الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        3653 حدثنا يحيى بن سليمان قال حدثني ابن وهب قال حدثني عمر أن سالما حدثه عن عبد الله بن عمر قال ما سمعت عمر لشيء قط يقول إني لأظنه كذا إلا كان كما يظن بينما عمر جالس إذ مر به رجل جميل فقال لقد أخطأ ظني أو إن هذا على دينه في الجاهلية أو لقد كان كاهنهم علي الرجل فدعي له فقال له ذلك فقال ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم قال فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني قال كنت كاهنهم في الجاهلية قال فما أعجب ما جاءتك به جنيتك قال بينما أنا يوما في السوق جاءتني أعرف فيها الفزع فقالت ألم تر الجن وإبلاسها ويأسها من بعد إنكاسها ولحوقها بالقلاص وأحلاسها قال عمر صدق بينما أنا نائم عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه فصرخ به صارخ لم أسمع صارخا قط أشد صوتا منه يقول يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول لا إله إلا الله فوثب القوم قلت لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا ثم نادى يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول لا إله إلا الله فقمت فما نشبنا أن قيل هذا نبي

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حدثني عمر ) هو ابن محمد بن زيد ، وهو شيخ ابن وهب في الحديث الثاني ، ووهم من زعم أنه عمر بن الحارث كالكلاباذي فقد وقع في رواية الإسماعيلي عن عمر بن محمد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ما سمعت عمر يقول لشيء : إني لأظنه كذا إلا كان ) أي عن شيء ، واللام قد تأتي بمعنى عن كقوله : وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إلا كان كما يظن ) هو موافق لما تقدم في مناقبه أنه كان محدثا بفتح الدال ، وتقدم شرحه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إذ مر به رجل جميل ) هو سواد - بفتح المهملة وتخفيف الواو وآخره مهملة - ابن قارب بالقاف والموحدة ، وهو سدوسي أو دوسي . وقد أخرج ابن أبي خيثمة وغيره من طريق أبي جعفر الباقر قال : " دخل رجل يقال له : سواد بن قارب السدوسي على عمر ، فقال : يا سواد أنشدك الله ، هل تحسن من كهانتك شيئا " فذكر القصة . وأخرج الطبراني والحاكم وغيرهما من طريق محمد بن كعب القرظي قال : " بينما عمر قاعد في المسجد " فذكر مثل سياق أبي جعفر وأتم منه ، وهما طريقان مرسلان يعضد أحدهما الآخر . وأخرج البخاري في تاريخه والطبراني من طريق عباد بن عبد الصمد عن سعيد بن جبير قال : " أخبرني سواد بن قارب قال : كنت نائما " فذكر قصته الأولى دون قصته مع عمر . وهذا إن ثبت دل على تأخر وفاته ، لكن عبادا ضعيف . ولابن شاهين من طريق أخرى ضعيفة عن أنس قال : " دخل رجل من دوس يقال له : سواد بن قارب على النبي - صلى الله عليه وسلم - " فذكر قصته أيضا ، وهذه الطرق يقوى بعضها ببعض ، وله طرق أخرى سأذكر ما فيها من فائدة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( لقد أخطأ ظني ) في رواية ابن عمر عند البيهقي " لقد كنت ذا فراسة ، وليس لي الآن رأي إن لم يكن هذا الرجل ينظر في الكهانة " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أو ) بسكون الواو ( على دين قومه في الجاهلية ) [1] أي مستمر على عبادة ما كانوا يعبدون .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 218 ] قوله : ( أو ) بسكون الواو أيضا ( لقد كان كاهنهم ) أي كان كاهن قومه . وحاصله أن عمر ظن شيئا مترددا بين شيئين أحدهما يتردد بين شيئين كأنه قال : هذا الظن إما خطأ أو صواب فإن كان صوابا فهذا الآن إما باق على كفره وإما كان كاهنا ، وقد أظهر الحال القسم الأخير ، وكأنه ظهرت له من صفة مشيه أو غير ذلك قرينة أثرت له ذلك الظن ، فالله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( علي ) بالتشديد ( الرجل ) بالنصب أي أحضروه إلي وقربوه مني .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فقال له ذلك ) أي ما قاله في غيبته من التردد . وفي رواية محمد بن كعب " فقال له : فأنت على ما كنت عليه من كهانتك " فغضب ، وهذا من تلطف عمر ؛ لأنه اقتصر على أحسن الأمرين .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ما رأيت كاليوم ) أي ما رأيت شيئا مثل ما رأيت اليوم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( استقبل ) بضم التاء على البناء للمجهول .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( رجل مسلم ) في رواية النسفي وأبي ذر " رجلا مسلما " ورأيته مجودا بفتح تاء " استقبل " على البناء للفاعل وهو محذوف تقديره أحد ، وضبطه الكرماني استقبل بضم التاء وأعرب " رجلا مسلما " على أنه مفعول " رأيت " ، وعلى هذا فالضمير في قوله " به " يعود على الكلام ، ويدل عليه السياق ، وبينه البيهقي في رواية مرسلة " قد جاء الله بالإسلام ، فما لنا ولذكر الجاهلية " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فإني أعزم عليك ) أي ألزمك ، وفي رواية محمد بن كعب " ما كنا عليه من الشرك أعظم مما كنت عليه من كهانتك " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إلا أخبرتني ) أي ما أطلب منك إلا الإخبار .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( كنت كاهنهم في الجاهلية ) الكاهن الذي يتعاطى الخبر من الأمور المغيبة ، وكانوا في الجاهلية كثيرا ، فمعظمهم كان يعتمد على تابعه من الجن ، وبعضهم كان يدعي معرفة ذلك بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله ، وهذا الأخير يسمى العراف بالمهملتين ، وسيأتي حكم ذلك واضحا في كتاب الطب ، وتقدم طرف منه في آخر البيوع . ولقد تلطف سواد في الجواب إذ كان سؤال عمر عن حاله في كهانته إذ كان من أمر الشرك ، فلما ألزمه أخبره بآخر شيء وقع له لما تضمن من الإعلام بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وكان سببا لإسلامه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ما أعجب ) بالضم و " ما " استفهامية .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( جنيتك ) بكسر الجيم والنون الثقيلة أي الواحدة من الجن كأنه أنث تحقيرا ، ويحتمل أن يكون عرف أن تابع سواد منهم كان أنثى ، أو هو كما يقال : تابع الذكر يكون أنثى وبالعكس .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أعرف فيها الفزع ) بفتح الفاء والزاي أي الخوف ، وفي رواية محمد بن كعب " إن ذلك كان وهو بين النائم واليقظان " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ألم تر الجن وإبلاسها ) بالموحدة والمهملة والمراد به اليأس ضد الرجاء ، وفي رواية أبي جعفر " عجبت [ ص: 219 ] للجن وإبلاسها " وهو أشبه بإعراب بقية الشعر ، ومثله لمحمد بن كعب لكن قال : " وتحساسها " بفتح المثناة وبمهملات ، أي أنها فقدت أمرا فشرعت تفتش عليه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ويأسها من بعد إنكاسها ) اليأس بالتحتانية ضد الرجاء والإنكاس الانقلاب ، قال ابن فارس : معناه أنها يئست من استراق السمع بعد أن كانت قد ألفته ، فانقلبت عن الاستراق قد يئست من السمع ، ووقع في شرح الداودي بتقديم السين على الكاف ، وفسره بأنه المكان الذي ألفته ، قال : ووقع في رواية " من بعد إيناسها " أي أنها كانت أنست بالاستراق ، ولم أر ما قاله في شيء من الروايات ، وقد شرح الكرماني على اللفظ الأول الذي ذكره الداودي وقال : الإنساك جمع نسك ، والمراد به العبادة ، ولم أر هذا التقسيم في غير الطريق التي أخرجها البخاري . وزاد في رواية الباقر ومحمد بن كعب وكذا عند البيهقي موصولا من حديث البراء بن عازب بعد قوله : " وأحلاسها " :


                                                                                                                                                                                                        تهوي إلى مكة تبغي الهدى ما مؤمنوها مثل أرجاسها

                                                                                                                                                                                                        فاسم إلى الصفوة من هاشم
                                                                                                                                                                                                        واسم بعينيك إلى راسها



                                                                                                                                                                                                        وفي روايتهم أن الجني عاوده ثلاث ليال ينشده هذه الأبيات مع تغيير قوافيها ، فجعل بدل قوله : إبلاسها " تطلابها " أوله مثناة ، وتارة " تجآرها " بجيم وهمزة ، وبدل قوله أحلاسها " أقتابها " بقاف ومثناة جمع قتب ، وتارة " أكوارها " وبدل قوله : ما مؤمنوها مثل أرجاسها " ليس قداماها كأذنابها " وتارة " ليس ذوو الشر كأخيارها " وبدل قوله : رأسها " نابها " وتارة قال : " ما مؤمنو الجن ككفارها " . وعندهم من الزيادة أيضا أنه في كل مرة يقول له : " قد بعث محمد ، فانهض إليه ترشد " ، وفي الرواية المرسلة قال : " فارتعدت فرائصي حتى وقعت " ، وعندهم جميعا أنه لما أصبح توجه إلى مكة فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - قد هاجر ، فأتاه فأنشده أبياتا يقول فيها :


                                                                                                                                                                                                        أتاني رئى بعد ليل وهجعة ولم يك فيما قد بلوت بكاذب


                                                                                                                                                                                                        ثلاث ليال قوله كل ليلة أتاك نبي من لؤي بن غالب



                                                                                                                                                                                                        يقول في آخرها :


                                                                                                                                                                                                        فكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة سواك بمغن عن سواد بن قارب



                                                                                                                                                                                                        وفي آخر الرواية المرسلة " فالتزمه عمر وقال : لقد كنت أحب أن أسمع هذا منك " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ولحوقها بالقلاص وأحلاسها ) القلاص بكسر القاف وبالمهملة جمع قلص بضمتين وهو جمع قلوص وهي الفتية من النياق ، والأحلاس جمع حلس بكسر أوله وسكون ثانيه وبالمهملتين وهو ما يوضع على ظهور الإبل تحت الرحل ، ووقع هذا القسيم غير موزون . وفي رواية الباقر " ورحلها العيس بأحلاسها " وهذا موزون ، والعيس بكسر أوله وسكون التحتانية وبالمهملتين : الإبل .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال عمر : صدق ، بينما أنا عند آلهتهم ) ظاهر هذا أن الذي قص القصة الثانية هو عمر ، وفي رواية ابن عمر وغيره أن الذي قصها هو سواد بن قارب ، ولفظ ابن عمر عند البيهقي قال : " لقد رأى عمر رجلا - فذكر القصة - قال : فأخبرني عن بعض ما رأيت . قال : إني ذات ليلة بواد إذ سمعت صائحا يقول : يا جليح ، خبر نجيح ، رجل فصيح ، يقول : لا إله إلا الله . عجبت للجن وإبلاسها " فذكر القصة ، ثم ساق من طريق أخرى مرسلة قال : " مر عمر برجل فقال : لقد كان هذا كاهنا " الحديث وفيه " فقال عمر : أخبرني . [ ص: 220 ] فقال : نعم ، بينا أنا جالس إذ قالت لي : ألم تر إلى الشياطين وإبلاسها " الحديث " قال عمر : الله أكبر ، فقال : أتيت مكة فإذا برجل عند تلك الأنصاب " فذكر قصة العجل ، وهذا يحتمل فيه ما احتمل في حديث الصحيح أن يكون القائل " أتيت مكة " هو عمر أو صاحب القصة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عند آلهتهم ) أي أصنامهم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إذ جاء رجل ) لم أقف على اسمه " لكن عند أحمد من وجه آخر أنه ابن عبس ، فأخرج من طريق مجاهد عن شيخ أدرك الجاهلية يقال له : ابن عبس قال : " كنت أسوق بقرة لنا ، فسمعت من جوفها " فذكر الرجز قال : " فقدمنا فوجدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بعث " ورجاله ثقات ، وهو شاهد قوي لما في رواية ابن عمر وأن الذي حدث بذلك هو سواد بن قارب ، وسأذكر بعد هذا ما يقوي أن الذي سمع ذلك هو عمر فيمكن أن يجمع بينهما بتعدد ذلك لهما .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( يا جليح ) بالجيم والمهملة بوزن عظيم ومعناه الوقح المكافح بالعداوة ، قال ابن التين : يحتمل أن يكون نادى رجلا بعينه ، ويحتمل أن يكون أراد من كان بتلك الصفة قلت : ووقع في معظم الروايات التي أشرت إليها " يا آل ذريح " بالذال المعجمة والراء وآخره مهملة ، وهم بطن مشهور في العرب .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( رجل فصيح ) من الفصاحة ، وفي رواية الكشميهني بتحتانية أوله بدل الفاء من الصياح ووقع في حديث ابن عبس " قول فصيح رجل يصيح " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( يقول : لا إله إلا أنت ) وفي رواية الكشميهني " لا إله إلا الله " وهو الذي في بقية الروايات .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فما نشبنا ) بكسر المعجمة وسكون الموحدة أي لم نتعلق بشيء من الأشياء حتى سمعنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد خرج ، يريد أن ذلك كان بقرب مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                        ( تنبيهان ) : أحدهما : ذكر ابن التين أن الذي سمعه سواد بن قارب من الجني كان من أثر استراق السمع ، وفي جزمه بذلك نظر ، والذي يظهر أن ذلك كان من أثر منع الجن من استراق السمع ، ويبين ذلك ما أخرجه المصنف في الصلاة ويأتي في تفسير سورة الجن عن ابن عباس " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بعث منع الجن من استراق السمع ، فضربوا المشارق والمغارب يبحثون عن سبب ذلك ، حتى رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه صلاة الفجر " الحديث .

                                                                                                                                                                                                        ( التنبيه الثاني ) : لمح المصنف بإيراد هذه القصة في " باب إسلام عمر " بما جاء عن عائشة وطلحة عن عمر من أن هذه القصة كانت سبب إسلامه ، فروى أبو نعيم في " الدلائل " أن أبا جهل " جعل لمن يقتل محمدا مائة ناقة ، قال عمر : فقلت له : يا أبا الحكم آلضمان صحيح ؟ قال : نعم . قال فتقالقلدت سيفي أريده ، فمررت على عجل وهم يريدون أن يذبحوه ، فقمت أنظر إليهم ، فإذا صائح يصيح من جوف العجل : يا آل ذريح ، أمر نجيح ، رجل يصيح بلسان فصيح . قال عمر : فقلت في نفسي : إن هذا الأمر ما يراد به إلا أنا ، قال : فدخلت على أختي فإذا عندها سعيد بن زيد " فذكر القصة في سبب إسلامه بطولها ، وتأمل ما في إيراده حديث سعيد بن زيد الذي بعد هذا - وهو الحديث الخامس - من المناسبة لهذه القصة .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية