الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب ما يكره من لعن شارب الخمر وإنه ليس بخارج من الملة

                                                                                                                                                                                                        6398 حدثنا يحيى بن بكير حدثني الليث قال حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب أن رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله وكان يلقب حمارا وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب فأتي به يوما فأمر به فجلد فقال رجل من القوم اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تلعنوه فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب ما يكره من لعن شارب الخمر ، وأنه ليس بخارج من الملة ) يشير إلى طريق الجمع بين ما تضمنه حديث الباب من النهي عن لعنه وما تضمنه حديث الباب الأول لا يشرب الخمر وهو مؤمن وأن المراد به نفي كمال الإيمان لا أنه يخرج عن الإيمان جملة ، وعبر بالكراهة هنا إشارة إلى أن النهي للتنزيه في حق من يستحق اللعن إذا قصد به اللاعن محض السب لا إذا قصد معناه الأصلي وهو الإبعاد عن رحمة الله .

                                                                                                                                                                                                        فأما إذا قصده فيحرم ولا سيما في حق من لا يستحق اللعن كهذا الذي يحب الله ورسوله ولا سيما مع إقامة الحد عليه ، بل يندب الدعاء له بالتوبة والمغفرة كما تقدم تقريره في الباب الذي قبله في الكلام على حديث أبي هريرة ثاني حديثي الباب ، وبسبب هذا التفصيل عدل عن قوله في الترجمة كراهية لعن شارب الخمر إلى قوله : " ما يكره من " فأشار بذلك إلى التفصيل ، وعلى هذا التقرير فلا حجة فيه لمنع لعن الفاسق المعين مطلقا ، وقيل إن المنع خاص بما يقع في حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - لئلا يتوهم الشارب عند عدم الإنكار أنه مستحق لذلك ، فربما أوقع الشيطان في قلبه ما يتمكن به من فتنه ، وإلى ذلك الإشارة بقوله في حديث أبي هريرة : لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم .

                                                                                                                                                                                                        وقيل : المنع مطلقا في حق من أقيم عليه الحد ؛ لأن الحد قد كفر عنه الذنب المذكور ، وقيل : المنع مطلقا في حق ذي الزلة ، والجواز مطلقا في حق المجاهرين ، وصوب ابن المنير أن المنع مطلقا في حق المعين ، والجواز في حق غير المعين لأنه في حق غير المعين زجر عن تعاطي ذلك الفعل وفي حق المعين أذى له وسب ، وقد ثبت النهي عن أذى المسلم ، واحتج من أجاز لعن المعين بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما لعن من يستحق اللعن فيستوي المعين وغيره ، وتعقب بأنه إنما يستحق اللعن بوصف الإبهام ولو كان لعنه قبل الحد جائزا لاستمر بعد الحد كما لا يسقط التغريب بالجلد ، وأيضا فنصيب غير المعين من ذلك يسير جدا ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قال النووي في " الأذكار " : وأما الدعاء على إنسان بعينه ممن اتصف بشيء من المعاصي فظاهر الحديث أنه لا يحرم ، وأشار الغزالي إلى تحريمه ، وقال في " باب الدعاء على الظلمة " بعد أن أورد أحاديث صحيحة في الجواز قال الغزالي : وفي معنى اللعن الدعاء على الإنسان بالسوء حتى على الظالم مثل " لا أصح الله جسمه " وكل ذلك مذموم انتهى .

                                                                                                                                                                                                        والأولى حمل كلام الغزالي على الأول ، وأما الأحاديث فتدل على الجواز [ ص: 78 ] كما ذكره النووي في قوله - صلى الله عليه وسلم - للذي قال كل بيمينك ، فقال : لا أستطيع ، فقال : لا استطعت فيه دليل على جواز الدعاء على من خالف الحكم الشرعي ، ومال هنا إلى الجواز قبل إقامة الحد والمنع بعد إقامته ، وصنيع البخاري يقتضي لعن المتصف بذلك من غير أن يعين باسمه فيجمع بين المصلحتين ؛ لأن لعن المعين والدعاء عليه قد يحمله على التمادي أو يقنطه من قبول التوبة ، بخلاف ما إذا صرف ذلك إلى المتصف فإن فيه زجرا وردعا عن ارتكاب ذلك وباعثا لفاعله على الإقلاع عنه ، ويقويه النهي عن التثريب على الأمة إذا جلدت على الزنا كما سيأتي قريبا .

                                                                                                                                                                                                        واحتج شيخنا الإمام البلقيني على جواز لعن المعين بالحديث الوارد في المرأة إذا دعاها زوجها إلى فراشه فأبت ، لعنتها الملائكة حتى تصبح ، وهو في الصحيح ، وقد توقف فيه بعض من لقيناه بأن اللاعن لها الملائكة فيتوقف الاستدلال به على جواز التأسي بهم وعلى التسليم ، فليس في الخبر تسميتها ، والذي قاله شيخنا أقوى ؛ فإن الملك معصوم ، والتأسي بالمعصوم مشروع ، والبحث في جواز لعن المعين وهو الموجود .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إن رجلا كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان اسمه عبد الله وكان يلقب حمارا ) ذكر الواقدي في غزوة خيبر من مغازيه عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه قال : ووجد في حصن الصعب بن معاذ فذكر ما وجد من الثياب وغيرها إلى أن قال : " وزقاق خمر فأريقت ، وشرب يومئذ من تلك الخمر رجل يقال له عبد الله الحمار " ، وهو باسم الحيوان المشهور ، وقد وقع في حديث الباب أن الأول اسمه والثاني لقبه ، وجوز ابن عبد البر أنه ابن النعيمان المبهم في حديث عقبة بن الحارث ، فقال في ترجمة النعيمان : " كان رجلا صالحا ، وكان له ابن انهمك في الشراب ، فجلده النبي - صلى الله عليه وسلم - " فعلى هذا يكون كل من النعيمان وولده عبد الله جلد في الشرب .

                                                                                                                                                                                                        وقوي هذا عنده بما أخرجه الزبير بن بكار في الفاكهة من حديث محمد بن عمرو بن حزم قال : كان بالمدينة رجل يصيب الشراب ، فكان يؤتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - فيضربه بنعله ويأمر أصحابه فيضربونه بنعالهم ويحثون عليه التراب ، فلما كثر ذلك منه قال له رجل : لعنك الله ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تفعل فإنه يحب الله ورسوله " .

                                                                                                                                                                                                        وحديث عقبة اختلف ألفاظ ناقليه ؛ هل الشارب النعيمان أو ابن النعيمان ، والراجح النعيمان فهو غير المذكور هنا ؛ لأن قصة عبد الله كانت في خيبر ، فهي سابقة على قصة النعيمان ، فإن عقبة بن الحارث من مسلمة الفتح ، والفتح كان بعد خيبر بنحو من عشرين شهرا ، والأشبه أنه المذكور في حديث عبد الرحمن بن أزهر ؛ لأن عقبة بن الحارث ممن شهدها من مسلمة الفتح ، لكن في حديثه أن النعيمان ضرب في البيت ، وفي حديث عبد الرحمن بن أزهر أنه أتي به والنبي - صلى الله عليه وسلم - عند رحل خالد بن الوليد ، ويمكن الجمع بأنه أطلق على رحل خالد بيتا فكأنه كان بيتا من شعر فإن كان كذلك فهو الذي في حديث أبي هريرة ؛ لأن في كل منهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه : " بكتوه " كما تقدم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وكان يضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم ) أي يقول بحضرته أو يفعل ما يضحك منه ، وقد أخرج أبو يعلى من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم بسند الباب : " أن رجلا كان يلقب حمارا وكان يهدي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - العكة من السمن والعسل ، فإذا جاء صاحبه يتقاضاه جاء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : أعط هذا متاعه ، فما يزيد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبتسم ويأمر به فيعطى " .

                                                                                                                                                                                                        ووقع في حديث محمد بن عمرو بن حزم بعد قوله : " يحب الله ورسوله " ، قال : " وكان لا يدخل إلى المدينة طرفة إلا اشترى منها ثم جاء فقال : يا رسول الله ، هذا أهديت لك ، فإذا جاء صاحبه طلب ثمنه جاء به فقال : أعط [ ص: 79 ] هذا الثمن ، فيقول ألم تهده إلي فيقول : ليس عندي ، فيضحك ويأمر لصاحبه بثمنه " ، وهذا مما يقوي أن صاحب الترجمة والنعيمان واحد ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قد جلده في الشراب ) أي بسبب شربه الشراب المسكر و " كان " فيه مضمرة أي : كان قد جلده ، ووقع في رواية معمر عن زيد بن أسلم بسنده هذا عند عبد الرزاق : " أتي برجل قد شرب الخمر فحد ، ثم أتي به فحد ، ثم أتي به فحد ، ثم أتي به فحد أربع مرات " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فأتي به يوما ) فذكر سفيان اليوم الذي أتي به فيه والشراب الذي شربه من عند الواقدي ، ووقع في روايته " وكان قد أتي به في الخمر مرارا " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فأمر به فجلد ) في رواية الواقدي " فأمر به فخفق بالنعال " ، وعلى هذا فقوله : " فجلد " أي ضرب ضربا أصاب جلده ، وقد يؤخذ منه أنه المذكور في حديث أنس في الباب الأول .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال رجل من القوم ) لم أر هذا الرجل مسمى ، وقد وقع في رواية معمر المذكورة : " فقال رجل عند النبي - صلى الله عليه وسلم - " ثم رأيته مسمى في رواية الواقدي فعنده " فقال عمر " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ما أكثر ما يؤتى به ) في رواية الواقدي " ما يضرب " وفي رواية معمر " ما أكثر ما يشرب وما أكثر ما يجلد " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( لا تلعنوه ) في رواية الواقدي : " لا تفعل يا عمر " وهذا قد يتمسك به من يدعي اتحاد القصتين ، وهو بعيد لما بينته من اختلاف الوقتين ، ويمكن الجمع بأن ذلك وقع للنعيمان ولابن النعيمان وأنه اسمه عبد الله ولقبه حمار ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله ) كذا للأكثر بكسر الهمزة ، ويجوز على رواية ابن السكن الفتح والكسر ، وقال بعضهم : الرواية بفتح الهمزة ، على أن " ما " نافية يحيل المعنى إلى ضده ، وأغرب بعض شراح المصابيح فقال : ما موصولة ، وإن مع اسمها وخبرها سدت مسد مفعولي علمت لكونه مشتملا على المنسوب والمنسوب إليه ، والضمير في أنه يعود إلى الموصول ، والموصول مع صلته خبر مبتدإ محذوف تقديره : هو الذي علمت ، والجملة في جواب القسم ، قال الطيبي : وفيه تعسف .

                                                                                                                                                                                                        وقال صاحب " المطالع " : ما موصولة ، وإنه بكسر الهمزة مبتدأ ، وقيل بفتحها ، وهو مفعول علمت . قال الطيبي : فعلى هذا علمت بمعنى عرفت ، وإنه خبر الموصول .

                                                                                                                                                                                                        وقال أبو البقاء في إعراب الجمع : ما زائدة ، أي : فوالله علمت أنه ، والهمزة على هذا مفتوحة . قال : ويحتمل أن يكون المفعول محذوفا ، أي : ما علمت عليه أو فيه سوءا ، ثم استأنف فقال : إنه يحب الله ورسوله .

                                                                                                                                                                                                        ونقل عن رواية ابن السكن أن التاء بالفتح للخطاب تقريرا ، ويصح على هذا كسر الهمزة وفتحها ، والكسر على جواب القسم والفتح معمول علمت ، وقيل ما زائدة للتأكيد والتقدير لقد علمت .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وقد حكى في " المطالع " أن في بعض الروايات : " فوالله لقد علمت " وعلى هذا فالهمزة مفتوحة ، ويحتمل أن تكون ما مصدرية وكسرت إن لأنها جواب القسم .

                                                                                                                                                                                                        قال الطيبي : وجعل ما نافية أظهر لاقتضاء القسم أن يلتقي بحرف النفي وبإن وباللام خلاف الموصولة ، ولأن الجملة القسمية جيء بها مؤكدة لمعنى النفي مقررة للإنكار ، ويؤيده أنه وقع في شرح السنة : " فوالله ما علمت إلا أنه قال " فمعنى الحصر في هذه الرواية بمنزلة تاء الخطاب في الرواية الأخرى لإرادة مزيد الإنكار على المخاطب .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وقد وقع في رواية أبي ذر عن [ ص: 80 ] الكشميهني مثل ما عزاه لشرح السنة ، ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق أبي زرعة الرازي عن يحيى بن بكير شيخ البخاري فيه : " فوالله ما علمت أنه ليحب الله ورسوله " ويصح معه أن تكون ما زائدة وأن تكون ظرفية ، أي مدة علمي ، ووقع في رواية معمر والواقدي : " فإنه يحب الله ورسوله " ، وكذا في رواية محمد بن عمرو بن حزم ، ولا إشكال فيها ؛ لأنها جاءت تعليلا لقوله : " لا تفعل يا عمر " والله أعلم . وفي هذا الحديث من الفوائد : جواز التلقيب وقد تقدم القول فيه في كتاب الأدب ، وهو محمول هنا على أنه كان لا يكرهه ، أو أنه ذكر به على سبيل التعريف لكثرة من كان يسمى بعبد الله ، أو أنه لما تكرر منه الإقدام على الفعل المذكور نسب إلى البلادة فأطلق عليه اسم من يتصف بها ليرتدع بذلك .

                                                                                                                                                                                                        وفيه الرد على من زعم أن مرتكب الكبيرة كافر لثبوت النهي عن لعنه والأمر بالدعاء له .

                                                                                                                                                                                                        وفيه أن لا تنافي بين ارتكاب النهي وثبوت محبة الله ورسوله في قلب المرتكب ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأن المذكور يحب الله ورسوله مع وجود ما صدر منه ، وأن من تكررت منه المعصية لا تنزع منه محبة الله ورسوله ، ويؤخذ منه تأكيد ما تقدم أن نفي الإيمان عن شارب الخمر لا يراد به زواله بالكلية بل نفي كماله كما تقدم ، ويحتمل أن يكون استمرار ثبوت محبة الله ورسوله في قلب العاصي مقيدا بما إذا ندم على وقوع المعصية وأقيم عليه الحد فكفر عنه الذنب المذكور ، بخلاف من لم يقع منه ذلك فإنه يخشى عليه بتكرار الذنب أن يطبع على قلبه شيء حتى يسلب منه ذلك ، نسأل الله العفو والعافية .

                                                                                                                                                                                                        وفيه ما يدل على نسخ الأمر الوارد بقتل شارب الخمر إذا تكرر منه إلى الرابعة أو الخامسة ؛ فقد ذكر ابن عبد البر أنه أتي به أكثر من خمسين مرة ، والأمر المنسوخ أخرجه الشافعي في رواية حرملة عنه وأبو داود وأحمد والنسائي والدارمي وابن المنذر وصححه ابن حبان [1] كلهم من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رفعه إذا سكر فاجلدوه ، ثم إذا سكر فاجلدوه ، ثم إذا سكر فاجلدوه ، ثم إذا سكر فاقتلوه ولبعضهم " فاضربوا عنقه " .

                                                                                                                                                                                                        وله من طريق أخرى عن أبي هريرة أخرجها عبد الرزاق وأحمد والترمذي تعليقا والنسائي كلهم من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عنه بلفظ : " إذا شربوا فاجلدوهم ثلاثا ، فإذا شربوا الرابعة فاقتلوهم " .

                                                                                                                                                                                                        وروي عن عاصم بن بهدلة عن أبي صالح فقال أبو بكر بن عياش عنه عن أبي صالح عن أبي سعيد ، كذا أخرجه ابن حبان من رواية عثمان بن أبي شيبة عن أبي بكر ، وأخرجه الترمذي عن أبي كريب عنه فقال : " عن معاوية " بدل " أبي سعيد " وهو المحفوظ ، وكذا أخرجه أبو داود من رواية أبان العطار عنه ، وتابعه الثوري وشيبان بن عبد الرحمن وغيرهما عن عاصم ، ولفظ الثوري عن عاصم : " ثم إن شرب الرابعة فاضربوا عنقه " .

                                                                                                                                                                                                        ووقع في رواية أبان عند أبي داود : " ثم إن شربوا فاجلدوهم " ثلاث مرات بعد الأولى ، ثم قال : " إن شربوا فاقتلوهم " ثم ساقه أبو داود من طريق حميد بن يزيد عن نافع عن ابن عمر قال : " وأحسبه قال في الخامسة : ثم إن شربها فاقتلوه " .

                                                                                                                                                                                                        قال : وكذا في حديث غطيف في الخامسة ، قال أبو داود : " وفي رواية عمر بن أبي سلمة عن أبيه وسهيل بن أبي صالح عن أبيه كلاهما عن أبي هريرة في الرابعة " ، وكذا في رواية ابن أبي نعيم عن ابن عمر ، وكذا في رواية عبد الله بن عمرو بن العاص والشريد .

                                                                                                                                                                                                        وفي رواية معاوية : " فإن عاد في الثالثة أو الرابعة فاقتلوه " ، وقال الترمذي بعد تخريجه : وفي الباب عن أبي هريرة ، والشريد ، وشرحبيل بن أوس ، وأبي الرمداء ، وجرير ، وعبد الله بن عمرو .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وقد ذكرت حديث أبي هريرة ، وأما حديث الشريد وهو ابن أوس الثقفي فأخرجه أحمد والدارمي والطبراني ، وصححه الحاكم بلفظ : " إذا شرب فاضربوه " ، وقال في آخره : " ثم إن عاد الرابعة فاقتلوه " .

                                                                                                                                                                                                        وأما حديث شرحبيل وهو الكندي فأخرجه أحمد والحاكم والطبراني وابن منده في " المعرفة " ورواته [ ص: 81 ] ثقات نحو رواية الذي قبله ، وصححه الحاكم من وجه آخر .

                                                                                                                                                                                                        وأما حديث أبي الرمداء ، وهو بفتح الراء وسكون الميم بعدها دال مهملة وبالمد ، وقيل بموحدة ثم ذال معجمة ، وهو بدري نزل مصر فأخرجه الطبراني وابن منده ، وفي سنده ابن لهيعة ، وفي سياق حديثه : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالذي شرب الخمر في الرابعة أن تضرب عنقه فضربت " .

                                                                                                                                                                                                        فأفاد أن ذلك عمل به قبل النسخ ، فإن ثبت كان فيه رد على من زعم أنه لم يعمل به .

                                                                                                                                                                                                        وأما حديث جرير فأخرجه الطبراني والحاكم ولفظه من شرب الخمر فاجلدوه وقال فيه : فإن عاد في الرابعة فاقتلوه .

                                                                                                                                                                                                        وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص فأخرجه أحمد والحاكم من وجهين عنه وفي كل منهما مقال ، ففي رواية شهر بن حوشب عنه فإن شربها الرابعة فاقتلوه .

                                                                                                                                                                                                        قلت : ورويناه عن أبي سعيد أيضا كما تقدم وعن ابن عمر ، وأخرجه النسائي والحاكم من رواية عبد الرحمن بن أبي نعيم عن ابن عمر ونفر من الصحابة بنحوه ، وأخرجه الطبراني موصولا من طريق عياض بن غطيف عن أبيه ، وفيه " في الخامسة " كما أشار إليه أبو داود ، وأخرجه الترمذي تعليقا والبزار والشافعي والنسائي والحاكم موصولا من رواية محمد بن المنكدر عن جابر ، وأخرجه البيهقي والخطيب في " المبهمات " من وجهين آخرين عن ابن المنكدر ، وفي رواية الخطيب " جلد " .

                                                                                                                                                                                                        وللحاكم من طريق يزيد بن أبي كبشة سمعت رجلا من الصحابة يحدث عبد الملك بن مروان رفعه بنحوه : " ثم إن عاد في الرابعة فاقتلوه " ، وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن ابن المنكدر مرسلا ، وفيه : " أتي بابن النعيمان بعد الرابعة فجلده " وأخرجه الطحاوي من رواية عمرو بن الحارث عن ابن المنكدر أنه بلغه ، وأخرجه الشافعي وعبد الرزاق وأبو داود من رواية الزهري عن قبيصة بن ذؤيب قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من شرب الخمر فاجلدوه - إلى أن قال - ثم إذا شرب في الرابعة فاقتلوه ، قال فأتي برجل قد شرب فجلده ثم أتي به قد شرب فجلده ثم أتي به وقد شرب فجلده ، ثم أتي به في الرابعة قد شرب فجلده فرفع القتل عن الناس وكانت رخصة " . وعلقه الترمذي فقال : روى الزهري وأخرجه الخطيب في " المبهمات " من طريق محمد بن إسحاق عن الزهري وقال فيه : " فأتي برجل من الأنصار يقال له نعيمان فضربه أربع مرات ، فرأى المسلمون أن القتل قد أخر وأن الضرب قد وجب " ، وقبيصة بن ذؤيب من أولاد الصحابة وولد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمع منه ، ورجال هذا الحديث ثقات مع إرساله ، لكنه أعل بما أخرجه الطحاوي من طريق الأوزاعي عن الزهري قال : " بلغني عن قبيصة " ، ويعارض ذلك رواية ابن وهب عن يونس عن الزهري أن قبيصة حدثه أنه بلغه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا أصح ؛ لأن يونس أحفظ لرواية الزهري من الأوزاعي ، والظاهر أن الذي بلغ قبيصة ذلك صحابي فيكون الحديث على شرط الصحيح لأن إبهام الصحابي لا يضر ، وله شاهد أخرجه عبد الرزاق عن معمر قال : حدثت به ابن المنكدر فقال : ترك ذلك ، قد أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بابن نعيمان فجلده ثلاثا ، ثم أتي به في الرابعة فجلده ولم يزده ، ووقع عند النسائي من طريق محمد بن إسحاق عن ابن المنكدر : " عن جابر فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجل منا قد شرب في الرابعة فلم يقتله " .

                                                                                                                                                                                                        وأخرجه من وجه آخر عن محمد بن إسحاق بلفظ : " فإن عاد الرابعة فاضربوا عنقه فضربه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع مرات ، فرأى المسلمون أن الحد قد وقع وأن القتل قد رفع " ، قال الشافعي بعد تخريجه : هذا ما لا اختلاف فيه بين أهل العلم علمته .

                                                                                                                                                                                                        وذكره أيضا عن أبي الزبير مرسلا . وقال : أحاديث القتل منسوخة ، وأخرجه أيضا من رواية ابن أبي ذئب حدثني ابن شهاب : " أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بشارب فجلده ولم يضرب عنقه " ، وقال الترمذي : لا نعلم بين أهل العلم في هذا اختلافا في القديم والحديث .

                                                                                                                                                                                                        قال : وسمعت محمدا يقول : حديث معاوية في هذا أصح ، وإنما كان هذا في أول الأمر ثم نسخ بعد ، وقال في [ ص: 82 ] " العلل " آخر الكتاب : جميع ما في هذا الكتاب قد عمل به أهل العلم إلا هذا الحديث وحديث الجمع بين الصلاتين في الحضر ، وتعقبه النووي فسلم قوله في حديث الباب دون الآخر ، ومال الخطابي إلى تأويل الحديث في الأمر بالقتل فقال : قد يرد الأمر بالوعيد ولا يراد به وقوع الفعل وإنما قصد به الردع والتحذير ، ثم قال : ويحتمل أن يكون القتل في الخامسة كان واجبا ثم نسخ بحصول الإجماع من الأمة على أنه لا يقتل ، وأما ابن المنذر فقال : كان العمل فيمن شرب الخمر أن يضرب وينكل به ، ثم نسخ بالأمر بجلده فإن تكرر ذلك أربعا قتل ، ثم نسخ ذلك بالأخبار الثابتة وبإجماع أهل العلم إلا من شذ ممن لا يعد [ خلافه ] خلافا .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وكأنه أشار إلى بعض أهل الظاهر ، فقد نقل عن بعضهم واستمر عليه ابن حزم منهم واحتج له ، وادعى أن لا إجماع ، وأورد من مسند الحارث بن أبي أسامة ما أخرجه هو والإمام أحمد من طريق الحسن البصري عن عبد الله بن عمرو أنه قال : ائتوني برجل أقيم عليه الحد يعني ثلاثا ثم سكر ، فإن لم أقتله فأنا كذاب ، وهذا منقطع ؛ لأن الحسن لم يسمع من عبد الله بن عمرو كما جزم به ابن المديني وغيره فلا حجة فيه ، وإذا لم يصح هذا عن عبد الله في عمرو لم يبق لمن رد الإجماع على ترك القتل متمسك حتى ولو ثبت عن عبد الله بن عمرو لكان عذره أنه لم يبلغه النسخ وعد ذلك من نزرة المخالف ، وقد جاء عن عبد الله بن عمرو أشد من الأول ؛ فأخرج سعيد بن منصور عنه بسند لين قال : لو رأيت أحدا يشرب الخمر واستطعت أن أقتله لقتلته .

                                                                                                                                                                                                        وأما قول بعض من انتصر لابن حزم فطعن في النسخ بأن معاوية إنما أسلم بعد الفتح وليس في شيء من أحاديث غيره الدالة على نسخه التصريح بأن ذلك متأخر عنه ، وجوابه أن معاوية أسلم قبل الفتح وقيل في الفتح ، وقصة ابن النعيمان كانت بعد ذلك ؛ لأن عقبة بن الحارث حضرها إما بحنين وإما بالمدينة ، وهو إنما أسلم في الفتح وحنين ، وحضور عقبة إلى المدينة كان بعد الفتح جزما فثبت ما نفاه هذا القائل ، وقد عمل بالناسخ بعض الصحابة ؛ فأخرج عبد الرزاق في مصنفه بسند لين عن عمر بن الخطاب أنه جلد أبا محجن الثقفي في الخمر ثماني مرار ، وأورد نحو ذلك عن سعد بن أبي وقاص ، وأخرج حماد بن سلمة في مصنفه من طريق أخرى رجالها ثقات أن عمر جلد أبا محجن في الخمر أربع مرار ثم قال له : أنت خليع ، فقال : أما إذ خلعتني فلا أشربها أبدا .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية