الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما النوع الثاني : وهو الطاعات فينظر أولا في الفرائض المكتوبة عليه أنه كيف يؤديها وكيف يحرسها عن النقصان والتقصير أو كيف يجبر نقصانها بكثرة النوافل ثم يرجع إلى عضو عضو فيتفكر في الأفعال التي تتعلق بها مما يحبه الله تعالى ، فيقول مثلا .

: إن العين خلقت للنظر في ملكوت السماوات والأرض عبرة ولتستعمل في طاعة الله تعالى وتنظر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأنا قادر على أن أشغل العين بمطالعة القرآن والسنة فلم لا أفعله وأنا قادر على أن أنظر إلى فلان المطيع بعين التعظيم ، فأدخل السرور على قلبه وأنظر إلى فلان الفاسق بعين الازدراء فأزجره بذلك عن معصيته ، فلم لا أفعله .

؟ وكذلك يقول في سمعه: إني قادر على استماع كلام ملهوف أو استماع حكمة وعلم أو استماع قراءة وذكر فما لي ، أعطله وقد أنعم الله علي به وأودعنيه لأشكره فما لي ، أكفر نعمة الله فيه بتضييعه أو تعطيله .

، وكذلك يتفكر في اللسان ويقول : إني قادر على أن أتقرب إلى الله تعالى بالتعليم والوعظ والتودد إلى قلوب أهل الصلاح وبالسؤال عن أحوال الفقراء وإدخال السرور على قلب زيد الصالح وعمرو العالم بكلمة طيبة ، وكل كلمة طيبة فإنها صدقة .

وكذلك يتفكر في ماله فيقول : أنا قادر على أن أتصدق بالمال الفلاني ، فإني مستغن عنه ، ومهما احتجت إليه رزقني الله تعالى مثله وإن كنت محتاجا الآن فأنا إلى ثواب الإيثار أحوج مني إلى ذلك المال .

وهكذا يفتش عن جميع أعضائه وجملة بدنه وأمواله بل عن دوابه وغلمانه وأولاده فإن كل ذلك أدواته وأسبابه ويقدر على أن يطيع الله تعالى بها فيستنبط بدقيق الفكر وجوه الطاعات الممكنة بها ، ويتفكر فيما يرغبه في البدار إلى تلك الطاعات ويتفكر في إخلاص النية فيها ، ويطلب لها مظان الاستحقاق حتى يزكو بها عمله وقس على هذا سائر الطاعات .

وأما النوع الثالث فهي : الصفات المهلكة التي محلها القلب فيعرفها مما ذكرناه في ربع المهلكات وهي استيلاء الشهوة والغضب والبخل والكبر والعجب والرياء والحسد وسوء الظن والغفلة والغرور وغير ذلك ويتفقد من قلبه هذه الصفات ، فإن ظن أن قلبه منزه عنها فيتفكر في كيفية امتحانه والاستشهاد بالعلامات عليه فإن النفس أبدا تعد بالخير من نفسها وتخلف فإذا ادعت التواضع والبراءة من الكبر فينبغي أن تجرب بحمل حزمة حطب في السوق كما كان الأولون يجربون به أنفسهم .

وإذا ادعت الحلم تعرض لغضب يناله من غيره ثم يجربها في كظم الغيظ وكذلك في سائر الصفات .

وهذا تفكر في أنه هل موصوف بالصفة المكروهة أم لا ، ولذلك علامات ذكرناها في ربع المهلكات فإذا دلت العلامة على وجودها فكر في الأسباب التي تقبح تلك الصفات عنده وتبين أن منشأها من الجهل والغفلة وخبث الدخلة .

كما لو رأى في نفسه عجبا بالعمل فيتفكر ويقول: إنما عملي ببدني وجارحتي وبقدرتي وإرادتي : وكل ذلك ليس مني ولا إلي ، وإنما هو من خلق الله وفضله علي ، فهو الذي خلقني وخلق جارحتي وخلق قدرتي وإرادتي ، وهو الذي حرك أعضائي بقدرته ، وكذلك قدرتي وإرادتي فكيف أعجب بعملي أو بنفسي ولا أقوم لنفسي بنفسي .

فإذا أحس في نفسه بالكبر قرر (على) نفسه ما فيه من الحماقة ويقول لها : لم ترين نفسك أكبر ، والكبير من هو عند الله كبير وذلك ينكشف بعد الموت وكم من كافر في الحال يموت مقربا إلى الله تعالى بنزوعه عن الكفر وكم من مسلم يموت شقيا بتغير حاله عند الموت بسوء الخاتمة .

فإذا عرف أن الكبر مهلك وأن أصله الحماقة فيتفكر في علاج إزالة ذلك بأن يتعاطى أفعال المتواضعين .

وإذا وجد في نفسه شهوة الطعام وشرهه تفكر في أن هذه صفة البهائم ، ولو كان في شهوة الطعام والوقاع كمال لكان ذلك من صفات الله وصفات الملائكة كالعلم والقدرة ، ولما اتصف به البهائم ، ومهما كان الشره عليه أغلب كان بالبهائم أشبه وعن الملائكة المقربين أبعد .

وكذلك يقرر على نفسه في الغضب ثم يتفكر في طريق العلاج ، وكل ذلك ذكرناه في هذه الكتب .

فمن يريد أن يتسع له طريق الفكر فلا بد له من تحصيل ما في هذه الكتب .

وأما النوع الرابع وهو المنجيات فهو التوبة والندم على الذنوب والصبر على البلاء والشكر على النعماء والخوف والرجاء والزهد في الدنيا والإخلاص والصدق في الطاعات ومحبة الله وتعظيمه والرضا بأفعاله والشوق إليه والخشوع والتواضع له .

وكل ذلك ذكرناه في هذا الربع وذكرنا أسبابه وعلاماته .

فليتفكر العبد كل يوم في قلبه ما الذي يعوزه من هذه الصفات التي هي المقربة إلى الله تعالى ، فإذا افتقر إلى شيء منها فليعلم أنها أحوال لا يثمرها إلا علوم ، وأن العلوم لا يثمرها إلا أفكار .

فإذا أراد أن يكتسب لنفسه أحوال التوبة والندم فليفتش ذنوبه أولا ، وليتفكر فيها وليجمعها على نفسه وليعظمها في قلبه .

ثم لينظر في الوعيد والتشديد الذي ورد في الشرع فيها وليتحقق عند نفسه أنه متعرض لمقت الله تعالى حتى ينبعث له حال الندم .

وإذا أراد أن يستثير من قلبه حال الشكر فلينظر في إحسان الله إليه وأياديه عليه وفي إرساله جميل ستره عليه على ما شرحنا بعضه في كتاب الشكر فليطالع ، ذلك .

وإذا أراد حال المحبة والشوق فليتفكر في جلال الله وجماله وعظمته وكبريائه ، وذلك بالنظر في عجائب حكمته وبدائع صنعه كما سنشير إلى طرف منه في القسم الثاني من الفكر وإذا ، أراد حال الخوف فلينظر أولا في ذنوبه الظاهرة والباطنة ، ثم لينظر في الموت وسكراته ثم فيما بعده من سؤال منكر ونكير وعذاب القبر وحياته وعقاربه وديدانه ، ثم في هول النداء عند نفخة الصور ، ثم في هول المحشر عند جمع الخلائق على صعيد واحد ، ثم في المناقشة في الحساب في النقير والقطمير ثم في الصراط ودقته وحدته ، ثم في خطر الأمر عنده أنه يصرف إلى الشمال فيكون من أصحاب النار أو يصرف إلى اليمين فينزل دار القرار ثم ليحضر بعد أهوال القيامة في قلبه صورة جهنم ودركاتها ومقامعها وأهوالها وسلاسلها وأغلالها وزقومها وصديدها وأنواع العذاب فيها وقبح صور الزبانية الموكلين بها وأنهم ، كلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها .

وأنهم كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها ، وأنهم إذا رأوها من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا ، وهلم جرا إلى جميع ما ورد في القرآن من شرحها .

وإذا أراد أن يستجلب حال الرجاء فلينظر إلى الجنة ونعيمها وأشجارها وأنهارها وحورها وولدانها ونعيمها المقيم وملكها الدائم .

فهكذا طريق الفكر الذي يطلب به العلوم التي تثمر اجتلاب أحوال محبوبة أو التنزه عن صفات مذمومة .

وقد ذكرنا في كل واحد من هذه الأحوال كتابا مفردا يستعان به على تفصيل الفكر أما بذكر مجامعه فلا يوجد فيه أنفع من قراءة القرآن بالتفكر ، فإنه جامع لجميع المقامات والأحوال وفيه شفاء للعالمين وفيه ما يورث الخوف والرجاء والصبر والشكر والمحبة والشوق وسائر الأحوال وفيه ما يزجر عن سائر الصفات المذمومة فينبغي أن يقرأه العبد ويردد الآية التي هو محتاج إلى التفكر فيها مرة بعد أخرى ولو مائة مرة فقراءة آية بتفكر وفهم خير من ختمة بغير تدبر وفهم فليتوقف في التأمل فيها ولو ليلة واحدة فإن تحت كل كلمة منها أسرارا لا تنحصر ولا يوقف عليها إلا بدقيق الفكر عن صفاء القلب بعد صدق المعاملة .

وكذلك مطالعة أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قد أوتي جوامع الكلم وكل كلمة من كلماته بحر من بحور الحكمة ولو تأملها العالم حق التأمل لم ينقطع فيها نظره طول عمره .

وشرح آحاد الآيات والأخبار يطول ، فانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم : إن روح القدس نفث في روعي أحبب من أحببت فإنك مفارقه وعش ما شئت فإنك ميت ، واعمل ما شئت فإنك مجزي به فإن هذه الكلمات جامعة حكم الأولين والآخرين وهي كافية للمتأملين فيها طول العمر ، إذ لو وقفوا على معانيها وغلبت على قلوبهم غلبة يقين لاستغرقتهم ولحال ذلك بينهم وبين التلفت إلى الدنيا بالكلية .

فهذا هو طريق الفكر في علوم المعاملة وصفات العبد من حيث هي محبوبة عند الله تعالى أو مكروهة .

والمبتدئ ينبغي أن يكون مستغرق الوقت في هذه الأفكار حتى يعمر قلبه بالأخلاق المحمودة والمقامات الشريفة وينزه باطنه وظاهره عن المكاره وليعلم أن هذا مع أنه أفضل من سائر العبادات فليس هو له غاية المطلب بل المشغول به محجوب عن مطلب الصديقين وهو التنعم بالفكر في جلال الله تعالى وجماله واستغراق القلب بحيث يفنى عن نفسه أي ينسى نفسه وأحواله ومقاماته وصفاته فيكون مستغرق الهم بالمحبوب كالعاشق المستهتر عند لقاء الحبيب ، فإنه لا يتفرغ للنظر في أحوال نفسه وأوصافها بل كالمبهوت الغافل عن نفسه وهو منتهى لذة العشاق .

فأما ما ذكرناه فهو تفكر في عمارة الباطن ليصلح للقرب والوصال ، فإذا ضيع جميع عمره في إصلاح نفسه ، فمتى يتنعم بالقرب ولذلك كان الخواص يدور في البوادي فلقيه الحسين بن منصور وقال فيم أنت ؟ قال أدور في البوادي أصلح حالي في التوكل ، فقال الحسين : أفنيت عمرك في عمران باطنك فأين الفناء في التوحيد فالفناء في الواحد الحق هو غاية مقصد الطالبين ومنتهى نعيم الصديقين .

وأما التنزه عن الصفات المهلكات فيجري مجرى الخروج عن العدة في النكاح .

وأما الاتصاف بالصفات المنجيات وسائر الطاعات فيجري مجرى تهيئة المرأة وجهازها وتنظيفها ووجهها ومشطها شعرها لتصلح بذلك للقاء زوجها فإن استغرقت جميع عمرها في تبرئة الرحم وتزيين الوجه كان ذلك حجابا لها عن لقاء المحبوب .

فهكذا ينبغي أن تفهم طريق الدين إن كنت من أهل المجالسة وإن كنت كالعبد السوء لا يتحرك إلا خوفا من الضرب وطمعا في الأجرة فدونك وإتعاب البدن بالأعمال الظاهرة فإن بينك وبين القلب حجابا كثيفا ، فإذا قضيت حق الأعمال كنت من أهل الجنة ، ولكن للمجالسة أقوام آخرون .

وإذا عرفت مجال الفكر في علوم المعاملة التي بين العبد وبين ربه ، فينبغي أن تتخذ ذلك عادتك وديدنك صباحا ومساء ، فلا تغفل عن نفسك وعن صفاتك المبعدة من الله تعالى وأحوالك المقربة إليه سبحانه وتعالى .

بل كل مريد فينبغي أن يكون له جريدة يثبت فيها .

جملة الصفات المهلكات وجملة الصفات المنجيات وجملة المعاصي والطاعات ، ويعرض نفسه عليها كل يوم .

ويكفيه من المهلكات النظر في عشرة فإنه إن سلم منها سلم من غيرها وهي البخل والكبر والعجب والرياء والحسد وشدة الغضب وشره الطعام وشره الوقاع وحب المال وحب الجاه .

ومن المنجيات عشرة الندم على الذنوب ، والصبر على البلاء ، والرضا بالقضاء ، والشكر على النعماء ، واعتدال الخوف والرجاء ، والزهد في الدنيا ، والإخلاص في الأعمال ، وحسن الخلق مع الخلق ، وحب الله تعالى ، والخشوع له .

فهذه عشرون خصلة ، عشرة مذمومة وعشرة محمودة ، فمهما كفي من المذمومات واحدة فيخط عليها في جريدته ويدع الفكر فيها ويشكر الله تعالى على كفايته إياها وتنزيه قلبه عنها ، ويعلم أن ذلك لم يتم إلا بتوفيق الله تعالى وعونه ، ولو وكله إلى نفسه لم يقدر على محو أقل الرذائل عن نفسه ، فيقبل على التسعة الباقية ، وهكذا يفعل حتى يخط على الجميع ، وكذا يطالب نفسه بالاتصاف بالمنجيات ، فإذا اتصف بواحدة منها كالتوبة والندم مثلا خط عليها واشتغل بالباقي ، وهذا يحتاج إليه المريد المشمر .

وأما أكثر الناس من المعدودين من الصالحين فينبغي أن يثبتوا في جرائدهم المعاصي الظاهرة ، كأكل الشبهة وإطلاق اللسان بالغيبة والنميمة والمراء والثناء على النفس والإفراط في معاداة الأعداء وموالاة الأولياء والمداهنة مع الخلق في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن أكثر من يعد نفسه من وجوه الصالحين لا ينفك عن جملة من هذه المعاصي في جوارحه ، وما لم يظهر الجوارح عن الآثام لا يمكن الاشتغال بعمارة القلب وتطهيره .

بل كل فريق من الناس يغلب عليهم نوع من المعصية فينبغي أن يكون تفقدهم لها وتفكرهم فيها لا في معاص هم بمعزل عنها .

مثاله العالم الورع فإنه لا يخلو في غالب الأمر عن إظهار نفسه بالعلم وطلب الشهرة وانتشار الصيت إما بالتدريس أو بالوعظ ومن فعل ذلك تصدى لفتنة عظيمة لا ينجو منها إلا الصديقون ، فإنه إن كان كلامه مقبولا حسن الوقع في القلوب لم ينفك عن الإعجاب والخيلاء والتزين والتصنع ، وذلك من المهلكات وإن رد كلامه لم يخل عن غيظ وأنفة وحقد على من يرده وهو أكثر من غيظه على من يرد كلام غيره ، وقد يلبس الشيطان عليه ويقول : إن غيظك من حيث إنه رد الحق وأنكره ، فإن وجد تفرقة بين أن يرد عليه كلامه أو يرد على عالم آخر فهو مغرور وضحكة للشيطان ثم مهما كان له ارتياح بالقبول وفرح بالثناء واستنكاف من الرد أو الإعراض لم يخل عن تكلف وتصنع لتحسين اللفظ والإيراد حرصا على استجلاب الثناء ، والله لا يحب المتكلفين ، والشيطان قد يلبس عليه ويقول : إنما حرصك على تحسين الألفاظ والتكلف فيها لينتشر الحق ويحسن موقعه في القلب إعلاء لدين الله .

فإن كان فرحه بحسن ألفاظه وثناء الناس عليه أكثر من فرحه بثناء الناس على واحد من أقرانه فهو مخدوع ، وإنما يدور حول طلب الجاه ، وهو يظن أن مطلبه الدين ، ومهما اختلج ضميره بهذه الصفات ظهر على ظاهره ذلك حتى يكون للموقر له المعتقد لفضله أكثر احتراما ويكون بلقائه أشد فرحا واستبشارا ممن يغلو في موالاة غيره ، وإن كان ذلك الغير مستحقا للموالاة ، وربما ينتهي الأمر بأهل العلم إلى أن يتغايروا تغاير النساء فيشق على أحدهم أن يختلف بعض تلامذته إلى غيره ، وإن كان يعلم أنه منتفع بغيره ومستفيد منه في دينه .

وكل ذلك رشح الصفات المهلكات المستكنة في سر القلب التي قد يظن العالم النجاة منها وهو مغرور فيها ، وإنما ينكشف ذلك بهذه العلامات ، ففتنة العالم عظيمة وهو إما مالك وإما هالك ولا مطمع له في سلامة العوام .

فمن أحس في نفسه بهذه الصفات فالواجب عليه العزلة والانفراد وطلب الخمول والمدافعة للفتاوي مهما سئل .

فقد كان المسجد يحوي في زمن الصحابة رضي الله تعالى عنهم جميعا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم مفتون ، وكانوا يتدافعون الفتوى .

وكل من كان يفتي كان يود أن يكفيه غيره .

وعند هذا ينبغي أن يتقي شياطين الإنس إذا قالوا لا تفعل هذا ، فإن هذا الباب لو فتح لاندرست العلوم من بين الخلق ، وليقل لهم إن دين الإسلام مستغن عني ، فإنه قد كان معمورا قبلي ، وكذلك يكون بعدي ولو مت لا تنهدم أركان الإسلام ، فإن الدين مستغن عني وأما أنا فلست مستغنيا عن إصلاح قلبي .

وأما أداء ذلك إلى اندراس العلم فخيال يدل على غاية الجهل ، فإن الناس لو حبسوا في السجن وقيدوا بالقيود وتوعدوا بالنار على طلب العلم لكان حب الرياسة والعلو يحملهم على كسر القيود وهدم حيطان الحصون والخروج منها والاشتغال بطلب العلم .

فالعلم لا يندرس ما دام الشيطان يحبب إلى الخلق الرياسة والشيطان لا يفتر عن عمله إلى يوم القيامة .

بل ينتهض لنشر العلم أقوام لا نصيب لهم في الآخرة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر .

التالي السابق


(وأما النوع الثاني: وهو الطاعات فينظر أولا في الفرائض المكتوبة عليه أنه كيف يؤديها وكيف يحرسها عن النقصان والتقصير) فيها (أو كيف يجبر نقصانها بكثرة النوافل) إذ قد ورد أن جبران الفرائض يكون بالنوافل (ثم يرجع إلى) الحواس الخمس فينظر ما عليها من فعل واجب وترك حرام مستحب ومكروه واقتصاد في مباح، وكذا كل (عضو عضو فيتفكر في الأفعال التي تتعلق بها مما يحبه الله، فيقول مثلا: إن العين خلقت للنظر في ملكوت السماوات والأرض عبرة ولتستعمل في طاعة الله وتنظر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنا قادر على أن أشغل العين بمطالعة القرآن والسنة فلم لا أفعله وأنا قادر على أن أنظر إلى فلان المطيع بعين التعظيم، فأدخل السرور على قلبه) فيزيد في طاعته (و) أن (أنظر إلى فلان الفاسق بعين الإزراء) أي: الاحتقار (فأزجره بذلك عن معصيته، فلم لا أفعله؟ وكذلك يقول في سمعه: إني قادر على استماع كلام ملهوف) مضطر (أو استماع حكمة وعلم أو استماع قراءة وذكر، فما لي أعطله وقد أنعم الله علي به وأوجعنيه لأشكره، فما لي أكفر نعمة الله فيه بتضييعه وتعطيله، وكذلك [ ص: 173 ] يتفكر في اللسان ويقول: إني قادر على أن أتقرب إلى الله تعالى بالتعليم والوعظ والتودد إلى قلوب الصلاح) أي: الصالحين (بالسؤال عن أحوال الفقراء وإدخال السرور على قلب زيد الصالح وعمرو العالم بكلمة طيبة، وكل كلمة طيبة فإنها صدقة) .

فقد روى ابن المبارك في الزهد وأحمد وأبو الشيخ من حديث أبي هريرة: الكلمة الطيبة صدقة، (وكذلك يتفكر في ماله فيقول: أنا قادر على أن أتصدق بالمال الفلاني، فإني مستغن عنه، ومهما احتجت إليه رزقني الله مثله وإن كنت محتاجا) إليه (الآن فأنا إلى ثواب الإيثار) على الغير (أحوج مني إلى ذلك المال، وهكذا يفتش عن جميع أعضائه وجملة بدنه) بل (و) عن (أمواله) التي يملكها (بل عن دوابه) المعدة للركوب أو خدمة البيت أو الذبح (وغلمانه) من مشترى أو مستأجر من الذكور والإناث (وأولاده) ، وزوجته (فإن كل ذلك أدواته وأسبابه) ، وتحت أمره ونهيه (ويقدر على أن يطيع الله تعالى بها فيستنبط بدقيق الفكر وجوه الطاعات الممكنة بها، ويتفكر فيما يرغبه) ، وينشطه (في البدار) أي: المسارعة (إلى تلك الطاعات ويتفكر في إخلاص النية) وإمحاضها (فيها، ويطلب لها مظان الاستحقاق حتى يزكو بها عمله) فبالنيات الخالصة تزكو الأعمال (وقس على هذا سائر الطاعات) البدنية من الواجبات من زكاة وصيام وحج وجهاد .

(وأما النوع الثالث: فهي الصفات المهلكة التي محلها القلب فيعرفها مما ذكرناه في ربع المهلكات وهي استيلاء الشهوة والغضب) لغير الله تعالى (والبخل والكبر والعجب والرياء والحسد وسوء الظن والغفلة والغرور وغير ذلك) مما ذكر في ربع المهلكات فإنها وأمثالها مغارس الفواحش ومنابت الأعمال المحظورة، فهل يسمع بهذه عاقل ويستريب أن يكون الفكر فيها أو في أكثرها واجبا فرض عين، هذا على سبيل الإجمال (و) أما التفصيل فإنه (يتفقد من قلبه هذه الصفات، فإن ظن أن قلبه منزه عنها فيتفكر في كيفية امتحانه) واختباره (والاستشهاد بالعلامات عليه فإن النفس أبدا) من طبعها أنها (تعد بالخير من نفسها وتخلف فإذا ادعت التواضع والبراءة من الكبر فينبغي أن تجرب بحمل حزمة حطب في السوق) ، ويمشي به إلى بيته (كما كان الأولون يجربون به أنفسهم) ، وقد نقل ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه حين كان مستخلفا بالمدينة وهو عند أبي نعيم في الحلية (وإذا ادعت الحلم تعرض لغضب يناله من غيره ثم يجربها في كظم الغيظ) فانظر هل تثبت أم لا (وكذلك في سائر الصفات هذا تفكر في أنه هل موصوف بالصفة المكروهة أم لا، ولذلك علامات ذكرناها) في ربع المهلكات، فإذا دلت العلامة على وجودها فكر في الأسباب التي تقبح تلك الصفات عنده وتبين أن منشأها من الجهل والغفلة وخبث الدخلة أي الباطن (كما لو رأى في نفسه عجبا بالعمل فيتفكر ويقول: أنا عملي بيدي وجارحتي وبقدرتي وإرادتي وكل ذلك ليس مني ولا إلي، وإنما هو من خلق الله وفضله علي، فهو الذي خلقني وخلق جارحتي وخلق قدرتي وإرادتي، وهو الذي حرك أعضائي بقدرته، وكذلك قدرتي وإرادتي فكيف أعجب بعملي أو بنفسي ولا أقوم لنفسي بنفسي، فإذا أحس في نفسه بالكبر قرر على نفسه ما فيه من الحماقة) ، وهي فساد جوهر العقل (ويقول لها: لم ترين نفسك أكبر، والكبير من هو عند الله كبير وذلك) إنما (ينكشف بعد الموت [ ص: 174 ] وكم من كافر في الحال يموت مقربا إلى الله بنزوعه عن الكفر وكم من مسلم يموت شقيا بتغير حاله عند الموت بسوء الخاتمة) عياذا بالله منه (فإذا عرفت أن الكبر مهلك وأن أصله الحماقة فيتفكر في علاج إزالة ذلك بأن يتعاطى أفعال المتواضعين، وإذا وجد في نفسه شهوة الطعام وشرهه) أي: الحرص عليه (تفكر في أن هذه صفة البهائم، ولو كان في شهوة الطعام والوقاع كمال لكان ذلك من صفات الله وصفات الملائكة كالعلم والقدرة، ولما اتصف به البهائم، ومهما كان الشره عليه أغلب كان بالبهائم أشبه وعن الملائكة المقربين أبعد وذلك يقرر على نفسه في الغضب ثم يتفكر في طريق العلاج، وكل ذلك ذكرناه في هذه الكتب) في ربع المهلكات (فمن يريد أن يتسع له طريق الفكر فلا بد له من تحصيل ما في هذه الكتب .

وأما النوع الرابع وهو المنجيات فهو التوبة والندم على الذنوب والصبر على البلاء والشكر على النعماء والخوف والرجاء والزهد في الدنيا والإخلاص والصدق في الطاعات ومحبة الله وتعظيمه والرضا بأفعاله والشوق إليه والخشوع والتواضع له) ، وهذه كلها من مقامات اليقين بعضها أصول وبعضها ثمرات (وكل ذلك ذكرناه في هذا الربع) في كتب مستقلة (وذكرنا أسبابه وعلاماته فليتفكر كل يوم في قلبه ما الذي يعوزه من هذه الصفات التي هي المقربة إلى الله تعالى، فإذا افتقر إلى شيء منها فليعلم أنها أحوال لا تثمرها إلا علوم، وأن العلوم لا تثمرها إلا أفكار، فإذا أراد أن يكتسب لنفسه حال النوبة والندم فليفتش ذنوبه أولا، وليتفكر فيها وليجمعها على نفسه وليعظمها في قلبه، ثم لينظر في الوعيد والتشديد الذي ورد في الشرع فيها) على الخصوص (وليحقق عند نفسه أنه متعرض لمقت الله) ، وغضبه (به حتى ينبعث له حال الندم وإذا أراد أن يستثير من قلبه حال الشكر فلينظر في إحسان الله إليه وأياديه) المتواترة (عليه في إرسال جميل ستره عليه على ما شرحنا بعضه في كتاب الشكر، وليطالع ذلك) ليتسع فكره (وإذا أراد حال المحبة والشوق فليتفكر في جلال الله وجماله وعظمته وكبريائه، وذلك بالنظر في عجائب حكمته وبدائع صنعه كما سنشير إلى طرف منه في القسم الثاني من الفكر، فإذا أراد حال الخوف فلينظر أولا في ذنوبه الظاهرة والباطنة، ثم لينظر في الموت وسكراته ثم فيما بعده من سؤال منكر ونكير وعذاب القبر وحياته وعقاربه وديدانه، ثم في هول النداء عند نفخة الصور، ثم في هول المحشر عند جمع الخلائق على صعيد واحد، ثم في المناقشة في الحساب والمضايقة في النقير والقطمير وفي الصراط ورقته وحدته، ثم في خطر الأمر عنده أنه) هل (يصرف إلى الشمال فيكون من أصحاب النار أو يصرف إلى اليمين فينزل دار القرار ثم ليحضر بعد أهوال القيامة في قلبه صورة جهنم ودركاتها ومقامعها وأهوالها وسلاسلها وأغلالها وزقومها وصديدها وأنواع العذاب فيها وقبح صور الزبانية الموكلين بها، وأنه كلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها، وأنهم كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها، وأنهم إذا رأوها [ ص: 175 ] من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا، وهلم جرا إلى جميع ما ورد في القرآن من شرحها) فيتفكر فيها ويتأمل في معانيها (وإذا أراد أن يستجلب حال الرجاء فلينظر إلى الجنة ونعيمها وأشجارها وأنهارها وحورها وولدانها ونعيمها المقيم وملكها الدائم، فهكذا طريق الفكر الذي تطلب به العلوم التي تثمر اجتلاب أحوال محبوبة أو التنزه عن صفات مذمومة، وقد ذكرنا في كل واحد من هذه الأحوال كتابا مفردا يستعان به على تفصيل الفكر إما بذكر مجامعه فلا يوجد فيه) أجمع ولا (أنفع من قراءة القرآن بالتفكر، فإنه جامع لجميع المقامات والأحوال) ، وهو الترياق الأكبر (وفيه شفاء للعالمين) ، ورحمة للمؤمنين (وفيه ما يورث الخوف والرجاء والصبر والشكر والمحبة والشوق وسائر الأحوال) المذكورة (وفيه ما يزجر عن سائر الصفات المذمومة فينبغي أن يقرأه العبد ويردد الآية التي هو محتاج إلى التفكر فيها مرة بعد أخرى ولو مائة مرة) حتى يعثر على مقصوده منها، ومتى دام العبد على ذلك طهر قلبه وغزر علمه (فقراءة آية بتفكر وفهم خير من ختمة) كاملة (بغير تدبر وفهم) .

فقد روى الدارقطني في الإفراد من حديث ابن عمر بسند ضعيف لا قراءة إلا بتدبر ولا عبادة إلا بفقه، ومجلس فقه خير من عبادة ستين سنة (وليتوقف في التأمل فيها ولو ليلة واحدة) كما نقل ذلك عن جماعة من السلف (فإن تحت كل كلمة منها أسرارا لا تنحصر ولا يوقف عليها إلا بدقيق الفكر عن صفاء القلب بعد صدق المعاملة) بينه وبين الله تعالى، وعجائب القرآن لا تحصى، وقد مرت الإشارة إلى طرف من ذلك في كتاب ترتيب الأوراد (وكذلك مطالعة أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قد أوتى جوامع الكلم) كما ورد به الخبر (وكل كلمة من كلماته بحر من بحور الحكمة لو تأملها العالم) البصير (حق التأمل لم ينقطع فيها نظره طول عمره، وشرح آحاد الآيات والأخبار يطول، فانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: إن روح القدس نفث في روعي أحبب من أحببت فإنك مفارقه وعش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به) تقدم قريبا، وفي كتاب الفقر والزهد، وفي كتاب العلم (فإن هذه الكلمات جامعة حكم الأولين والآخرين وهي كافية للمتأملين فيها طول العمر، إذ لو وقفوا على معانيها وغلبت على قلوبهم غلبة يقين) مع فراغها من شغل آخر (لاستغرقتهم ولحال ذلك بينهم وبين التلفت إلى الدنيا بالكلية، فهذا هو طريق الفكر في علوم المعاملة وصفات العبد من حيث هي محبوبة عند الله أو مكروهة والمبتدئ) في السلوك (ينبغي أن يكون مستغرق الوقت في هذه الأفكار حتى يعمر قلبه بالأخلاق المحمودة والمقامات الشريفة) ، والأحوال المنيفة (وينزه باطنه وظاهره عن المكاره) والأخلاق السيئة (وليعلم أن هذا مع أنه أفضل من سائر العبادات) إذا عريت عنه (فليس هو غاية المطلب) للسالكين ولا هو الحد الذي يقفون عليه (بل المشغول به محجوب عن مطلب الصديقين وهو التنعم بالفكر في جلال الله تعالى وجماله واستغراق القلب) فيه (بحيث يفنى عن نفسه أي ينسى نفسه وأحواله ومقاماته وصفاته فيكون مستغرق الهم بالمحبوب كالعاشق المستهتر عند لقاء الحبيب، فإنه لا يتفرغ للنظر في أحوال نفسه وأوصافها [ ص: 176 ] بل يبقى كالمبهوت الغافل عن نفسه) لا يحس بنفسه أصلا (وهو منتهى لذة العشاق) الصادقين (فأما ما ذكرناه فهو تفكر في عمارة الباطن ليصلح للقرب والوصال، فإذا ضيع جميع عمره في إصلاح نفسه، فمتى يتنعم بالقرب ولذلك كان) إبراهيم بن أحمد (الخواص) رحمه الله تعالى (يدور في البوادي) المنقطعة على قدم التوكل ويقاسي فيها أهوالا من نفسه ومن الجن (فلقيه) أبو المغيث (الحسين بن منصور) الحلاج رحمه الله تعالى (وقال) له (فيم أنت؟) ، وكيف سلوكك؟ (قال أدور في البوادي أصلح حالي في التوكل، فقال: أفنيت عمرك في عمران باطنك فأين) أنت عن (الفناء في التوحيد) ، رواه القشيري في الرسالة وتقدم في كتاب التوكل .

وقال: وكان الحلاج طالبه بالمقام الثالث من التوكل (فالفناء في الواحد الحق هو غاية مقصد الطالبين ومنتهى نعيم الصديقين) ، وما بعده مرقى للسالكين (وأما التنزه عن الصفات المهلكات) ، فإنه (يجري مجرى الخروج عن العدة في النكاح، وأما الاتصاف بالصفات المنجيات وسائر الطاعات) فإنه (يجري مجرى تهيئة المرأة جهازها) أي: أسبابها من لبس وفرش وغير ذلك (وتنظيفها وجهها) بالتخفيف (ومشطها شعرها) ، واستعمالها الطيب (لتصلح بذلك للقاء زوجها) ، وتقع من قلبه موقع المحبة والإعجاب (فإن استغرقت) هي (جميع عمرها في تبرئة الرحم وتزيين الوجه) ، وإحضار الملابس (كان) ذلك (حجابا لها عن لقاء المحبوب، فهكذا ينبغي أن تفهم طريق الدين إن كنت من أهل المجالسة) والمؤانسة (وإن كنت كالعبد السوء) والأجير السوء (لا يتحرك إلا خوفا من الضرب وطمعا في الأجرة) فإن لم يخف أو لم يطمع في الأجرة لم يتحرك (فدونك وإتعاب البدن) ، وارتكاب المشقة (بالأعمال الظاهرة) من قيام وصلاة وقراءة وصيام وجهاد وغير ذلك (فإن بينك وبين القلب حجابا كثيفا، فإذا قضيت حق الأعمال كنت من أهل الجنة، ولكن للمجالسة أقوام آخرون) اصطفاهم الله لذلك (وإذا عرفت مجال الفكر في علوم المعاملة التي بين العبد وبين ربه، فينبغي أن تتخذ ذلك عادتك وديدنك صباحا ومساء، فلا تغفل عن نفسك وعن صفاتك المبعدة من الله تعالى وأحوالك المقربة إليه سبحانه وتعالى، بل كل مريد) لطريق السلوك (فينبغي أن تكون له جريدة) ، وهي الدفتر المتخذ للحساب (يثبت فيها جملة الصفات المهلكات وجملة الصفات المنجيات وجملة المعاصي والطاعات، ويعرض نفسه عليها كل يوم) ، ويحاسبها بها ويدقق عليها، وهكذا كانت أحوال السلف من الأولياء الكرام كما نقل ذلك الشيخ محيي الدين بن العربي قدس سره عن مشايخه، وقد تقدم نقله في كتاب المحاسبة (ويكفيه من المهلكات النظر في عشر) صفات (فإنه إن سلم منها سلم من غيرها وهي البخل والكبر والعجب والرياء والحسد وشدة الغضب) لغير الله تعالى (وشره الطعام وشره الوقاع وحب المال وحب الجاه) فإن هذه العشرة أصول وما عدا ذلك يتفرع منها (ومن المنجيات عشر) صفات (الندم على الذنوب، والصبر على البلاء، والرضا بالقضاء، والشكر على النعماء، واعتدال الخوف والرجاء، والزهد في الدنيا في الدنيا، والإخلاص في الأعمال، وحسن الخلق مع الخلق، وحب الله تعالى، والخشوع له) فهذه العشرة كذلك أصول، وما عدا ذلك يتفرع منها (فهذه عشرون خصلة، عشرة مذمومة وعشرة محمودة، فمهما كفي من المذمومات واحدة فيخط عليها في جريدته ويدع الفكر فيها ويشكر الله تعالى على كفايته إياها وتنزيه قلبه عنها، ويعلم أن ذلك لم يتم [ ص: 177 ] إلا بتوفيق الله تعالى وعونه، ولو وكله إلى نفسه لم يقدر على محو أقل الرذائل عن نفسه، فيقبل على التسعة الباقية، وهكذا يفعل حتى يخط على الجميع، وكذا يطالب نفسه بالاتصاف بالمنجيات، فإذا اتصف بواحدة منها كالتوبة والندم مثلا خط عليها واشتغل بالباقي، وهذا يحتاج إليه المريد المشمر، وأما أكثر الناس من المعدودين في زمرة الصالحين) ، والمتسمين بظاهر الفضل (فينبغي أن يثبتوا في جرائدهم المعاصي الظاهرة، كأكل الشبهة وإطلاق اللسان بالغيبة والنميمة والمراء والثناء على النفس والإفراط في معاداة الأعداء وموالاة الأولياء والمداهنة مع الخلق في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ، وتعظيم الأغنياء والاستهانة بالفقراء والتنافس والاستنكار عن الحق وحب كثرة الكلام والخوض فيما لا يعني وشدة الانتصار للنفس إذا نالها ذل والأنس بالمخلوقين والوحشة لفراقهم، فهذه وأمثالها معاص ظاهرة وهي مغارس الفواحش ومنابت الأعمال المحظورة (فإن أكثر من يعد نفسه من وجوه الصالحين لا ينفك عن جملة من هذه المعاصي في جوارحه، وما لم يطهر الجوارح عن الآثام لا يمكن الاشتغال بعمارة القلب وتطهيره بل كل فريق من الناس يغلب عليهم نوع من المعصية) خاص (فينبغي أن يكون تفقدهم لها وتفكرهم فيها لا في معاص هم بمعزل عنها، مثاله العالم الورع فإنه لا يخلو في غالب الأمر عن إظهار نفسه بالعلم وطلب الشهرة) بين الناس (وانتشار الصيت إما بالتدريس أو بالوعظ) ، والتذكير (ومن فعل ذلك تصدى لفتنة عظيمة لا ينجو منها إلا الصديقون، فإنه إن كان كلامه مقبولا حسن الوقع في القلوب لم ينفك عن الإعجاب والخيلاء والتزين والتصنع، وذلك من المهلكات) كما تقدم بيان ذلك في مواضعه (وإن رد كلامه لم يخل عن غيظ) وحنق (وأنفة وحقد على من يرده هو أكثر من غيظه على من يرد كلام غيره، وقد يلبس الشيطان عليه ويقول: إن غيظك من حيث إنه رد الحق وأنكره، فإن وجد تفرقة بين أن يرد عليه كلامه أو يرد على عالم آخر فهو مغرور وضحكة للشيطان ثم مهما كان له ارتياح بالقبول وفرح بالثناء واستنكاف من الرد والإعراض لم يخل عن تكلف وتصنع لتحسين اللفظ والإيراد حرصا على استجلاب الثناء، والله لا يحب المتكلفين، والشيطان قد يلبس عليه ويقول: إنما حرصك على تحسين الألفاظ والتكلف فيها لينتشر الحق ويحسن موقعه في القلب إعلاء لدين الله) ، وجمعا للناس على كلمة الحق (فإن كان فرحه بحسن ألفاظه وثناء الناس عليه أكثر من فرحه بثناء الناس على واحد من أقرانه فهو مخدوع، وإنما يدندن حول طلب الجاه، وهو يظن أن مطلبه الدين، ومهما اختلج ضميره بهذه الصفات ظهر على ظاهره ذلك حتى يكون للموقر له المعتقد لفضله أكثر احتراما ويكون بلقائه أشد فرحا واستبشارا ممن يغلو في موالاة غيره، وإن كان ذلك الغير مستحقا للموالاة، وربما ينتهي الأمر بأهل العلم إلى أن يتغايروا تغاير النساء) أو تغاير التيوس في الزريبة كما ورد بذلك الخبر (فيشق على أحدهم أن يختلف بعض تلامذته إلى غيره، وإن كان يعلم أنه منتفع بغيره ومستفيد منه في دينه، وكل هذا [ ص: 178 ] رشح الصفات المهلكات المستكنة في سر القلب) أي: باطنه (التي قد يظن العالم النجاة منها وهو مغرور، وإنما ينكشف ذلك بهذه العلامات، ففتنة العالم عظيمة وهو إما مالك وإما هالك) والهلاك أكثر (ولا مطمع له في سلامة العوام) فإن العوام قد يعذرون بخلاف العالم (فمن أحس في نفسه بهذه الصفات فالواجب عليه العزلة) عن الناس (والانفراد وطلب الخمول والمدافعة للفتاوى مهما سئل، فقد كان المسجد) النبوي (يحوي في زمن الصحابة رضي الله عنهم) جمعا (من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم مفتون، وكانوا) مع ذلك (يتدافعون الفتوى) يدفعه أحدهم إلى صاحبه (وكل من كان يفتي كان يود أن يكفيه غيره) هذا المهم نقله صاحب القوت وتقدم في كتاب العلم (وعند هذا ينبغي أن يتقي شياطين الإنس) فضررهم أشد من ضرر شياطين الجن وليحذر منهم (إذا قالوا) لك (لا تفعل هذا، فإن هذا الباب لو فتح لاندرست العلوم من بين الخلق، وليقل لهم أن دين الإسلام مستغن عني، فإنه قد كان معمورا قبلي، وكذلك يكون بعدي ولو مت لم تنهدم أركان الإسلام، فإن الدين مستغن عني وأنا فلست مستغنيا عن إصلاح قلبي، وأما أداء ذلك إلى اندراس العلم فخيال يدل على غاية الجهل، فإن الناس لو حبسوا في السجن وقيدوا بالقيود وتوعدوا بالنار عن طلب العلم) لما امتنعوا من ذلك و (لكان حب الرياسة والعلو يحملهم على كسر القيود وهم حيطان الحصون والخروج منها والاشتغال بطلب العلم) لا محالة (فالعلم لا يندرس ما دام الشيطان يحبب إلى الخلق الرياسة) ويزينها لهم (والشيطان لا يفتر عن عمله إلى يوم القيامة بل ينتهض لنشر العلم أقوام لا نصيب لهم في الآخرة) ولا خلاق (كما قال صلى الله عليه وسلم أن الله) عز وجل (يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم) أي: يقويه وينصره والمراد بالدين دين الإسلام والمراد بالأقوام إما الكفار وإما المنافقون وإما الفجار، وهذا يحتمل أنه أراد به رجالا في زمنه كانوا كذلك، ويحتمل أنه أخبر بما سيكون فيكون من المعجزات، والأقرب الثاني لأن العبرة بعموم اللفظ، والحديث رواه النسائي، وابن حبان، والطبراني في الأوسط، والضياء من حديث أنس، ورواه أحمد، والطبراني في الكبير من حديث أبي بكر، ورواه البزار من حديث كعب بن مالك، ورواه ابن النجار من حديث كعب بن مالك بلفظ: إن الله ليؤيد الدين بقوم لا خلاق لهم، وقد تقدم .

ورواه الطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن عمرو بلفظ: إن الله عز وجل ليؤيد الإسلام برجال ما هم من أهله، (و) قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) .

رواه الطبراني في الكبير من حديث عمرو بن النعمان بن مقرن بلفظ: ليؤيد الدين، ورواه البخاري في القدر وفي غزوة خيبر من حديث أبي هريرة: إن الله ليؤيد هذا الدين، ورواه الترمذي في العلل من حديث أنس واللام للعهد أو للجنس وقد تقدم .




الخدمات العلمية