الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( وقولوا للناس حسنا )

قال أبو جعفر : إن قال قائل : كيف قيل : ( وقولوا للناس حسنا ) ، فأخرج الكلام أمرا ولما يتقدمه أمر ، بل الكلام جار من أول الآية مجرى الخبر؟ قيل : إن الكلام ، وإن كان قد جرى في أول الآية مجرى الخبر ، فإنه مما يحسن في موضعه الخطاب بالأمر والنهي . فلو كان مكان : "لا تعبدون إلا الله " ، لا تعبدوا إلا الله - على وجه النهي من الله لهم عن عبادة غيره - كان حسنا صوابا . وقد ذكر أن ذلك كذلك في قراءة أبي بن كعب . وإنما حسن ذلك وجاز - لو كان مقروءا به ؛ لأن أخذ الميثاق قول .

فكان معنى الكلام - لو كان مقروءا كذلك - : وإذ قلنا لبني إسرائيل : لا تعبدوا إلا الله ، كما قال جل ثناؤه في موضع آخر : ( وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة ) [ البقرة : 63 ] . فلما كان حسنا وضع الأمر والنهي في موضع : ( لا تعبدون إلا الله ) ، عطف بقوله : ( وقولوا للناس حسنا ) ، على موضع ( لا تعبدون ) ، وإن كان مخالفا كل واحد منهما معناه معنى ما فيه ؛ لما وصفنا من جواز وضع الخطاب بالأمر والنهي موضع "لا تعبدون " . فكأنه قيل : وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدوا إلا الله ، وقولوا للناس حسنا . وهو نظير ما قدمنا البيان عنه : من أن العرب تبتدئ الكلام أحيانا على وجه الخبر عن الغائب في موضع الحكاية لما أخبرت عنه ، ثم تعود إلى الخبر على [ ص: 294 ] وجه الخطاب; وتبتدئ أحيانا على وجه الخطاب ، ثم تعود إلى الإخبار على وجه الخبر عن الغائب ، لما في الحكاية من المعنيين ، كما قال الشاعر :


أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت



يعني : تقليت .

وأما "الحسن " فإن القرأة اختلفت في قراءته . فقرأته عامة قرأة الكوفة غير عاصم : ( وقولوا للناس حسنا ) بفتح الحاء والسين . وقرأته عامة قراء المدينة : ( حسنا ) بضم الحاء وتسكين السين . وقد روي عن بعض القرأة أنه كان يقرأ : "وقولوا للناس " حسنى " على مثال "فعلى " .

واختلف أهل العربية في فرق ما بين معنى قوله : "حسنا " و "حسنا " . فقال بعض البصريين : هو على أحد وجهين : إما أن يكون يراد ب "الحسن " "الحسن " وكلاهما لغة ، كما يقال : "البخل والبخل " ، وإما أن يكون جعل "الحسن " هو "الحسن " في التشبيه . وذلك أن الحسن "مصدر " و "الحسن " هو الشيء الحسن . ويكون ذلك حينئذ كقولك : "إنما أنت أكل وشرب " ، وكما قال الشاعر :


وخيل قد دلفت لها بخيل     تحية بينهم ضرب وجيع



[ ص: 295 ] فجعل "التحية " ضربا .

وقال آخر : بل "الحسن " هو الاسم العام الجامع جميع معاني الحسن . و"الحسن " هو البعض من معاني "الحسن " . قال : ولذلك قال جل ثناؤه إذ أوصى بالوالدين : ( ووصينا الإنسان بوالديه حسنا ) [ العنكبوت : 8 ] يعني بذلك أنه وصاه فيهما بجميع معاني الحسن ، وأمر في سائر الناس ببعض الذي أمره به في والديه ، فقال : ( وقولوا للناس حسنا ) ، يعني بذلك بعض معاني الحسن .

قال أبو جعفر : والذي قاله هذا القائل في معنى "الحسن " بضم الحاء وسكون السين ، غير بعيد من الصواب ، وأنه اسم لنوعه الذي سمي به . وأما "الحسن " فإنه صفة وقعت لما وصف به ، وذلك يقع بخاص ، وإذا كان الأمر كذلك ، فالصواب من القراءة في قوله : ( وقولوا للناس حسنا ) ، لأن القوم إنما أمروا في هذا العهد الذي قيل لهم : "وقولوا للناس " باستعمال الحسن من القول ، دون سائر معاني الحسن الذي يكون بغير القول . وذلك نعت لخاص من معاني الحسن ، وهو القول . فلذلك اخترت قراءته بفتح الحاء والسين ، على قراءته بضم الحاء وسكون السين .

وأما الذي قرأ ذلك : ( وقولوا للناس حسنى ) فإنه خالف بقراءته إياه كذلك ، قراءة أهل الإسلام . وكفى شاهدا على خطأ القراءة بها كذلك ، خروجها من قراءة أهل الإسلام ، لو لم يكن على خطئها شاهد غيره . فكيف وهي مع ذلك خارجة من المعروف من كلام العرب؟ وذلك أن العرب لا تكاد أن تتكلم ب "فعلى " "وأفعل " إلا بالألف واللام أو بالإضافة . لا يقال : "جاءني أحسن " ، حتى يقولوا : "الأحسن " . ولا يقال : "أجمل " ، حتى يقولوا ، "الأجمل " . وذلك أن "الأفعل" والفعلى " ، لا يكادان يوجدان صفة إلا لمعهود معروف ، كما تقول : بل أخوك الأحسن - وبل أختك الحسنى " . وغير جائز أن يقال : امرأة حسنى ، ورجل أحسن .

وأما تأويل القول الحسن الذي أمر الله به الذين وصف أمرهم من بني إسرائيل [ ص: 296 ] في هذه الآية ، أن يقولوه للناس ، فهو ما : -

1451 - حدثنا به أبو كريب قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : ( وقولوا للناس حسنا ) ، أمرهم أيضا بعد هذا الخلق : أن يقولوا للناس حسنا : أن يأمروا ب "لا إله إلا الله " من لم يقلها ورغب عنها ، حتى يقولوها كما قالوها ، فإن ذلك قربة من الله جل ثناؤه . وقال الحسن أيضا : لين القول ، من الأدب الحسن الجميل والخلق الكريم ، وهو مما ارتضاه الله وأحبه .

1452 - حدثني المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : ( وقولوا للناس حسنا ) ، قال : قولوا للناس معروفا .

1453 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج : ( وقولوا للناس حسنا ) ، قال : صدقا في شأن محمد صلى الله عليه وسلم .

1454 - وحدثت عن يزيد بن هارون قال ، سمعت سفيان الثوري يقول في قوله : ( وقولوا للناس حسنا ) ، قال : مروهم بالمعروف ، وانهوهم عن المنكر .

1455 - حدثني هارون بن إدريس الأصم قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي قال : حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان قال ، سألت عطاء بن أبي رباح ، عن قول الله جل ثناؤه : ( وقولوا للناس حسنا ) ، قال : من لقيت من الناس فقل له حسنا من القول . قال : وسألت أبا جعفر ، فقال مثل ذلك .

1456 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا القاسم قال : أخبرنا عبد الملك ، [ ص: 297 ] عن أبي جعفر وعطاء بن أبي رباح في قوله : ( وقولوا للناس حسنا ) ، قال : للناس كلهم .

1457 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء مثله .

التالي السابق


الخدمات العلمية