الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فالمقصود من زيارة القبور للزائر الاعتبار بها وللمزور الانتفاع بدعائه فلا ينبغي أن يغفل الزائر عن الدعاء لنفسه وللميت ولا عن الاعتبار به وإنما يحصل له الاعتبار بأن يصور في قلبه الميت كيف تفرقت أجزاؤه وكيف يبعث من قبره وأنه على القرب سيلحق به كما روي عن مطرف بن أبي بكر الهذلي قال : كانت عجوز في عبد القيس متعبدة فكان إذا جاء الليل تحزمت ثم قامت إلى المحراب وإذا جاء النهار خرجت إلى القبور فبلغني أنها عوتبت في كثرة إتيانها المقابر فقالت : إن القلب القاسي إذا جفا لم يلينه إلا رسوم البلى وإني لآتي القبور فكأني أنظر ، وقد خرجوا من بين أطباقها وكأني أنظر إلى تلك الوجوه المتعفرة وإلى تلك الأجسام المتغيرة وإلى تلك الأكفان الدسمة فيا لها من نظرة لو أشربها العباد قلوبهم ما أنكل مرارتها للأنفس وأشد تلفها للأبدان بل ينبغي أن يحضر من صورة الميت ما ذكره عمر بن عبد العزيز حيث دخل عليه فقيه فتعجب من تغير صورته لكثرة الجهد والعبادة فقال له : يا فلان لو رأيتني بعد ثلاث وقد أدخلت قبري وقد خرجت الحدقتان فسالتا على الخدين وتقلصت الشفتان عن الأسنان وخرج الصديد من الفم وانفتح الفم ونتأ البطن فعلا الصدر وخرج الصلب من الدبر ، وخرج الدود والصديد من المناخر لرأيت أعجب مما تراه الآن .

ويستحب الثناء على الميت وأن لا يذكر إلا بالجميل قالت عائشة رضي الله عنها : قال رسول ، الله صلى الله عليه وسلم : إذا مات صاحبكم فدعوه ولا تقعوا فيه وقال صلى الله عليه وسلم : لا تسبوا الأموات فإنهم أفضوا إلى ما قدموا وقال صلى الله عليه وسلم : لا تذكروا موتاكم إلا بخير فإنهم إن يكونوا من أهل الجنة تأثموا وأن يكونوا من أهل النار فحسبهم ما هم فيه وقال أنس بن مالك مرت جنازة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأثنوا عليها شرا فقال عليه السلام وجبت ، ومروا بأخرى فأثنوا عليها خيرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وجبت ، فسأله عمر عن ذلك فقال : إن هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة ، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار ، وأنتم شهداء الله في الأرض وقال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن العبد ليموت فيثني عليه القوم الثناء يعلم الله منه غيره فيقول الله تعالى لملائكته : أشهدكم أني قد قبلت شهادة عبيدي على عبدي ، وتجاوزت عن علمي في عبدي .

التالي السابق


(فالمقصود من زيارة القبور للزائر الاعتبار وللمزور الانتفاع بدعائه فلا ينبغي أن يغفل الزائر عن الدعاء لنفسه وللميت) وهل يقدم الدعاء لنفسه، ثم للميت أو بالعكس؟ الظاهر الثاني إذ الدعاء للميت مستجاب لا محالة قياسا على دعاء الغائب، ثم يكون الدعاء لنفسه فهو أحرى أن يستجاب نظرا لكرم الله تعالى وسعة فضله (و) لا يغفل أيضا (عن الاعتبار به وإنما يحصل الاعتبار بأن يصور في قلبه الميت كيف تفرقت أجزاؤه) بعد أن كانت مجموعة (وكيف يبعث عن قبره) بعد ذلك التفرق (وإنه على القرب سيلحق به) فتصوير هذه الثلاثة من أعظم ما يعتبر به الزائر من الميت وفي أثناء ذلك تصويرات كثيرة لا تحصى (كما روي عن مطرف بن أبي بكر الهذلي) رحمه الله (قال: كانت عجوز في) بني (عبد القيس متعبدة) أي: كثيرة العبادة (فكان إذا جاء الليل [ ص: 374 ] تحزمت) أي شدت حزامها لتستعين به على القيام (ثم قامت إلى المحراب تصلي) عامة الليل (وإذا جاء النهار خرجت إلى القبور فتكون عامة النهار) هناك (فبلغني أنها عوتبت في كثرة إتيانها المقابر فقالت: إن القلب القاسي إذا جفا لم يلينه إلا رسوم البلى) أي: النظر إليها (وأنى لآتي القبور فكأني أنظر، وقد خرجوا من بين أطباقها وكأني أنظر إلى تلك الوجوه المتعفرة وإلى تلك الأجسام المتغيرة وإلى تلك الأكفان الدسمة فيا لها من نظرة لو أشربها العباد قلوبهم ما أنكل مرارتها للأنفس وأشد تلفها للأبدان) .

رواه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور (بل ينبغي أن يحضر من صورة الميت ما ذكره عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى حيث دخل عليه فقيه فتعجب من تغير صورته) وتبدل حليته عما كانت عليها (لكثرة الجهد والعبادة فقال له: يا فلان لو رأيتني بعد ثلاث وقد أدخلت قبري وقد خرجت الحدقتان فسالتا على الخدين وتقلصت الشفتان على الأسنان) أي يبستا (وخرج الصديد من الفم وانفتح الفم ونتأ البطن) أي: ارتفع (فعلى على الصدر وخرج الصلب من الدبر، وخرج الدود والصديد من المناخر لرأيت أعجب مما تراه الآن) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور .

وروى أبو نعيم في الحلية نحوا منه عن طريق أبي حازم الخناصري الأسدي، قال: قدمت دمشق في خلافة عمر بن عبد العزيز يوم الجمعة والناس رائحون إلى الجمعة، ثم ساق الحديث وفيه فلما أن بصر بي عرفني فناداني يا أبا حازم إلي مقبلا فدنوت من المحراب فلما أن صلى بالناس التفت إلي فقلت له: تالله، لقد كنت عندنا بالأمس بخناصرة أميرا لعبد الملك بن مروان، وكان وجهك وضيئا وثوبك نقيا ومركبك وطيئا وطعامك شهيا وحرسك شديدا فما الذي غيرك وأنت أمير المؤمنين؟ فقال لي: يا أبا حازم أناشدك الله إلا حدثتني الحديث الذي حدثتني بخناصرة قلت له: نعم سمعت أبا هريرة -رضي الله عنه- يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن بين أيديكم عقبة كئودا لا يجوزها إلا كل ضامر مهزول، قال أبو حازم: فبكى أمير المؤمنين بكاء عاليا حتى علا نحيبه، ثم قال: يا أبا حازم أفتلومني أن أضمر نفسي لتلك العقبة لعلي أن أنجو منها وما أظنني منها بناج (ويستحب الثناء على الميت وأن لا يذكر إلا بالجميل قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول، الله صلى الله عليه وسلم: إذا مات صاحبكم) أي: المؤمن الذي كنتم تصاحبونه لقرابة أو صهارة أو جوار أو صداقة أو نحو ذلك (فدعوه) أي: اتركوه من الكلام فيه بما يؤذيه لو كان حيا (ولا تقعوا فيه) أي: لا تتكلموا في عرضه بسوء، ولا بشيء من أخلاقه الذميمة، فغيبة الميت أفظع من غيبة الحي; لأنه يرجى استحلاله بخلافه وتخصيص الصاحب للاهتمام وبيان أنه بذلك أحرى، وإلا فالكف عن مساوئ الأموات مطلقا مطلوب. قال العراقي: رواه أبو داود بإسناد جيد اهـ. قلت: ويوجد في بعض نسخ المتن بدون واو .

(وقال صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا الأموات) أي: المسلمين كما دل عليه لام العهد فالكفار سبهم قربة (فإنهم أفضوا) أي: وصلوا (إلى ما قدموا) من خير وشر، والله هو المجازي إن شاء عفا، وإن شاء عذب، فلا فائدة في سبهم، ويستثنى منه ما فيه مصلحة شرعية كسب أهل البدع والفسقة للتحذير من الاقتداء بهم، وكجرح المجروح من الرواة حيا وميتا لابتناء أحكام الشرع على بيان حالاتهم، قال العراقي: رواه البخاري من حديث عائشة. اهـ .

قلت: ورواه كذلك أحمد والنسائي، ورواه ابن النجار بلفظ، إلى ما كسبوا .

(وقال صلى الله عليه وسلم: لا تذكروا موتاكم إلا بخير فإنهم إن يكونوا من أهل الجنة تأثموا وأن يكونوا من أهل النار فحسبهم ما هم فيه) .

قال العراقي: رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الموت هكذا بإسناد ضعيف من حديث عائشة وهو عند النسائي من حديثها بإسناد جيد مقتصر على الجملة الأولى بلفظ: هلكاكم، وذكره بالزيادة صاحب مسند الفردوس وعلمه علامة النسائي والطبراني. اهـ .

قلت: وروى النسائي أيضا عن صفية بنت شيبة قالت: ذكر عند النبي -صلى الله عليه وسلم- هالك بسوء فقال: لا تذكروا هلكاكم إلا بخير، وفي الباب عن عمر بن الخطاب رفعه: اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساويهم.

رواه أبو داود والترمذي وابن أبي الدنيا، وروى الديلمي من حديث عائشة: الميت يؤذيه في قبره ما يؤذيه في بيته (وقال أنس بن مالك) -رضي الله عنه- (مرت جنازة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأثنوا عليه شرا فقال) صلى الله [ ص: 375 ] عليه وسلم (وجبت، ومروا بأخرى فأثنوا عليها خيرا فقال: وجبت، فسأله عمر) -رضي الله عنه- (عن ذلك فقال: إن هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار، وأنتم شهداء الله في الأرض) .

قال العراقي: متفق عليه، قلت: وكذلك رواه الطيالسي وأحمد والنسائي ولفظهم جميعا: من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض أنتم شهداء الله في الأرض أنتم شهداء الله في الأرض، وروى الطبراني من حديث سلمة بن الأكوع: أنتم شهداء الله في الأرض والملائكة شهداء الله في السماء (وقال أبو هريرة) -رضي الله عنه- (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن العبد ليموت فيثني عليه القوم الثناء يعلم الله منه غيره فيقول الله تعالى لملائكته: أشهدكم أني قد قبلت شهادة عبيدي على عبدي، وتجاوزت عن علمي في عبدي منه) .

قال العراقي: رواه أحمد من رواية شيخ من أهل البصرة عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يرويه عن ربه عز وجل: ما من عبد مسلم يموت فتشهد ثلاثة أبيات من جيرانه الأدنين بخير إلا قال الله عز وجل: قد قبلت شهادة عبادي على ما علموا وغفرت له ما أعلم. اهـ .

قلت: ورواه ابن النجار بلفظ: إذا مات المؤمن، وقال رجلان من جيرانه: ما علمنا منه إلا خيرا، وهو في علم الله غير ذلك، قال الله تعالى للملائكة: اقبلوا شهادة عبدي في عبدي وتجاوزوا عن علمي فيه.




الخدمات العلمية