الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        1749 حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاء رجل فقال إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال اقتلوه

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن أنس ) في رواية أبي أويس عند ابن سعد : " أن أنس بن مالك حدثه "

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عام الفتح وعلى رأسه المغفر ) بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الفاء : زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس ، وقيل : هو رفرف البيضة قاله في " المحكم " وفي " المشارق " هو ما يجعل من فضل دروع الحديد على الرأس مثل القلنسوة ، وفي رواية زيد بن الحباب عن مالك : " يوم الفتح وعليه مغفر من حديد " أخرجه الدارقطني في " الغرائب " والحاكم في " الإكليل " وكذا هو في رواية أبي أويس .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فلما نزعه جاءه رجل ) لم أقف على اسمه ، إلا أنه يحتمل أن يكون هو الذي باشر قتله ، وقد جزم الفاكهي في " شرح العمدة " بأن الذي جاء بذلك هو أبو برزة الأسلمي ، وكأنه لما رجح عنده أنه هو الذي قتله ، رأى أنه هو الذي جاء مخبرا بقصته ، ويوشحه قوله في رواية يحيى بن قزعة في المغازي : " فقال : اقتله " بصيغة الإفراد . على أنه اختلف في اسم قاتله ، ففي حديث سعيد بن يربوع عند الدارقطني والحاكم أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : أربعة لا أؤمنهم لا في حل ولا حرم : الحويرث بن نقيد - بالنون والقاف مصغر - وهلال بن خطل ، ومقيس بن صبابة ، وعبد الله بن أبي سرح - قال - فأما هلال بن خطل فقتله الزبير الحديث . وفي حديث سعد بن أبي وقاص عند البزار والحاكم والبيهقي في " الدلائل " نحوه ، لكن قال : أربعة نفر وامرأتين فقال : اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة فذكرهم ، لكن قال : عبد الله بن خطل بدل هلال ، وقال : عكرمة ، بدل الحويرث ، ولم يسم المرأتين ، وقال : " فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا ، وكان أشب الرجلين فقتله " الحديث .

                                                                                                                                                                                                        وفي زيادات يونس بن بكير في المغازي من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نحوه . وروى ابن أبي شيبة والبيهقي في " الدلائل " من طريق الحكم بن عبد الملك عن قتادة عن أنس " أمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس يوم فتح مكة إلا أربعة من الناس : عبد العزى بن خطل ، ومقيس بن صبابة الكناني ، وعبد الله بن أبي سرح ، وأم سارة . فأما عبد العزى بن خطل فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة " وروى ابن أبي شيبة من طريق أبي عثمان النهدي " أن أبا برزة الأسلمي قتل ابن خطل وهو متعلق [ ص: 73 ] بأستار الكعبة " وإسناده صحيح مع إرساله ، وله شاهد عند ابن المبارك في " البر والصلة " من حديث أبي برزة نفسه ، ورواه أحمد من وجه آخر ، وهو أصح ما ورد في تعيين قاتله ، وبه جزم البلاذري وغيره من أهل العلم بالأخبار ، وتحمل بقية الروايات على أنهم ابتدروا قتله فكان المباشر له منهم أبو برزة ، ويحتمل أن يكون غيره شاركه فيه ، فقد جزم ابن هشام في السيرة بأن سعيد بن حريث وأبا برزة الأسلمي اشتركا في قتله ، ومنهم من سمى قاتله سعيد بن ذؤيب ، وحكى المحب الطبري أن الزبير بن العوام هو الذي قتل ابن خطل .

                                                                                                                                                                                                        وروى الحاكم من طريق أبي معشر عن يوسف بن يعقوب عن السائب بن يزيد قال : " فأخذ عبد الله بن خطل من تحت أستار الكعبة فقتل بين المقام وزمزم " وقد جمع الواقدي عن شيوخه أسماء من لم يؤمن يوم الفتح ، وأمر بقتله عشرة أنفس : ستة رجال وأربع نسوة . والسبب في قتل ابن خطل وعدم دخوله في قوله : من دخل المسجد فهو آمن ما روى ابن إسحاق في المغازي ، حدثني عبد الله بن أبي بكر وغيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دخل مكة قال : لا يقتل أحد إلا من قاتل ، إلا نفرا سماهم ، فقال : اقتلوهم وإن وجدتموهم تحت أستار الكعبة ، منهم عبد الله بن خطل ، وعبد الله بن سعد ، وإنما أمر بقتل ابن خطل ؛ لأنه كان مسلما فبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصدقا ، وبعث معه رجلا من الأنصار ، وكان معه مولى يخدمه وكان مسلما ، فنزل منزلا ، فأمر المولى أن يذبح تيسا ويصنع له طعاما ، فنام واستيقظ ولم يصنع له شيئا ، فعدا عليه فقتله ، ثم ارتد مشركا ، وكانت له قينتان تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                        وروى الفاكهي من طريق ابن جريج قال : قال مولى ابن عباس : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا من الأنصار ورجلا من مزينة وابن خطل ، وقال : أطيعا الأنصاري حتى ترجعا ، فقتل ابن خطل الأنصاري وهرب المزني ، وكان ممن أهدر النبي - صلى الله عليه وسلم - دمه يوم الفتح .

                                                                                                                                                                                                        ومن النفر الذين كان أهدر دمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الفتح غير من تقدم ذكره هبار بن الأسود ، وعكرمة بن أبي جهل ، وكعب بن زهير ، ووحشي بن حرب ، وأسيد بن إياس بن أبي زنيم ، وقينتا ابن خطل ، وهند بنت عتبة . والجمع بين ما اختلف فيه من اسمه أنه كان يسمى عبد العزى ، فلما أسلم سمي عبد الله ، وأما من قال هلال فالتبس عليه بأخ له اسمه هلال ، بين ذلك الكلبي في النسب ، وقيل : هو عبد الله بن هلال بن خطل ، وقيل : غالب بن عبد الله بن خطل ، واسم خطل عبد مناف من بني تيم بن فهر بن غالب . وهذا الحديث ظاهره أنه - صلى الله عليه وسلم - لما دخل مكة يوم الفتح لم يكن محرما ، وقد صرح بذلك مالك راوي الحديث كما ذكره المصنف في " المغازي " عن يحيى بن قزعة عن مالك عقب هذا الحديث .

                                                                                                                                                                                                        قال مالك : ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما نرى - والله أعلم - يومئذ محرما ا هـ . وقول مالك هذا رواه عبد الرحمن بن مهدي عن مالك جازما به ، أخرجه الدارقطني في " الغرائب " ، ووقع في " الموطأ " من رواية أبي مصعب وغيره قال مالك : " قال ابن شهاب ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ محرما " وهذا مرسل ، ويشهد له ما رواه مسلم من حديث جابر بلفظ " دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام " وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن طاوس قال : لم يدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة إلا محرما إلا يوم فتح مكة وزعم الحاكم في " الإكليل " أن بين حديث أنس في المغفر وبين حديث جابر في العمامة السوداء معارضة ، وتعقبوه باحتمال أن يكون أول دخوله كان على رأسه المغفر ، ثم أزاله ولبس العمامة بعد ذلك ، فحكى كل [ ص: 74 ] منهما ما رآه ، ويؤيده أن في حديث عمرو بن حريث : أنه خطب الناس وعليه عمامة سوداء أخرجه مسلم أيضا ، وكانت الخطبة عند باب الكعبة وذلك بعد تمام الدخول ، وهذا الجمع لعياض .

                                                                                                                                                                                                        وقال غيره : يجمع بأن العمامة السوداء كانت ملفوفة فوق المغفر أو كانت تحت المغفر وقاية لرأسه من صدأ الحديد ، فأراد أنس بذكر المغفر كونه دخل متهيئا للحرب ، وأراد جابر بذكر العمامة كونه دخل غير محرم ، وبهذا يندفع إشكال من قال : لا دلالة في الحديث على جواز دخول مكة بغير إحرام ؛ لاحتمال أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان محرما ، ولكنه غطى رأسه لعذر ، فقد اندفع ذلك بتصريح جابر بأنه لم يكن محرما ، لكن فيه إشكال من وجه آخر ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان متأهبا للقتال ، ومن كان كذلك جاز له الدخول بغير إحرام عند الشافعية ، وإن كان عياض نقل الاتفاق على مقابله ، وأما من قال من الشافعية كابن القاص : دخول مكة بغير إحرام من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - ففيه نظر ؛ لأن الخصوصية لا تثبت إلا بدليل ، لكن زعم الطحاوي أن دليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي شريح وغيره إنها لم تحل له إلا ساعة من نهار ، وأن المراد بذلك جواز دخولها له بغير إحرام لا تحريم القتل والقتال فيها ؛ لأنهم أجمعوا على أن المشركين لو غلبوا والعياذ بالله تعالى على مكة حل للمسلمين قتالهم وقتلهم فيها .

                                                                                                                                                                                                        وقد عكس استدلاله النووي فقال : في الحديث دلالة على أن مكة تبقى دار إسلام إلى يوم القيامة ، فبطل ما صوره الطحاوي . وفي دعواه الإجماع نظر ؛ فإن الخلاف ثابت كما تقدم ، وقد حكاه القفال والماوردي وغيرهما ، واستدل بحديث الباب على أنه - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة عنوة ، وأجاب النووي بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان صالحهم ، لكن لما لم يأمن غدرهم دخل متأهبا ، وهذا جواب قوي ، إلا أن الشأن في ثبوت كونه صالحهم فإنه لا يعرف في شيء من الأخبار صريحا كما سيأتي إيضاحه في الكلام على فتح مكة من المغازي إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                        واستدل بقصة ابن خطل على جواز إقامة الحدود والقصاص في حرم مكة ، قال ابن عبد البر : كان قتل ابن خطل قودا من قتله المسلم . وقال السهيلي : فيه أن الكعبة لا تعيذ عاصيا ولا تمنع من إقامة حد واجب . وقال النووي : تأول من قال لا يقتل فيها على أنه - صلى الله عليه وسلم - قتله في الساعة التي أبيحت له ، وأجاب عنه أصحابنا بأنها إنما أبيحت له ساعة الدخول حتى استولى عليها وأذعن أهلها ، وإنما قتل ابن خطل بعد ذلك . انتهى .

                                                                                                                                                                                                        وتعقب بما تقدم في الكلام على حديث أبي شريح أن المراد بالساعة التي أحلت له ما بين أول النهار ودخول وقت العصر ، وقتل ابن خطل كان قبل ذلك قطعا ؛ لأنه قيد في الحديث بأنه كان عند نزعه المغفر ، وذلك عند استقراره بمكة ، وقد قال ابن خزيمة : المراد بقوله في حديث ابن عباس : ما أحل الله لأحد فيه القتل غيري أي : قتل النفر الذين قتلوا يومئذ ؛ ابن خطل ومن ذكر معه . قال : وكان الله قد أباح له القتال والقتل معا في تلك الساعة ، وقتل ابن خطل وغيره بعد تقضي القتال . واستدل به على جواز قتل الذمي إذا سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وفيه نظر كما قاله ابن عبد البر ؛ لأن ابن خطل كان حربيا ولم يدخله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمانه لأهل مكة ، بل استثناه مع من استثني وخرج أمره بقتله مع أمانه لغيره مخرجا واحدا ، فلا دلالة فيه لما ذكره . انتهى . ويمكن أن يتمسك به في جواز قتل من فعل ذلك بغير استتابة من غير تقييد بكونه ذميا ، لكن ابن خطل عمل بموجبات القتل فلم يتحتم أن سبب قتله السب ، واستدل به على جواز قتل الأسير صبرا لأن القدرة على ابن خطل [ ص: 75 ] صيرته كالأسير في يد الإمام وهو مخير فيه بين القتل وغيره لكن قال الخطابي إنه - صلى الله عليه وسلم - قتله بما جناه في الإسلام .

                                                                                                                                                                                                        وقال ابن عبد البر : قتله قودا من دم المسلم الذي غدر به وقتله ثم ارتد كما تقدم . واستدل به على جواز قتل الأسير من غير أن يعرض عليه الإسلام ، ترجم بذلك أبو داود . وفيه مشروعية لبس المغفر وغيره من آلات السلاح حال الخوف من العدو وأنه لا ينافي التوكل ، وقد تقدم في " باب متى يحل للمعتمر " من أبواب العمرة من حديث عبد الله بن أبي أوفى : اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما دخل مكة طاف وطفنا معه ، ومعه من يستره من أهل مكة أن يرميه أحد الحديث ، وإنما احتاج إلى ذلك ؛ لأنه كان حينئذ محرما ، فخشي الصحابة أن يرميه بعض سفهاء المشركين بشيء يؤذيه ، فكانوا حوله يسترون رأسه ويحفظونه من ذلك . وفيه جواز رفع أخبار أهل الفساد إلى ولاة الأمر ، ولا يكون ذلك من الغيبة المحرمة ولا النميمة .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية