، وهذا فرض عين على العلماء كافة ، وعلى السلاطين كافة أن يرتبوا في كل قرية ، وفي كل محلة فقيها متدينا يعلم الناس دينهم ; فإن الخلق لا يولدون إلا جهالا فلا بد من تبليغ الدعوة إليهم في الأصل والفرع ، والدنيا دار المرضى ; إذ ليس في بطن الأرض إلا ميت ، ولا على ظهرها إلا سقيم ومرض ، القلوب أكثر من مرض الأبدان ، والعلماء أطباء والسلاطين قوام دار المرضى ، فكل مريض لم يقبل العلاج بمداواة العالم ، يسلم إلى السلطان ليكف شره ، كما يسلم الطبيب المريض الذي لا يحتمي أو الذي غلب عليه الجنون إلى القيم ليقيده بالسلاسل والأغلال ويكف شره عن نفسه وعن سائر الناس .

وإنما صار مرض القلوب أكثر من مرض الأبدان ; لثلاث علل : إحداها أن المريض به لا يدري أنه مريض .

والثانية أن عاقبته غير مشاهدة في هذا العالم بخلاف مرض البدن فإن عاقبته موت مشاهد تنفر الطباع منه ، وما بعد الموت غير مشاهد ، وعاقبة الذنوب موت القلب وهو غير مشاهد في هذا العالم ، فقلت : النفرة عن الذنوب ، وإن علمها مرتكبها فلذلك تراه يتكل على فضل الله في مرض القلب ، ويجتهد في علاج مرض البدن من غير اتكال .

والثالثة وهو الداء العضال فقد الطبيب ; فإن الأطباء هم العلماء ، وقد مرضوا في هذه الأعصار مرضا شديدا عجزوا عن علاجه ، وصارت لهم سلوة في عموم المرض حتى لا يظهر نقصانهم ، فاضطروا إلى إغواء الخلق والإشارة عليهم بما يزيدهم مرضا ; لأن الداء المهلك هو حب الدنيا وقد غلب هذا الداء على الأطباء فلم يقدروا على تحذير الخلق منه استنكافا من أن يقال لهم ، فما بالكم تأمرون بالعلاج وتنسون أنفسكم فبهذا السبب عم على الخلق الداء ، وعظم الوباء وانقطع الدواء وهلك الخلق لفقد الأطباء ، بل اشتغل الأطباء بفنون الإغواء فليتهم إذ لم ينصحوا لم يغشوا وإذا ، لم يصلحوا لم يفسدوا ، وليتهم سكتوا وما نطقوا ; فإنهم إذا تكلموا لم يهمهم في مواعظهم إلا ما يرغب العوام ويستميل قلوبهم ولا يتوصلون إلى ذلك إلا بالإرجاء ، وتغليب أسباب الرجاء وذكر دلائل الرحمة لأن ذلك ألذ في الأسماع ، وأخف على الطباع فتنصرف الخلق عن مجالس الوعظ وقد استفادوا مزيد جراءة على المعاصي ، ومزيد ثقة بفضل الله ومهما كان الطبيب جاهلا ، أو خائبا أهلك بالدواء حيث يضعه في غير موضعه ; فالرجاء والخوف دواءان ، ولكن لشخصين متضادي العلة ; أما الذي غلب عليه الخوف حتى هجر الدنيا بالكلية ، وكلف نفسه ما لا تطيق وضيق العيش على نفسه بالكلية فتكسر سورة إسرافه في الخوف بذكر أسباب الرجاء ليعود إلى الاعتدال وكذلك المصر على الذنوب المشتهي للتوبة الممتنع عنها بحكم القنوط واليأس استعظاما لذنوبه التي سبقت يعالج أيضا بأسباب الرجاء حتى يطمع في قبول التوبة فيتوب ، فأما معالجة المغرور المسترسل في المعاصي بذكر أسباب الرجاء ، فيضاهي معالجة المحرور بالعسل طلبا للشفاء وذلك من دأب الجهال والأغبياء فإذن فساد الأطباء هي المعضلة الزباء التي لا تقبل الدواء أصلا .

فإن قلت : فاذكر الطريق الذي ينبغي أن يسلكه الواعظ في طريق الوعظ مع الخلق فاعلم أن ذلك يطول ولا يمكن استقصاؤه ، نعم نشير إلى الأنواع النافعة في حل عقدة الإصرار ، وحمل الناس على ترك الذنوب ، وهي أربعة أنواع :

الأول أن يذكر ما في القرآن من الآيات المخوفة للمذنبين والعاصين وكذلك ما ورد من الأخبار والآثار .

مثل قوله صلى الله عليه وسلم : ما من يوم طلع فجره ، ولا ليلة غاب شفقها إلا وملكان يتجاوبان بأربعة أصوات يقول أحدهما : يا ليت هذا الخلق لم يخلقوا ، ويقول الآخر : يا ليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا ? فيقول الآخر يا : ليتهم إذ علموا لماذا خلقوا عملوا بما علموا ، وفي بعض الروايات : ليتهم تجالسوا فتذكروا ما علموا ، ويقول الآخر : يا ليتهم إذ لم يعلموا بما يعملوا تابوا مما عملوا .

التالي السابق


(فإن قلت: أينفع كل علم) يتعلمه الإنسان (لحل عقدة الإصرار أم لا بد من علم مخصوص فاعلم أن العلوم بجملتها أدوية لأمراض القلوب، ولكن) ليس كل فرد من أفراد العلوم ينفع لكل مرض من أمراض القلوب، فكما أن العلوم كثيرة فكذلك أمراض القلوب كثيرة، بل لكل (مرض علم يخصه، كما أن علم الطب نافع في علاج الأمراض) البدنية (بالجملة، ولكن يخص كل علة علم مخصوص) به يستعان على إزالة تلك العلة (فكذلك داء الإصرار، فلنذكر خصوص ذلك العلم على موازنة مرض الأبدان; ليكون ذلك أقرب إلى الفهم، فنقول: يحتاج المريض إلى التصديق بأمور) أربعة: (الأول أن يصدق على الجملة بأن للصحة والمرض أسباب يتوصل إليها بالاختيار على ما رتبه مسبب الأسباب) جل جلاله، (وهذا هو الإيمان بأصل الطب; فإن من لا يؤمن به لا يشتغل بأصل العلاج ويحق عليه الهلاك) أي: يثبت، (وهذا وزانه مما نحن فيه الإيمان بأصل الشرع، وهو أن للسعادة في الآخرة سببا هو الطاعة، وللشقاوة سببا هو المعصية، وهذا هو الإيمان بأصل الشرائع، وهذا لا بد من حصوله، إما عن تحقيق) وبرهان (أو) عن (تقليد، وكلاهما من جملة الإيمان) ، وهذا على صحة إيمان المقلد كما هو مذهب أهل السنة .

(الثاني أنه لا بد أن يعتقد المريض في طبيب معين أنه عالم بالطب [ ص: 610 ] حاذق فيه) بصير بمسائله، (صادق فيما يعبر عنه) ، ويرويه (لا يلبس) أي: لا يخلط، (ولا يكذب) فيما يقول; (فإن إيمانه بأصل الطب لا ينفعه بمجرده دون هذا الإيمان، ووزانه مما نحن فيه العلم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، والإيمان بأن كل ما يقوله حق وصدق، لا كذب فيه ولا خلف .

الثالث: أنه لا بد وأن يصغي إلى الطبيب فيما يحذره عنه من تناول الفواكه) الرطبة، (والأسباب المضرة على الجملة حتى يغلب عليه الخوف في ترك الاحتماء) عن المحذورات (فيكون شدة الخوف باعثا له على الاحتماء) منها، (ووزانه) مما نحن فيه (من الدين الإصغاء إلى الآيات والأخبار المشتملة على الترغيب في التقوى) والخشية، (والتحذير من ارتكاب الذنوب، واتباع الهوى، والتصديق بجميع ما يلقى إلى سمعه من ذلك من غير شك واسترابة) وتردد (حتى ينبعث به الخوف المقوي على الصبر الذي هو الركن الآخر في العلاج .

الرابع: أن يصغي إلى الطبيب فيما يخص مرضه، وفيما يلزمه بنفسه الاحتماء عنه; ليعرفه أولا تفصيل ما يضره من أحواله، وأفعاله، ومأكوله، ومشروبه، فليس على كل مريض الاحتماء عن كل شيء، ولا ينفعه كل دواء، بل لكل علة خاصة علم خاص، وعلاج خاص، ووزانه) مما نحن فيه (من الدين أن كل عبد فليس يبتلى بكل شهوة، وارتكاب كل ذنب، بل لكل مؤمن ذنب مخصوص، أو ذنوب مخصوصة، وإنما حاجته في الحال مرهقة) أولا (إلى العلم بأنها ذنوب، ثم إلى العلم بآفاتها وقدر ضررها في الدين، ثم إلى العلم بكيفية التوصل إلى الصبر عنها، ثم إلى العلم بكيفية تكفير ما سبق منها) ، والضمائر كلها راجعة إلى الذنوب، (فهذه علوم يختص بها أطباء الدين، وهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء) عليهم السلام كما هو في حديث أبي الدرداء عند أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن حبان، وفي حديث البراء عند أبي نعيم، والديلمي، وابن النجار (فالعاصي إن علم عصيانه، فعليه طلب العلاج من الطبيب، وهو العالم وإن كان) العبد (لا يدري أن ما يرتكبه ذنب، فعلى العالم أن يعرفه) بأن الذي ارتكبه محظور، وعاقبته مخطرة، (وذلك بأن يتكفل كل عالم بإقليم) هو فيه، (أو بلدة، أو محلة، أو مسجد فيعلم أهله دينهم) أي: أهل إقليمه، أو بلدته، أو محلته، أو مسجده، (ويميز) لهم (ما يضرهم) في الدين (عما ينفعهم وما يشقيهم عما يسعدهم، ولا ينبغي) للعالم (أن يصبر) ويسكت (إلى أن يسأل عنه، بل ينبغي أن يتصدى لدعوة الناس إلى نفسه فإنهم) أي: العلماء، (ورثة الأنبياء) ، والأنبياء عليهم السلام (ما تركوا الناس على جهلهم، بل كانوا ينادونهم في مجامعهم) ، ونواديهم، (ويدورون على أبواب دورهم في الابتداء، ويطلبون واحدا واحدا فيرشدونهم) إلى طريق التوحيد والهداية; (فإن مرضى القلوب لا يعرفون مرضهم) فيحتاجون إلى من يعرفهم، (كما أن الذي ظهر على وجهه برص) ، وهو لمع بيض، (ولا مرآة معه، فلا يعرف برصه ما لم يعرفه غيره، وهذا فرض عين على العلماء كافة، وعلى السلاطين كافة أن يرتبوا في كل قرية، وفي كل محلة فقيها متدينا يعلم الناس) أمور (دينهم; فإن الخلق لا يولدون إلا جهالا) ، وإنما العلم بالتعلم، (فلابد من تبليغ الدعوة إليهم في الأصل والفرع، والدنيا دار المرضى; إذ ليس في بطن الأرض إلا ميت، ولا على ظهرها [ ص: 611 ] إلا سقيم، ومرضى القلوب أكثر من مرضى الأبدان، والعلماء أطباء) يداوون أولئك المرضى، (والسلاطين قوام دار المرضى، فكل مريض لم يقبل العلاج بمداواة العالم، يسلم إلى السلطان ليكف شره، كما يسلم الطبيب المريض الذي لا يحتمي) عن تناول المضرات (أو الذي غلب عليه الجنون) يسلم (إلى القيم) بالمارستان (ليقيده بالأغلال والسلاسل ويكف شره عن نفسه وعن سائر الناس، وإنما صار مرض القلوب أكثر من مرض الأبدان; لثلاث علل: إحداها أن المريض به لا يدري أنه مريض) بخلاف مريض البدن، فإنه يظهر له مرضه .

(الثانية أن عاقبته غير مشاهدة في هذا العالم) ، بل إنما يشاهدها في عالم الآخرة (بخلاف مرض البدن فإن عاقبته موت مشاهد تنفر الطباع منه، وما بعد الموت غير مشاهد، وعاقبة الذنوب موت القلب وهو غير مشاهد في هذا العالم، فقلت: النفرة من الذنوب، وإن عملها مرتكبها فلذلك تراه يتكل على فضل الله تعالى في مرض القلب، ويجتهد في علاج مرض البدن من غير اتكال) ، ولا ثقة بالله .

(الثالثة وهي الداء العضال) المعطب (فقدا لطبيب; فإن الأطباء) لهذا الداء (هم العلماء، وقد مرضوا في هذه الأعصار مرضا شديدا عجزوا عن علاجه، وصارت لهم سلوة في عموم غموض المرض حتى لا يظهر نقصانهم، فاضطروا إلى إغواء الخلق) وإضلالهم، (والإشارة عليهم بما يزيدهم مرضا; لأن الداء المهلك هو حب الدنيا) ، وهو رأس كل خطيئة كما ورد في الخبر، (وقد غلب هذا الداء على الأطباء فلم يقدروا على تحذير الخلق منه استنكافا) واستكبارا (من أن يقال لهم، فما بالكم تأمرون بالعلاج) لغيركم، (وتنسون أنفسكم) فلا تعالجونها، فيكون سببا لفضيحتهم بينهم، (فبهذا السبب عم على الخلق الداء، وعظم الوباء) ، وفشا (وانقطع الدواء) ، وأيس منه، (وهلك الخلق بفقد الأطباء، بل اشتغل الأطباء بفنون الإغواء) ، وأنواع الضلال، (فليتهم إذ لم ينصحوا لم يغشوا، وإذ لم يصلحوا لم يفسدوا، وليتهم سكتوا وما نطقوا; فإنهم إذا تكلموا لم يهمهم في مواعظهم إلا ما يرغب العوام) من الناس، (ويستميل قلوبهم) إليهم، (ولا يتوصلون لذلك إلا بالإرجاء، وتغليب أسباب الرجاء) على الخوف، (وذكر دلائل الرحمة) وأخبارها; (لأن ذلك ألذ في الأسماع، وأخف على الطباع فتنصرف الخلق عن مجالس الوعظ) والتذكير (وقد استفادوا مزيد جراءة على المعاصي، ومزيد ثقة بفضل الله) تعالى، وأمن من عذابه، (ومهما كان الطبيب جاهلا، أو خائنا أهلك بالدواء) الذي يعالج خلقا كثيرا (حيث يضعه في غير موضعه; فالرجاء والخوف دواءان، ولكن لشخصين متضادي العلة; أما الذي غلب عليه الخوف حتى هجر الدنيا بالكلية، وكلف نفسه ما لا تطيق) من الأمور الثقال، (وضيق العيش على نفسه بالكلية فيكسر سورة إسرافه) ، وجوران إفراطه (في الخوف بذكر أسباب الرجاء ليعود) بذلك (إلى الاعتدال) المحبوب، (وكذلك المصر على الذنوب) الملازم عليها (المشتهي للتوبة الممتنع عنها بحكم القنوط) من رحمة الله، (واليأس) من روح الله; (استعظاما لذنوبه التي سبقت) كالذي قتل تسعة وتسعين نفسا، واشتهى أن يتوب (يعالج أيضا بأسباب) موصلة (للرجاء حتى يطمع في قبول [ ص: 612 ] التوبة، فأما معالجة الغرور) في أحواله (المسترسل في المعاصي بذكر أسباب الرجاء، فيضاهي معالجة المحرور بالعسل) مع حرارة طبعه (طلبا للشفاء) ، وأنى له ذلك، (وذلك من دأب الجهال والأغبياء،.فإذن فساد الأطباء هو الداء المعضل الذي لا يقبل الدواء أصلا .

فإن قلت: فاذكر الطريق الذي ينبغي أن يسلكه الواعظ في طريق الوعظ مع الخلق فاعلم أن ذلك يطول) بيانه (ولا يمكن استقصاؤه، نعم نشير إلى الأنواع النافعة في حل عقدة الإصرار، وحمل الناس على ترك الذنوب، وهي أربعة أنواع: الأول أن يذكر ما في القرآن من الآيات المخوفة للمذنبين والعاصين) وهي كثيرة، (وكذلك ما ورد من الأخبار والآثار) المرفوعة والموقوفة (مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ما من يوم طلع فجره، ولا ليلة غاب شفقها إلا وملكان يتجاوبان بأربعة أصوات يقول أحدهما: يا ليت هذا الخلق) وفي نسخة: الخلائق (لم يخلقوا، ويقول الآخر: يا ليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا؟ فيقول الآخر: ليتهم إذ لم يعلموا لماذا خلقوا عملوا بما علموا، وفي بعض الروايات: ليتهم تجالسوا فتذاكروا ما عملوا، ويقول الآخر: يا ليتهم إذ لم يعملوا بما علموا تابوا مما عملوا) هكذا نقله صاحب القوت، وقال: جمعناها من أخبار متفرقة، وقال العراقي: غريب لم أجده هكذا، وروى الديلمي في مسند الفردوس من حديث ابن عمر أن ملكا ينادي في كل يوم وليلة أبناء الأربعين: "زرع قد دنا حصاده" الحديث، وفيه: ليت الخلائق لم يخلقوا، وليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا فتجالسوا بينهم، فتذاكروا. الحديث ا هـ .

قلت: وبيان تلك الأخبار المتفرقة أن تقول: أما قوله: ما من يوم فهو أول حديث لفظه: ما من يوم طلعت شمسه إلا يقول.. الحديث، وفيه "وما من يوم إلا ينادي مناديان من السماء يقول أحدهما: يا طالب الخير أبشر، يا طالب الشر أقصر، ويقول الآخر: اللهم أعط لمنفق خلفا، اللهم أعط ممسكا مالا تلفا. رواه البيهقي عن عثمان بن محمد بن المغيرة بن أخنس مرسلا، ورواه الديلمي عنه عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس، وزاد: وكذلك يقول في الليل، وروى الديلمي من حديث أبي هريرة: أن لله ملكا بباب من أبواب السماء يقول: من يقرض الله اليوم يجازى غدا، وملك بباب آخر ينادي: اللهم أعط منفقا خلفا، وعجل لممسك تلفا، وأما حديث ابن عمر فلفظه بعد قوله: قد دنا حصاده، أبناء الستين: هلموا إلى الحساب ماذا قدمتم وماذا عملتم، أبناء السبعين، هلموا إلى الحساب ليت الخلائق لم يخلقوا.. الحديث، وفيه بعد قوله: فتذاكروا، وإلا أتتكم الساعة، فخذوا حذركم، وقال صاحب الحلية: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن محمد بن الحسن البغدادي، حدثنا أحمد بن محمد بن حسن المخزومي، حدثنا عبد الرزاق، حدثني بكار بن عبد الله، عن وهب قال: فرأيت في بعض الكتب أن مناديا ينادي من السماء الرابعة كل صباح: أبناء الأربعين ، زرع قد دنا حصاده، أبناء الخمسين، ماذا قدمتم وماذا أخرتم؟ أبناء الستين، لا عذر لكم، ليت الخلق لم يخلقوا. فساقه كسياق الديلمي.




الخدمات العلمية