الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ( 173 ) )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : "وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين" ، " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم " .

[ ص: 405 ]

و"الذين" في موضع خفض مردود على"المؤمنين" ، وهذه الصفة من صفة الذين استجابوا لله والرسول .

و"الناس" الأول ، هم قوم - فيما ذكر لنا - كان أبو سفيان سألهم أن يثبطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين خرجوا في طلبه بعد منصرفه عن أحد إلى حمراء الأسد .

و"الناس" الثاني ، هم أبو سفيان وأصحابه من قريش ، الذين كانوا معه بأحد .

ويعني بقوله : " قد جمعوا لكم " ، قد جمعوا الرجال للقائكم والكرة إليكم لحربكم"فاخشوهم" ، يقول : فاحذروهم ، واتقوا لقاءهم ، فإنه لا طاقة لكم بهم" فزادهم إيمانا " ، يقول : فزادهم ذلك من تخويف من خوفهم أمر أبي سفيان وأصحابه من المشركين ، يقينا إلى يقينهم ، وتصديقا لله ولوعده ووعد رسوله إلى تصديقهم ، ولم يثنهم ذلك عن وجههم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسير فيه ، ولكن ساروا حتى بلغوا رضوان الله منه ، وقالوا ثقة بالله وتوكلا عليه ، إذ خوفهم من خوفهم أبا سفيان وأصحابه من المشركين" حسبنا الله ونعم الوكيل " ، يعني بقوله : "حسبنا الله" ، كفانا الله ، يعني : يكفينا الله" ونعم الوكيل " ، يقول : ونعم المولى لمن وليه وكفله .

وإنما وصف تعالى نفسه بذلك ، لأن"الوكيل" ، في كلام العرب ، هو المسند إليه القيام بأمر من أسند إليه القيام بأمره . فلما كان القوم الذين وصفهم الله بما وصفهم به في هذه الآيات ، قد كانوا فوضوا أمرهم إلى الله ، ووثقوا به ، وأسندوا ذلك إليه ، وصف نفسه بقيامه لهم بذلك ، وتفويضهم أمرهم إليه بالوكالة فقال : ونعم الوكيل الله تعالى لهم .

[ ص: 406 ]

واختلف أهل التأويل في الوقت الذي قال من قال لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الناس قد جمعوا لكم " .

فقال بعضهم : قيل ذلك لهم في وجههم الذين خرجوا فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد إلى حمراء الأسد ، في طلب أبي سفيان ومن معه من المشركين .

ذكر من قال ذلك ، وذكر السبب الذي من أجله قيل ذلك ، ومن قائله :

8243 - حدثنا محمد بن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال : مر به - يعني برسول الله صلى الله عليه وسلم - معبد الخزاعي بحمراء الأسد وكانت خزاعة ، مسلمهم ومشركهم ، عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة ، صفقتهم معه ، لا يخفون عليه شيئا كان بها ، ومعبد يومئذ مشرك فقال : والله يا محمد ، أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ، ولوددنا أن الله كان أعفاك فيهم! ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد ، حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء ، قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وقالوا : أصبنا! حد أصحابه وقادتهم وأشرافهم ، ثم نرجع قبل أن نستأصلهم؟! لنكرن على بقيتهم ، فلنفرغن منهم" . فلما رأى أبو سفيان معبدا [ ص: 407 ] قال : ما وراءك يا معبد؟ قال : محمد ، قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط ، يتحرقون عليكم تحرقا ، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم ، وندموا على ما صنعوا ، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط! . قال : ويلك! ما تقول؟ قال : والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل! قال : فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم! قال : فإني أنهاك عن ذلك ، فوالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه أبياتا من شعر! قال : وما قلت؟ قال : قلت :


كادت تهد من الأصوات راحلتي إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل     تردي بأسد كرام لا تنابلة
عند اللقاء ولا خرق معازيل      [ ص: 408 ] فظلت عدوا ، أظن الأرض مائلة
لما سموا برئيس غير مخذول     فقلت : ويل ابن حرب من لقائكم
إذا تغطمطت البطحاء بالخيل     إني نذير لأهل البسل ضاحية
لكل ذي إربة منهم ومعقول     من جيش أحمد لا وخش قنابله
وليس يوصف ما أنذرت بالقيل



قال : فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه . ومر به ركب من عبد القيس . فقال : أين تريدون؟ قالوا : نريد المدينة . قال : ولم؟ قالوا : نريد الميرة . قال : فهل [ ص: 409 ] أنتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها ، وأحمل لكم إبلكم هذه غدا زبيبا بعكاظ إذا وافيتموها؟ قالوا : نعم . قال : فإذا جئتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم! فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد ، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه : "حسبنا الله ونعم الوكيل" .

8244 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : فقال الله : "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل " ، و"الناس" الذين قالوا لهم ما قالوا النفر من عبد القيس الذين قال لهم أبو سفيان ما قال : إن أبا سفيان ومن معه راجعون إليكم! يقول الله تبارك وتعالى : " فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء " الآية .

8245 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لما ندموا يعني أبا سفيان وأصحابه على الرجوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وقالوا : "ارجعوا فاستأصلوهم" ، فقذف الله في قلوبهم الرعب فهزموا ، فلقوا أعرابيا فجعلوا له جعلا فقالوا له : إن لقيت محمدا وأصحابه فأخبرهم أنا قد جمعنا لهم! فأخبر الله جل ثناؤه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد ، فلقوا الأعرابي في الطريق ، فأخبرهم الخبر ، فقالوا : "حسبنا الله ونعم الوكيل"! ثم رجعوا من حمراء الأسد . فأنزل الله تعالى فيهم وفي الأعرابي الذي لقيهم : " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل " . [ ص: 410 ]

8246 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : استقبل أبو سفيان في منصرفه من أحد عيرا واردة المدينة ببضاعة لهم ، وبينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم حبال ، فقال : إن لكم علي رضاكم إن أنتم رددتم عني محمدا ومن معه ، إن أنتم وجدتموه في طلبي ، وأخبرتموه أني قد جمعت له جموعا كثيرة . فاستقبلت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له : يا محمد إنا نخبرك أن أبا سفيان قد جمع لك جموعا كثيرة ، وأنه مقبل إلى المدينة ، وإن شئت أن ترجع فافعل! فلم يزده ذلك ومن معه إلا يقينا ، وقالوا : " حسبنا الله ونعم الوكيل " . فأنزل الله تبارك وتعالى : " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم " الآية .

8247 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصابة من أصحابه بعدما انصرف أبو سفيان وأصحابه من أحد خلفهم ، حتى كانوا بذي الحليفة ، فجعل الأعراب والناس يأتون عليهم فيقولون لهم : هذا أبو سفيان مائل عليكم بالناس! فقالوا : "حسبنا الله ونعم الوكيل" . فأنزل الله تعالى فيهم : " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل " .

وقال آخرون : بل قال ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قال ذلك له ، في غزوة بدر الصغرى ، وذلك في مسير النبي صلى الله عليه وسلم عام قابل من وقعة أحد للقاء عدوه أبي سفيان وأصحابه ، للموعد الذي كان واعده الالتقاء بها .

ذكر من قال ذلك : [ ص: 411 ]

8248 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم" ، قال : هذا أبو سفيان قال لمحمد : "موعدكم بدر حيث قتلتم أصحابنا" ، فقال محمد صلى الله عليه وسلم : "عسى"! فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعده حتى نزل بدرا ، فوافقوا السوق فيها وابتاعوا ، فذلك قوله تبارك وتعالى : "فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء" ، وهي غزوة بدر الصغرى .

8249 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد بنحوه وزاد فيه : وهي بدر الصغرى قال ابن جريج : لما عبى النبي صلى الله عليه وسلم لموعد أبي سفيان ، فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش ، فيقولون : "قد جمعوا لكم"! يكيدونهم بذلك ، يريدون أن يرعبوهم ، فيقول المؤمنون : "حسبنا الله ونعم الوكيل" ، حتى قدموا بدرا ، فوجدوا أسواقها عافية لم ينازعهم فيها أحد . قال : وقدم رجل من المشركين وأخبر أهل مكة بخيل محمد عليه السلام ، وقال في ذلك :


نفرت قلوصي عن خيول محمد     وعجوة منثورة كالعنجد
واتخذت ماء قديد موعدي



قال أبو جعفر : هكذا أنشدنا القاسم ، وهو خطأ ، وإنما هو :

[ ص: 412 ]

قد نفرت من رفقتي محمد     وعجوة من يثرب كالعنجد
تهوي على دين أبيها الأتلد     قد جعلت ماء قديد موعدي


وماء ضجنان لها ضحى الغد



8250 - حدثني الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة قال : كانت بدر متجرا في الجاهلية ، فخرج ناس من المسلمين يريدونه ، ولقيهم ناس من المشركين فقالوا لهم : " إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم "! فأما الجبان فرجع ، وأما الشجاع فأخذ الأهبة للقتال وأهبة التجارة ، وقالوا : "حسبنا الله ونعم الوكيل"! فأتوهم فلم يلقوا أحدا ، فأنزل الله عز وجل فيهم : "إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم" قال ابن يحيى قال : عبد الرزاق قال : ابن عيينة : وأخبرني زكريا ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن عمرو قال : هي كلمة إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار ، فقال : "حسبنا الله ونعم الوكيل" .

قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قول من قال : "إن الذي قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، كان في حال خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخروج من خرج معه في أثر أبي سفيان ومن كان معه من مشركي قريش ، منصرفهم عن أحد إلى حمراء الأسد " . [ ص: 413 ] لأن الله تعالى ذكره إنما مدح الذين وصفهم بقيلهم : "حسبنا الله ونعم الوكيل" ، لما قيل لهم : " إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم " ، بعد الذي قد كان نالهم من القروح والكلوم بقوله : " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح " ، ولم تكن هذه الصفة إلا صفة من تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جرحى أصحابه بأحد إلى حمراء الأسد .

وأما الذين خرجوا معه إلى غزوة بدر الصغرى ، فإنه لم يكن فيهم جريح إلا جريح قد تقادم اندمال جرحه وبرأ كلمه . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج إلى بدر الخرجة الثانية إليها ، لموعد أبي سفيان الذي كان واعده اللقاء بها ، بعد سنة من غزوة أحد ، في شعبان سنة أربع من الهجرة . وذلك أن وقعة أحد كانت في النصف من شوال من سنة ثلاث ، وخروج النبي صلى الله عليه وسلم لغزوة بدر الصغرى إليها في شعبان من سنة أربع ، ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم بين ذلك وقعة مع المشركين كانت بينهم فيها حرب جرح فيها أصحابه ، ولكن قد كان قتل في وقعة الرجيع من أصحابه جماعة لم يشهد أحد منهم غزوة بدر الصغرى . وكانت وقعة الرجيع فيما بين وقعة أحد وغزوة النبي صلى الله عليه وسلم بدر الصغرى .

التالي السابق


الخدمات العلمية