الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فهذه الأمور، سواء كانت صفات لله أو أمورا تقتضي محبة الله، فإنه جعلها من باب التوهم.

وهذا يوجب كون الله عاليا على خلقه من وجوه:


أحدها: أنه قد ذكر أن الحيوانات -ناطقها وغير ناطقها- تدرك في المحسوسات الجزئية معاني جزئية غير محسوسة ولا متأدية من طريق الحواس، وهذا قوة الوهم كما تقدم. فإذا كان قد قال مع ذلك: إنه لا بد من تطويع القوة الأمارة للقوة المطمئنة، لتنجذب قوى التخيل والتوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي، منصرفة عن التوهمات المناسبة للأمر السفلي، والتوهمات المناسبة لإرادة الله وحده إنما تكون بتصور معنى فيه يوجب انجذاب القلب إليه.

وهو سبحانه يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، فإنه واحد لا شريك له، وهم يقولون: انحصر نوعه في شخصه، فلا يجوز أن يكون [ ص: 83 ] التصور الجاذب للقلب إليه وحده إلا تصور معين، في معين، وهذا هو التوهم عندهم.

فهذا تصريح منهم بأن التوهم تصور صفاته، فقولهم مع ذلك بنفي إدراك هذه القوة له تناقض.

الثاني: أن القوة المتوهمة إذا كانت لا تتصور إلا في معين، والمعين لا يكون كليا، امتنع أن يكون هذا معقولا، إذا كانت المعقولات هي الكليات، كما قد يقولونه، ولأنه لا حجة لهم على إثبات معقول غير الكليات.

الثالث: أن هذا يوجب أن يكون محسوسا، أي يمكن الإحساس به، وهو رؤيته، كما ثبت أنه يرى في الآخرة، لأن التوهم عندهم أن يتصور في المحسوس ما ليس بمحسوس.

فإذا كان هو سبحانه يجب أن يوالى ويحب دون ما سواه، وكان ذلك بتوهم الأمور المناسبة لذلك التوهم، وهو تصور أمر غير محسوس في معين محسوس -لزم أن يكون هو معينا محسوسا.

الوجه الرابع: أنه جعل الذي يعين على تطويع النفس ثلاثة أشياء: العبادة المشفوعة بالفكرة، ثم الألحان المستخدمة لقوى النفس الموقعة لما لحن بها من الكلام موقع القبول من الأوهام، والثالث: نفس الكلام الواعظ.

ومعلوم أن العبادة لا تكون إلا بقصد وإرادة، والقصد والإرادة [ ص: 84 ] الذي تنجذب معه قوى التخيل والتوهم إلى التوهمات المناسبة لعبادة الله، منصرفة عن المناسبة للأمر السفلي، لا يكون إلا إذا تصور في المراد الذي انجذبت إليه قوة التوهم ما يوجب إرادته ومحبته، فتكون إرادته توجب موالاته ومحبته، بل وخوفه ورجاءه.

وهذا كله عندهم من عمل القوة المتوهمة، فدل على أنه لا بد عندهم أن يكون الحق تعالى مما يتعلق الوهم بمعان فيه، وهذا لازم لكلامهم لا محيد عنه.

الوجه الخامس: أنه قال: "الموقعة لما لحن بها من الكلام موقع القبول من الأوهام".

فبين أنه يطلب كون الوهم يقبل الكلام الملحن، والقوة الوهمية هي التي تدرك المعنى المحبوب والمكروه في المعين المحسوس الجزئي كما تقدم.

فدل بهذا على أن الكلام الملحن يكون فيه ما يوجب قبول الوهم للكلام الذي يدعو إلى عبادة الله ومحبته، وذلك بما تقدم من كون الوهم هو الذي يشعر بالمعاني التي تحب وتبغض، وتوالى وتعادى، فكان حب العبد لربه وعبادته إياه مشروطا بتوهمه في ربه ما يحبه العبد، فوجب كون الرب عندهم محسوسا وكون الوهم يتصور فيه ما يحب لأجله.

السادس: أنه قال: "لينجذب التخيل والوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي، منصرفة عن التوهمات المناسبة للأمر السفلي".

[ ص: 85 ] والسفلي ضد العلوي، فدل ذلك على أن القدسي علوي.

فإن قيل: يراد بذلك علو القدر أو الصفات.

قيل: هذا لا يصح هنا، لأن قوى الوهم إنما تنجذب إلى معان غير محسوسة في أمر محسوس، وما كان محسوسا أمكن أن يكون فوق العالم.

السابع: أن يقال: ما أشار إليه من هذه المعاني، وإن كان التعبير عنه بعباراته غير معروف، فهذا هو الذي فطر الله عليه عباده، فإنهم إذا حزبهم أمر احتاجوا فيه إلى توجيه قلوبهم إلى الله توجهوا إلى العلو، وتصوروا أن الله جواد كريم يجيب دعوة المضطر إذا دعاه، ويرزقهم وينصرهم، فعرفوا منه ما يوافق مطلوبهم ومرادهم ومحبوبهم.

وهذا هو الذي يسميه هؤلاء التوهم.

وأيضا فمن كان محبا له، محبا لذكره، متلذذا بمناجاته، فإنه يجد في فطرته معنى يطلب العلو، ويتصور أن ربه متصف بما يستحق لأجله أن يعبد ويحب ويطاع، وهذا هو الذي يسمونه التوهم، ويجد قلبه منصرفا إلى العلو، منصرفا عن السفل، إلا إذا كان قد غيرت فطرته.

فإن قيل له: ربك ليس فوق، أو غير ذلك بأن يقال: ليس في [ ص: 86 ] جهة، أو لا يختص، أو لا تحصره، أو نحو ذلك من العبارات المجملة التي يراد بها: أنه ليس فوق، فيحتاج حينئذ أن يصرف فطرته علما وإرادة عما فطر عليه.

فما ذكره في "مقامات العارفين" موافق لما فطر الله عليه عباده أجمعين، بخلاف ما ذكره هناك، فإنه مخالف للفطرة كما تقدم.

الثامن: أن الشرائع الإلهية جاءت بما يوافق الفطرة.

التاسع: أنه قد اتفق على ذلك سلف الأمة.

العاشر: أنه دلت على ذلك الدلائل العقلية اليقينية.

الحادي عشر: أن موجب ما ذكروه أن لا يكون الرب معبودا إلا بتعلق المعنى الذي سموه الوهم به، وأن من نفى تعلق الوهم بمعنى في الرب، فقد أبطل كون الرب محبوبا معبودا، فمن قال بعد ذلك: إنه لا يقبل في الإلهيات هذه القضايا الوهمية، فقد نفى كون الرب مستحقا لأن يعبد وأن يحب، وهذا حقيقة قولهم، ولهذا كان حقيقة قولهم تعطيل الرب عن أن يكون موجودا، وأن يكون مقصودا، وأن يكون معبودا.

وعلى هذا كانت أئمتهم، كالقرامطة الباطنية الذين قادوا حقيقة قولهم، وكذلك باطنية الصوفية الذين وافقوهم، كأصحاب ابن عربي وابن سبعين، فإن الذين عرفوا حقيقة قولهم كالتلمساني كانوا من أبعد [ ص: 87 ] الناس عن عبادة الله وطاعته وطاعة رسله، وأشدهم فجورا وتعديا لحدود الله، وانتهاكا لمحارمه، ومخالفة لكتابه ولرسوله، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.

التالي السابق


الخدمات العلمية