الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال الخواص دخلنا على رحلة العابدة وكانت قد صامت حتى اسودت وبكت حتى عميت وصلت حتى أقعدت وكانت تصلي قاعدة فسلمنا عليها ثم ذكرناها شيئا من العفو ليهون عليها الأمر قال فشهقت ثم قالت علمي بنفسي قرح فؤادي وكلم كبدي والله لوددت أن الله لم يخلقني ولم أك شيئا مذكورا ثم أقبلت على صلاتها .

فعليك إن كنت من المرابطين المراقبين لنفسك أن تطالع أحوال الرجال والنساء من المجتهدين لينبعث نشاطك ويزيد حرصك ، وإياك أن تنظر إلى أهل عصرك فإنك إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله .

وحكايات المجتهدين غير محصورة ، وفيما ذكرناه كفاية للمعتبر .

وإن أردت مزيدا فعليك بالمواظبة على مطالعة كتاب حلية الأولياء فهو مشتمل على شرح أحوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم وبالوقوف عليه يستبين لك بعدك وبعد أهل عصرك من أهل الدين .

فإن حدثتك نفسك بالنظر إلى أهل زمانك وقالت : إنما تيسر الخير في ذلك الزمان لكثرة الأعوان والآن فإن خالفت أهل زمانك رأوك مجنونا وسخروا بك فوافقهم فيما هم فيه وعليه فلا يجري عليك إلا ما يجري عليهم ، والمصيبة إذا عمت طابت فإياك أن تتدلى بحبل غرورها وتنخدع بتزويرها ، وقل لها : أرأيت لو هجم سيل جارف يغرق أهل البلد وثبتوا على مواضعهم ولم يأخذوا حذرهم لجهلهم بحقيقة الحال وقدرت أنت على أن تفارقيهم وتركبي في سفينة تتخلصين بها من الغرق فهل يختلج في نفسك أن المصيبة إذا عمت طابت أم تتركين موافقتهم وتستجهلينهم في صنيعهم وتأخذين حذرك مما دهاك فإذا كنت تتركين موافقتهم خوفا من الغرق وعذاب الغرق لا يتمادى إلا ساعة فكيف لا تهربين من عذاب الأبد وأنت متعرضة له في كل حال ، ومن أين تطيب المصيبة إذا عمت ، ولأهل النار شغل شاغل عن الالتفات إلى العموم والخصوص ، ولم يهلك الكفار إلا بموافقة أهل زمانهم حيث قالو إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون فعليك إذا اشتغلت بمعاتبة نفسك وحملها على الاجتهاد فاستعصت أن لا تترك معاتبتها وتوبيخها وتعريفها سوء نظرها لنفسها ، فعساها تنزجر عن طغيانها .

التالي السابق


(وقال ) إبراهيم بن أحمد (الخواص ) رحمه الله تعالى (دخلنا على رحلة العابدة وكانت قد صامت حتى اسودت وبكيت حتى عميت وصلت حتى أقعدت وكانت تصلي قاعدة فسلمنا عليها ثم ذكرناها شيئا من العفو ليهون عليها الأمر قال فشهقت ثم قالت علمي بنفسي قرح فؤادي وكلم كبدي والله لوددت أن الله لم يخلقني ولم أك شيئا مذكورا ) ويقرب من هذه القصة ما رواه ابن أبي الدنيا عن محمد بن الحسين قال حدثني أبو جعفر المؤدب حدثنا حفص بن عمر الجعفي قال كانت باليمن امرأة من العرب جليلة جهورية حسنا وجمالا يقال لها خنساء بنت جذام وليست بالصحابية فصامت أربعين عاما حتى لصق جلدها بعظمها وبكت حتى ذهبت عيناها وقامت حتى أقعدت من رجليها وكان طاوس ووهب بن منبه يعظمان قدرها وكانت إذا دجا عليها الليل وهدأت العيون وسكنت الحركات تنادي بصوت لها خزين يا حبيب المطيعين إلى كم تحبس خدود المطيعين في التراب ابعثهم حتى ينتجزوا موعودك الصادق الذي أتعبوا له أنفسهم ثم أنصبوها قال فيسمع البكاء من الدور حولها ومما يليق ذكره من أحوال المجتهدات ما أورده البيهقي في الشعب عن سلامة العابدة قالت بكت عبدة بنت أبي كلاب أربعين سنة حتى ذهب بصرها فقيل لها ما تشتهين قالت الموت قيل ولم ذاك قالت إني أخشى الله في كل يوم حين أصبح أن أجني على نفسي جناية يكون فيها عطبي أيام الآخرة وعن أحمد بن أبي الحواري قال سمعت رابعة تقول ما رأيت ثلجا قط إلا ذكرت تطاير الصحف ولا رأيت جرادا قط إلا ذكرت الحشر ولا سمعت أذانا قط إلا ذكرت منادي القيامة قالت وقلت لنفسي كوني في الدنيا بمنزلة الطير الواقع حتى يأتيك قضاؤه وعن أبي عثمان الخياط قال حدثنا أحمد بن أبي الحواري قال بينا أنا ذات يوم جالس بالشام في قبة ليس عليها باب إلا كساء مسبل إذ أتتني امرأة فدقت علي الحائط فقلت من هذا فقالت امرأة ضالة دلني على الطريق رحمك الله فقلت أي الطريقين تسألين فبكت ثم قالت عن طريق النجاة فقلت هيهات هيهات لا يقطع ذلك الطريق إلا بالسير الحثيث من الجد وتصحيح المعاملة وحذف العلائق الشاغلة من أمر الدنيا والآخرة فبكت ثم قالت أما علائق الدنيا ففهمتها فما علائق الآخرة فقلت لو وافيت القيامة بعمل سبعين نبيا لم يكن لك إلا ما كتب لك في اللوح المحفوظ وإن لجهنم زفرة يوم القيامة لو كان لك عمل سبعين نبيا ما كان لك بد أن ترديها قال فصرخت صرخة ثم قالت سبحان من صان عليك جوارحك فلم تقطع وسبحان من أمسك عليك فلم تتصدع ثم سقطت مغشيا عليها قال ابن أبي الحواري وكانت عندنا جارية من المتعبدات فقلت لها اخرجي فانظري ما قصة هذه المرأة قال فخرجت إليها فإذا هي قد فارقت الدنيا وإذا في جيبها رقعة مكتوب فيها كفنوني في أثوابي فإن يكن لي عند ربي خير فسيبدلني ما هو خير لي منها وإن يكن غير ذلك فبعدا لنفسي وسحقا قال ابن أبي الحواري فإذا خدم قد أحاطوا بالجارية فقلت لبعضهم ما قصة هذه المرأة فقالوا يا أبا [ ص: 143 ] الحسن هذه جارية كان يظهر بها شيء نظن أنها مصابة بعقلها وكان الذي يمنعها من المطعم والمشرب وكانت تشكو إلينا وجعا بجوفها وكنا نعرض عليها الأطباء فكانت تقول أريد متطببا أشكو إليه بعض ما أجد من دائي عسى أن يكون عنده شفائي .اهـ سياق البيهقي وقال أبو بكر التيمي حدثنا محمد بن سليمان القرشي قال بينا أنا أسير في طريق اليمن إذا بغلام واقف في الطريق في أذنيه قرطان في كل قرط جوهرة يضيء وجهه من ضوء تلك الجوهرة وهو يمجد ربه بأبيات من الشعر فسمعته يقول :

عليك في السماء به افتخاري عزيز القدر ليس به خفاء

فدنوت منه فسلمت عليه فقال ما أنا براد عليك حتى تؤدي من حقي الذي يجب عليك قلت وما حقك قال أنا غلام على مذهب إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم لا أتغدى ولا أتعشى كل يوم حتى أسير الميل والميلين في طلب الضيف فأجبته إلى ذلك فترحب بي وسرت معه حتى قربنا من خيمة شعر فلما قربنا من الخيمة صاح يا أختاه فأجابته جارية من الخيمة قال قومي إلى ضيفنا قالت الجارية حتى أبدأ بشكر المولى الذي سبب لنا هذا الضيف فقامت فصلت ركعتين شكرا فأدخلني الخيمة وأجلسني وأخذ الغلام أغناما ليذبحها فلما جلست في الخيمة نظرت إلى أحسن الناس وجها فكنت أسارقها ففطنت لبعض لحظاتي إليها فقالت لي مه أما علمت أنه نقل إلينا عن صاحب يثرب أن زنا العينين النظر أما إني ما أردت بهذا أن أوبخك ولكني أردت أن أؤدبك لكيلا تعود لمثل هذا فلما كان النوم بت أنا والغلام خارجا وباتت الجارية في الخيمة فكنت أسمع دوي القرآن الليل كله بأحسن صوت يكون وأرقه فلما أن أصبحت قلت للغلام صوت من كان ذلك فقال تلك أختي تحيي الليل كله إلى الصباح فقلت يا غلام أنت أحق بهذا العمل من أختك أنت رجل وهي امرأة قال فتبسم ثم قال لي ويحك يا فتى أما علمت أنه موثق ومخذول وروى ابن باكويه من طريق موسى بن عبد الملك المروزي قال قال مالك بن دينار بينا أنا أطوف بالبيت إذا أنا بامرأة في الحجر وهي تقول أتيتك من شقة بعيدة مؤملة لمعروفك فأنلني معروفا من معروفك تغنيني به عن معروف من سواك يا معروفا بالمعروف فعرفت أيوب السختياني فسألنا عن منزلها وقصدناها وسلمنا عليها فقال لها أيوب قولي خيرا يرحمك الله قالت وما أقول أشكو إلى الله قلبي وهواي فقد أضرا بي وشغلاني عن عبادة ربي قوما فإني أبادر على صحيفتي قال أيوب فما حدثت نفسي بامرأة قبلها فقلت لها لو تزوجت رجلا كان يعينك على ما أنت عليه قالت لو كان مالك بن دينار أو أيوب السختياني ما أردته فقلت أنا مالك بن دينار وهذا أيوب السختياني فقالت أف لقد ظننت أنه يشغلكما ذكر الله عن محادثة النساء وأقبلت على صلاتها فسألنا عنها فقالوا هذه مليكة بنت المنكدر وقال ابن أبي الدنيا حدثنا محمد بن إدريس حدثني محمد بن علي بن حسان الهاشمي حدثنا أبو خالد البراد قال كلمنا ابنة المنكدر في تخفيف بعض العبادة فقالت دعوني أبادر طي صحيفتي وقال إبراهيم بن مسلم القرشي كانت فاطمة بنت محمد بن المنكدر تكون نهارها صائمة فإذا جنها الليل تنادي بصوت حزين هدأ الليل واختلط الظلام وأوى كل حبيب إلى حبيبه وخلوتي بك أيها المحبوب أن تعتقني من النار وقال ابن أبي الدنيا حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق المروزي حدثنا خاقان بن عبد الله بن المبارك أن امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها اكشفي لي عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم فكشفت لها عنه فبكت حتى ماتت قال ابن أبي الدنيا وحدثني محمد بن الحسين حدثني إبراهيم بن عبد الله المديني قال حدثني بعض أصحابنا أن امرأة كانت بالمدينة ترهق فدخلت المقابر ذات يوم فإذا هي بجمجمة قد بدت قال فصرخت ثم رجعت منيبة فدخل عليها نساؤها فقالت بكى قلبي لذكر الموت لما رأيت جماجم فوق القبور ثم قالت اخرجن عني ولا يأتين منكن امرأة إلا امرأة ترغب في خدمة الله عز وجل ثم أقبلت على العبادة حتى ماتت على ذلك قال وحدثني محمد بن الحسين حدثني عبد الله بن نافع الزبيدي حدثني أبو أيوب رجل من قريش أن امرأة من أهله كانت تجتهد في العبادة وتديم الصيام وتطيل القيام فأتاها [ ص: 144 ] الملعون فقال إلى كم تعذبين هذا الجسد وهذه الروح لو أفطرت وقصرت عن القيام كان أدوم لك وأقوى قالت فلم يزل يوسوس لي حتى هممت والله بالتقصير قالت ثم دخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم معتصمة بقبره وذلك بين المغرب والعشاء فذكرت الله وصليت على رسوله صلى الله عليه وسلم ثم ذكرت ما نزل بي من وساوس الشيطان واستغفرت وجعلت أدعو الله أن يصرف عني كيده ووساوسه قالت فسمعت صوتا من ناحية القبر يقول إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير قالت فرجعت مذعورة وجلة القلب فوالله ما عاودتني تلك الوسوسة بعد تلك الليلة وقال ابن أبي الدنيا حدثنا محمد بن الحسين حدثني عبد الله بن الزبير الحميري حدثني فضلة بن خالد المخزومي وكان من خيار بني مخزوم قال كانت ههنا امرأة من بني مخزوم مجاورة يقال لها حكيمة وكانت إذا نظرت إلى باب الكعبة قد فتح صرخت كما تصرخ الثكلى فلا تزال تصرخ حتى يغمى عليها وكانت لا تكاد تفارق المسجد إلا للأمر الذي لا بد منه قال ففتحت الكعبة يوما وهي في بعض حاجتها فلما جاءت قالت لها امرأة كانت تجالسها يا حكيمة اليوم فتح بيت ربك فلو رأيت الطائفين يطوفون به والباب مفتوح وهم ينتظرون الرحمة من مليكهم لقد قرت عينك قال فصرخت حكيمة صرخة لم تزل تضطرب حتى ماتت قال ابن أبي الدنيا وحدثني محمد بن صالح بن يحيى النهمي حدثني أبو الوراق أخبرني من سمع نقيش بنت سالم بمكة وهي تقول يا سيد الأنام زجلت بي الشقة وهذا مقام العائذ بعفوك من سخطك وبرحمتك من غضبك يا حبيب الأوابين يا من لا يكديه الإعطاء يا ذا المن والآلاء أدلى بالثقة منك وصلة قراي منك عتق رقبتي قال ورأيتها بالموقف وهي تقول بهطتني الآثام كحلت عيني بمكحول الخزي فوعزتك لا أضحك أبدا حتى أعلم أين محل قراري وإلى أين تصير دياري فلما رأت أيدي الناس مبسوطة للدعاء قالت يا رب أقامهم هذا المقام خوف النار يا قرة عيني وعيون الأبرار يلتمسون نائلك ويرجون فضلك انصرف الناس ولم أشعر قلبي منك اليأس وقال أبو عبد الرحمن السلمي ذكر جعفر بن محمد عن بعض مشايخه عن أبي عبيد القاسم بن سلام قال دخلت مكة وكنت ربما أقعد بحذاء الكعبة وربما كنت أستلقي وأمد رجلي فجاءتني عائشة المكية وكانت من العابدات ممن صحب الفضيل فقالت لي يا عبد الله يقال إنك عالم اقبل مني كلمة لا تجالسه إلا بأدب وإلا فيمحو اسمك من ديوان القرب وقال أبو القاسم علي بن الحسن التنوخي أخبرني أبي قال حدثني عبد الله بن أحمد بن بكر قال كان لأبي الحسن المكي ابنة مقيمة بمكة أشد ورعا منه وكانت لا تقتات إلا ثلاثين درهما ينقدها إليها أبوها في كل سنة مما يستفضله من ثمن الخوص الذي يسفه ويبيعه فأخبرني ابن الرواس التمار وكان جاره قال جئت أودعه للحج وأستعرض حاجته وأسأله أن يدعو لي فسلم إلي قرطاسا وقال تسأل بمكة الموضع الفلاني عن فلانة وتسلم هذا إليها فعلمت أنها ابنته فأخذت القرطاس وجئت فسألت عنها فوجدتها بالعبادة والزهد أشد اشتهارا من أن تخفى فتبعت نفسي أن يصل إليها من مالي شيء يكون لي ثوابه وعلمت أني إن دفعت إليها ذلك لم تأخذه ففتحت القرطاس وجعلت الثلاثين خمسين درهما ورددته كما كان وسلمته إليها فقالت أي شيء خبر أبي فقلت سلامة فقالت قد خالط أهل الدنيا وترك الانقطاع إلى الله تعالى فقلت كما قالت فأسألك بالله وبمن حججت إليه عن شيء فتصدقني فقلت نعم فقالت خلطت بهذه الدراهم شيئا من عندك فقلت نعم إني علمت بذلك فقالت إن أبي ما كان يزيدني على الثلاثين شيئا لأن حاله لا تحتمل أكثر منها إلا أن يكون ترك العبادة فلو أخبرتني بذلك ما أخذت منه أيضا شيئا ثم قالت لي خذ الجميع فقد عتقتني من حيث قدرت أنك تبرني فقلت ولم قالت لا آكل شيئا ليس من كسبي ولا كسب أبي ولا آخذ من مال لا أعرف كيف هو شيئا فقلت خذي منها ثلاثين كما أنفذ إليك أبوك وردي الباقي فقالت لو عرفتها بعينها من جملة الدراهم لأخذتها ولكن اختلطت بما لا أعرف جهته فلا آخذ منها شيئا وأنا الآن أقتات إلى الموسم الآخر من المزابل لأن هذه كانت قوتي طول السنة وقد أجعتني ولولا أنك ما قصدت أذاي لدعوت عليك قال فاغتممت وعدت [ ص: 145 ] إلى البصرة وجئت إلى أبي الحسن فأخبرته واعتذرت إليه فقال لا آخذها وقد اختلطت بغير مالي وقد عققتني وإياها قال فقلت فما أعمل بالدراهم فقال لا أدري فما زلت مدة أعتذر إليه وأسأله ما أعمل بالدراهم فقال لي بعد مدة تصدق بها ففعلت وقال أبو الفتح بن أبي الفوارس أخبرنا أبو عمرو بن حمدان حدثنا مسدد حدثنا الدورقي حدثنا عبد الله بن عبيد الله البكري عن جعفر بن سليمان حدثنا مالك بن دينار قال رأيت بمكة امرأة من أحسن الناس عينين قال فكان النساء يجئن فينظرن إليها فأخذت في البكاء فقيل لها تذهب عيناك فقالت إن كنت من أهل الجنة فسيبدلني عينين أحسن من هاتين وإن كنت من أهل النار فسيصيبهما أشد من هذا قال فبكت حتى ذهبت إحدى عينيها وقال مهدي بن حفص حدثني أبو عبد الرحمن المغازلي قال كانت امرأة مجاورة بمكة تسمى حكيمة فدخلنا عليها ذات يوم فقالت لها امرأة كانت تخدمها إخوانك جاءوك يحبون أن يسمعوا كلامك قال فبكت طويلا ثم أقبلت علينا فقالت إخواني وقرة عيني مثلوا القيامة نصب أبصار قلوبكم وردوا على أنفسكم ما قد تقدم من أعمالكم فما ظننتم أنه قد يجوز في ذلك اليوم فارغبوا إلى السيد في قبوله وتمام النعمة فيه وما خفتم أن يرد في ذلك اليوم عليكم فخذوا في إصلاحه من اليوم ولا تغفلوا عن أنفسكم فترد عليكم حيث لا يوجد البدل ولا يقدر على الفداء قال ثم بكت طويلا ثم أقبلت علينا فقالت إخواني وقرة عيني إنما صلاح الأبدان وفسادها حسن النية وسوؤها إخواني وقرة عيني إنما نال المتقون المحبة لمحبتهم له وانقطاعهم إليه ولولا الله ورسوله ما نالوا ذلك ولكنهم أحبوا الله ورسوله فأحبهم عباد الله لحبهم الله ورسوله إخواني وقرة عيني كلم الخوف قلوب أهله فاقتطعهم والله وشغلهم عن مطاعم اللذات والشهوات إخواني وقرة عيني بقدر ما تعرضون عن الله يعرض عنكم بخيره وبقدر ما تقبلون عليه كذلك يقبل عليكم ويزيدكم من فضله إنه واسع كريم وقال ابن أبي الدنيا حدثنا عبد الرحمن بن رباب الطائي حدثنا عبد الرحمن المحاربي عن سفيان عن ابن أبي رواد قال كانت عندنا امرأة بمكة تسبح كل يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة فماتت فلما بلغت القبر اختلست من أيدي الرجال قال وحدثنا أبو علي المديني حدثنا أبو الحسن أكدام وكان من خيار الناس قال كانت امرأة بمكة يأتيها العباد فيتحدثون عندها ويتواعظون فقالت لهم يوما حجبت قلوبكم الدنيا عن الله فلو خليتموها لجالت في ملكوت السماء ولأتتكم بطرف الفوائد قال وحدثنا محمد بن الحسين حدثني صالح بن عبد الكريم قال دللت على امرأة بمكة أو بالمدينة تتعبد فأتيتها وهي تتكلم قال فأحسنت حتى سكتت قال فصبرت حتى تفرق الناس عنها ثم دنوت منها فقلت لقد تكلمت فأحسنت ولقد خشيت عليك العجب فقالت إنما العجب من شيء هو منك فأما إن كان من غيرك ففيم العجب ثم قالت وله خصائص مصطفون لحبه * اختارهم من سالف الأزمان اختارهم من قبل فطرة خلقهم * بودائع وبحكمة وقيان ثم قالت انهض إذا شئت قال وحدثني محمد بن عباد بن موسى حدثنا مروان بن معاوية الفزاري عن عبد الرحمن بن الحكم قال كانت عجوز من قريش بمكة تأوي في سرب ليس لها بيت غيره فقيل لها أترضين بهذا فقالت أوليس هذا لمن يموت كثير وقال ابن شاذان أخبرنا عثمان بن أحمد حدثنا العباس بن يوسف حدثني محمد بن عبد الله القارئ حدثني محمد بن بكار قال كانت عندنا بمكة امرأة عابدة لا تمر بها ساعة إلا وهي صارخة فقيل لها يوما إنا لنراك على حال ما نرى غيرك عليها فإن كان لك داء عالجناك قال فسكتت وقالت من لي بعلاج هذا الداء وهل أقرح قلبي إلا التفكر في مثل معالجته أوليس عجبا أن أكون حية بين أظهركم وفي قلبي من الاشتياق إلى ربي مثل شعل النار التي لا تطفأ متى أصير إلى الطبيب الذي عنده برء دائي وشفاء قلب قد أنضجه طول الأحزان في هذه الدار التي لا أجد فيها على البكاء مسعدا قال وحدثنا محمد بن الحسين حدثني عصام بن عثمان الحلبي حدثني مسمع بن عاصم قال قالت لي رابعة العدوية اعتللت علة فقطعتني عن التهجد وقيام الليل فمكثت أياما أقرأ جزئي إذا ارتفع النهار لما يذكر فيه أنه يعدل لقيام الليل قالت ثم رزقني الله العافية فاعتادتني فترة في عقب العلة فكنت قد سكنت إلى قراءة جزئي [ ص: 146 ] بالنهار وانقطع عني قيام الليل قالت: فبينا أنا ذات ليلة راقدة رأيت في منامي كأني دفعت إلى روضة خضراء ذات قصور ونبت حسن، فبينا أنا أجول فيها أتعجب من حسنها إذا أنا بطائر أخضر وجارية تطارده كأنها تريد أخذه، قالت: فشغلني حسنها عن حسنه، فقلت: ما تريدين منه؟ دعيه فوالله ما رأيت طائرا قط أحسن منه، قالت: أفلا أريك أحسن منه؟! قلت: بلى، قالت: فأخذت بيدي فأدارت بي في تلك الروضة حتى انتهت بي إلى باب قصر، فاستفتحت ففتح لها، ثم قالت: افتحوا لي بيت المقة، قالت: ففتح لها باب شاع منه شعاع استنار من ضوء نوره ما بين يدي وما خلفي، قالت: فدخلت، وقالت لي: ادخلي، قالت فدخلت إلى بيت يحار فيه البصر تلألؤا وحسنا، ما أعرف له في الدنيا شبها أشبهه، قالت: فبينا نحن نجول فيه إذ رفع لنا باب يخرق إلى بستان، قالت: فأهوت نحوه وأنا معها، فتلقانا منه وصفاء كأن وجوههم اللؤلؤ بأيديهم المجامر، فقالت لهم: أين تريدون؟ قالوا: نريد فلانا قتل في البحر شهيدا، قالت: أفلا تجمروا هذه المرأة؟!! قالوا: قد كان لها في ذلك حظ فتركته، قالت: فأرسلت يدها من يدي ثم أقبلت علي فقالت:


صلاتك نور والعباد رقود ونومك ضد للصلاة عنيد
وعمرك غنم إن غفلت ومهلة يسير ويفنى دائما ويبيد

قالت: ثم غابت من بين يدي عن عيني واستيقظت حين تبدى الفجر، قالت: فوالله ما ذكرتها فتوهمتها إلا طاش عقلي، وأنكرت نفسي، قال: ثم سقطت رابعة مغشيا عليها (فعليك إن كنت من المرابطين المراقبين لنفسك أن تطالع أحوال الرجال والنساء من المجتهدين) والمجتهدات في الطاعات (لينبعث نشاطك ويزيد حرصك، وإياك أن تنظر إلى أهل عصرك فإنك إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله، وحكايات المجتهدين غير محصورة، وفيما ذكرناه) من النبذة اليسيرة (كفاية للمعتبر، وإن أردت مزيدا فعليك بالمواظبة على مطالعة كتاب حلية الأولياء) ، وطبقة الأصفياء تصنيف الشيخ الإمام الحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن اسحاق الأصفهاني رحمه الله تعالى (فهو مشتمل على شرح أحوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم) قال في أول كتابه: أما بعد، أحسن الله وفيقك فقد استعنت بالله وأجبتك إلى ما ابتغيت من جمع كتاب يتضمن أسامي جماعة من الصحابة وبعض أحاديثهم وكلامهم من أعلام المتحققين من المتصوفة وأئمتهم وترتيب طبقاتهم من النساك ومجمعتهم من قرن الصحابة والتابعين وتابعيهم من بعدهم ممن عرف الأدلة والحقائق وباشر الأحوال والطرائق وساكن الرياض والحدائق وفارق العوارض والعلائق إلى آخر ما قال، إلى أن قال: إذ لأسلافنا في التصوف العلم المنشور والصيت والذكر المشهور، فقد كان جدي محمد بن يوسف البنا رحمه الله تعالى أحد من نشر الله به ذكر بعض المنقطعين إليه وغمر به أحوال كثير من المقبلين عليه، ولنذكر هنا نبذة من ترجمته وعدة تصانيفه وكيفية الاتصال به، هو الإمام الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن مهران سبط الشيخ العارف محمد بن يوسف البنا رحمهم الله تعالى ولد في رجب سنة 336 وتوفي بكرة يوم الاثنين 21 محرم سنة 430 غسله الحافظ أبو مسعود إبراهيم بن سليمان وصلى عليه محمد بن عبد الواحد وله أربع وتسعون سنة ودفن إلى جنب الشورذجاني، وقبره يستجاب عنده الدعاء، قال الحافظ أبو موسى المديني أسلم جده مهران وهو مولى عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وجده من قبل أمه محمد بن يوسف بن معدان بن زيد الثقفي الصوفي الشهير بالبنا كان رأسا في التصوف وصنف كتبا حسانا .

وقال الحافظ أبو طاهر السلمي: كان أبو نعيم في وقته مرحولا إليه، ولم يكن في أفق من الآفاق أسند ولا أحفظ منه، وكان حفاظ الدنيا قد اجتمعوا عنده، فكان كل يوم نوبة واحد منهم يقرأ ما يريده إلى قريب من الظهر، فإذا قام إلى داره ربما كان يقرأ عليه في الطريق جزأ، وكان لا يضجر، ولم يكن له غذاء سوى التصنيف أو القراءة عليه، قال: سمعت مرة يذكر أن أبا نعيم سئل ممن تعلمت العربية فقال: من رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني: أنه تخرج بقراءة الحديث وسماعه وكتبه والنظر فيه [ ص: 147 ] قال: وسمعت السيد حمزة بن العباس العلوي الأصبهاني بهمدان يقول: كان أصحاب الحديث في مجلس أحمد بن الفضل الباطرقاني يقولون وأنا أسمع: بقي أبو نعيم أربع عشرة سنة بلا نظير ولا يوجد شرقا وغربا أعلى إسنادا ولا أحفظ منه، وكانوا يقولون: لما صنف كتاب الحلية حمل إلى نيسابور حال حياته فاشترى هناك بأربعمائة دينار وبلغت عدة تصانيفه أربعمائة مجلد، قال الإمام منتخب الدين أبو الفتوح العجلي: كان أبو نعيم صاحب التصانيف الكثيرة ولعلها تبلغ أربعمائة، ومناقبه تصانيفه، وكتابه حلية الأولياء عشر مجلدات ومعرفة الصحابة في ثلاث مجلدات ودلائل النبوة في ثلاث مجلدات، وقد حصلت بحمد الله تعالى كتابه حلية الأولياء أجزاء متفرقة من مواضع شتى وكمل عندي غالبه إلا ما قل منه، وناهيك به شرفا ما ذكره بعضهم أنه لا يدخل الشيطان بيتا فيه هذا الكتاب، وقد جمع رجاله في أرجوزة محمد بن جابر الأندلسي في كراسين أحسن فيها للغاية .

ورويت هذا الكتاب عن جماعة من الشيوخ ما بين إجازة خاصة وعامة منهم المسند أبو حفص عمر بن أحمد بن عقيل بن الحسين المكي عن كل من المشايخ الثلاثة، خاله حافظ الحجاز عبد الله بن سالم البصري والشهاب أحمد بن علي بن محمد النخلي وأبي الأسرار الحسن بن علي بن يحيى الحنفي قالوا: أخبرنا الحافظ شمس الدين محمد بن العلاء، أخبرنا علي بن يحيى، أخبرنا يوسف بن زكريا، أخبرنا الحافظ شمس الدين أبو الخير محمد بن عبد الرحمن السخاوي، أخبرنا الحافظان أبو الفضل أحمد بن علي العسقلاني ومستمليه زين الدين رضوان بن يوسف العقبي، ومسند القاهرة عز الدين عبد الرحيم بن محمد بن الفرات قال الأولان: أخبرنا الشرف محمد بن عبد اللطيف بن الكويك والزين عبد الرحمن بن أحمد الغزي قال ابن الكويك: أخبرنا إبراهيم بن علي القطبي، وقال الغزي: أخبرنا علي بن إسماعيل المخزومي قالا: أخبرنا النجيب أبو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم بن علي الحراني.

وقال ابن الفرات: أخبرنا عمر بن الحسين المراغي، أخبرنا الفخر محمد بن النحامي قال هو والحراني: أخبرنا أبو المكارم أحمد بن محمد اللبان وأبو الحسن مسعود بن محمد بن منصور الحمال، قال: أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد بن الحسين الحداد، أخبرنا الحافظ أبو نعيم رحمه الله تعالى .

(وبالوقوف عليه يستبين لك بعدك وبعد أهل عصرك من أهل الدين، فإن حدثتك نفسك بالنظر إلى أهل زمانك وقالت: إنما تيسر الخير في ذلك الزمان لكثرة الأعوان) عليه (و) أما (الآن فإن خالفت أهل زمانك) في زيهم وطريقتهم (رأوك مجنونا) قليل العقل (وسخروا بك) ، واستقلوا مقامك (فوافقتهم فيما هم فيه وعليه فلا يجري عليك إلا ما يجري عليهم، والمصيبة إذا عمت) أي: شملت الناس جميعا (طابت) ، وهانت (فإياك أن تتدلى بحبل غرورها وتنخدع بتزويرها، وقل لها: أرأيت) أيتها النفس (لو هجم سيل جارف) يجرف الأرض وما عليها (يفرق أهل البلد وثبتوا على مواضعهم) ماكثين (ولم يأخذوا حذرهم لجهلهم بحقيقة الحال وقدرت أنت على أن تفارقيهم وتركبي في سفينة تتخلصي بها من الغرق فهل يختلج في نفسك أن المصيبة إذا عمت طابت أم تتركي موافقتهم وتستجهلينهم في صنيعهم وتأخذي حذرك مما دهاك) ، وهجم عليك (فإذا كنت تتركين موافقتهم خوفا من الغرق) والهلاك (وعذاب الغرق لا يتمادى إلا ساعة) ريثما تزهق الروح، (فكيف لا تهربي من عذاب الأبد وأنت متعرضة له في كل حال، ومن أين تطيب المصيبة) ، وتهون (إذا عمت، ولأهل النار شغل شاغل عن الالتفات إلى العموم والخصوص، ولم يهلك الكفار إلا بموافقة أهل زمانهم حيث قالوا) كما أخبر الله تعالى عنهم: ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون فعليك إذا اشتغلت بمعاتبة نفسك أو تحملها على الاجتهاد فاستعصت) ، ولجت في طغيانها وأبت في طاعتك فيما تحملها (أن لا تترك معاتبتها وتوبيخها وتقريعها) بعصا المواعظ والزواجر (وتعريفها سوء نظرها لنفسها، فعساها لتنزجر عن طغيانها) .




الخدمات العلمية