الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى ( الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم ( 172 ) )

قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : "وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين" ، المستجيبين لله والرسول من بعد ما أصابهم الجرح والكلوم . .

وإنما عنى الله تعالى ذكره بذلك : الذين اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد في طلب العدو - أبي سفيان ومن كان معه من مشركي قريش - منصرفهم عن أحد . وذلك أن أبا سفيان لما انصرف عن أحد ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثره حتى بلغ حمراء الأسد ، وهي على ثمانية أميال من المدينة ، ليرى الناس أن به وأصحابه قوة على عدوهم . كالذي : -

8233 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق قال : حدثني حسين بن عبد الله ، عن عكرمة قال : كان يوم أحد [ يوم ] السبت للنصف من شوال ، فلما كان الغد من يوم أحد ، يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال ، أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب [ ص: 400 ] العدو ، وأذن مؤذنه أن : "لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس" . فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام فقال : يا رسول الله ، إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع ، وقال لي : "يا بني ، إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن ، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي! فتخلف على أخواتك" ، فتخلفت عليهن . فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج معه . وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهبا للعدو ، ليبلغهم أنه خرج في طلبهم ، ليظنوا به قوة ، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم .

8234 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق قال : فحدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان : أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل ، كان شهد أحدا قال : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا ، أنا وأخ لي ، فرجعنا جريحين : فلما أذن [ مؤذن ] رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو ، قلت لأخي - أو قال لي - : أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله ما لنا من دابة نركبها ، وما منا إلا جريح ثقيل! فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكنت أيسر جرحا منه ، فكنت إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة ، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد ، وهي من المدينة على ثمانية أميال ، فأقام بها ثلاثا ، الاثنين والثلاثاء والأربعاء ، ثم رجع إلى المدينة . [ ص: 401 ]

8235 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : فقال الله تبارك وتعالى : " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح " ، أي : الجراح ، وهم الذين ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم أحد إلى حمراء الأسد ، على ما بهم من ألم الجراح" للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم " .

8236 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح " الآية ، وذلك يوم أحد ، بعد القتل والجراح ، وبعدما انصرف المشركون - أبو سفيان وأصحابه - فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " ألا عصابة تنتدب لأمر الله ، تطلب عدوها؟ فإنه أنكى للعدو ، وأبعد للسمع! فانطلق عصابة منهم على ما يعلم الله تعالى من الجهد .

8237 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : انطلق أبو سفيان منصرفا من أحد ، حتى بلغ بعض الطريق ، ثم إنهم ندموا وقالوا : بئسما صنعتم! إنكم قتلتموهم ، حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم! ارجعوا واستأصلوهم . فقذف الله في قلوبهم الرعب ، فهزموا ، فأخبر الله رسوله ، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد ، ثم رجعوا من حمراء الأسد ، فأنزل الله جل ثناؤه فيهم : " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح " .

8238 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : [ ص: 402 ] حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : إن الله جل وعز قذف في قلب أبي سفيان الرعب - يعني يوم أحد - بعد ما كان منه ما كان ، فرجع إلى مكة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفا ، وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب"! وكانت وقعة أحد في شوال ، وكان التجار يقدمون المدينة في ذي القعدة ، فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مرة ، وإنهم قدموا بعد وقعة أحد ، وكان أصاب المؤمنين القرح ، واشتكوا ذلك إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ، واشتد عليهم الذي أصابهم . وإن رسول الله ندب الناس لينطلقوا معه ، ويتبعوا ما كانوا متبعين ، وقال : إنما يرتحلون الآن فيأتون الحج ، ولا يقدرون على مثلها حتى عام مقبل ، فجاء الشيطان فخوف أولياءه ، فقال : "إن الناس قد جمعوا لكم"! فأبى عليه الناس أن يتبعوه ، فقال : "إني ذاهب وإن لم يتبعني أحد" ، لأحضض الناس . فانتدب معه أبا بكر الصديق ، وعمر ، وعثمان ، وعليا ، والزبير ، وسعدا ، وطلحة ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعبد الله بن مسعود ، وحذيفة بن اليمان ، وأبا عبيدة بن الجراح ، في سبعين رجلا فساروا في طلب أبي سفيان ، فطلبوه حتى بلغوا الصفراء ، فأنزل الله تعالى : " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم " .

8239 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هاشم بن القاسم قال : حدثنا أبو سعيد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أنها قالت لعبد الله بن الزبير : يا ابن أختي ، أما والله إن أباك وجدك - تعني أبا بكر والزبير - لممن قال الله تعالى فيهم : "الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح" . . [ ص: 403 ]

8240 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : أخبرت أن أبا سفيان بن حرب لما راح هو وأصحابه يوم أحد ، قال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم : إنهم عامدون إلى المدينة ! فقال : إن ركبوا الخيل وتركوا الأثقال : فإنهم عامدون إلى المدينة ، وإن جلسوا على الأثقال وتركوا الخيل ، فقد رعبهم الله ، وليسوا بعامديها" . فركبوا الأثقال : فرعبهم الله . ثم ندب ناسا يتبعونهم ليروا أن بهم قوة ، فاتبعوهم ليلتين أو ثلاثا ، فنزلت : " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح " .

8241 - حدثني سعيد بن الربيع قال : حدثنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : قالت لي عائشة : إن كان أبواك لمن الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح - تعني أبا بكر والزبير . . [ ص: 404 ]

8242 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال : كان عبد الله من الذين استجابوا لله والرسول .

قال أبو جعفر : فوعد تعالى ذكره ، محسن من ذكرنا أمره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ، إذا اتقى الله فخافه ، فأدى فرائضه وأطاعه في أمره ونهيه فيما يستقبل من عمره"أجرا عظيما" ، وذلك الثواب الجزيل ، والجزاء العظيم على ما قدم من صالح أعماله في الدنيا .

التالي السابق


الخدمات العلمية