الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        4671 باب حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب ح وحدثني سعيد بن مروان حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة أخبرنا أبو صالح سلمويه قال حدثني عبد الله عن يونس بن يزيد قال أخبرني ابن شهاب أن عروة بن الزبير أخبره أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يلحق بغار حراء فيتحنث فيه قال والتحنث التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود بمثلها حتى فجئه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال اقرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنا بقارئ قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم الآيات إلى قوله علم الإنسان ما لم يعلم فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع قال لخديجة أي خديجة ما لي لقد خشيت على نفسي فأخبرها الخبر قالت خديجة كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا فوالله إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل وهو ابن عم خديجة أخي أبيها وكان امرأ تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العربي ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي فقالت خديجة يا ابن عم اسمع من ابن أخيك قال ورقة يا ابن أخي ماذا ترى فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى فقال ورقة هذا الناموس الذي أنزل على موسى ليتني فيها جذعا ليتني أكون حيا ذكر حرفا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أومخرجي هم قال ورقة نعم لم يأت رجل بما جئت به إلا أوذي وإن يدركني يومك حيا أنصرك نصرا مؤزرا ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال محمد بن شهاب فأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي قال في حديثه بينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ففرقت منه فرجعت فقلت زملوني زملوني فدثروه فأنزل الله تعالى يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر قال أبو سلمة وهي الأوثان التي كان أهل الجاهلية يعبدون قال ثم تتابع الوحي

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( سورة اقرأ باسم ربك الذي خلق ) قال صاحب الكشاف : ذهب ابن عباس ومجاهد إلى أنها أول سورة نزلت ، وأكثر المفسرين إلى أن أول سورة نزلت فاتحة الكتاب . كذا قال . والذي ذهب أكثر الأئمة إليه هو الأول . وأما الذي نسبه إلى الأكثر فلم يقل به إلا عدد أقل من القليل بالنسبة إلى من قال بالأول .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال قتيبة حدثنا حماد عن يحيى بن عتيق عن الحسن قال : اكتب في المصحف في أول الإمام بسم الله الرحمن الرحيم واجعل بين السورتين خطا ) في رواية أبي ذر عن غير الكشميهني " حدثنا قتيبة " وقد [ ص: 585 ] أخرجه ابن الضريس في " فضائل القرآن " حدثنا أبو الربيع الزهراني حدثنا حماد بهذا ، وحماد هو ابن زيد ، وشيخه بصري ثقة من طبقة أيوب مات قبله ، ولم أر له في البخاري إلا هذا الموضع . وقوله : " في أول الإمام " أي أم الكتاب ، وقوله : " خطا " قال الداودي : إن أراد خطا فقط بغير بسملة فليس بصواب لاتفاق الصحابة على كتابة البسملة بين كل سورتين إلا براءة وإن أراد بالإمام إمام كل سورة فيجعل الخط مع البسملة فحسن فكان ينبغي أن يستثني براءة . وقال الكرماني : معناه اجعل البسملة في أوله فقط ، واجعل بين كل سورتين علامة للفاصلة ، وهو مذهب حمزة من القراء السبعة .

                                                                                                                                                                                                        قلت : المنقول ذلك عن حمزة في القراءة لا في الكتابة ، قال : وكأن البخاري أشار إلى أن هذه السورة لما كان أولها مبتدأ بقوله تعالى اقرأ باسم ربك أراد أن يبين أنه لا تجب البسملة في أول كل سورة . بل من قرأ البسملة في أول القرآن كفاه في امتثال هذا الأمر . نعم ، استنبط السهيلي من هذا الأمر ثبوت البسملة في أول الفاتحة لأن هذا الأمر هو أول شيء نزل من القرآن فأولى مواضع امتثاله أول القرآن .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال مجاهد : ناديه : عشيرته ) وصله الفريابي من طريق مجاهد ، وهو تفسير معنى ، لأن المدعو أهل النادي والنادي المجلس المتخذ للحديث .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( الزبانية الملائكة ) وصله الفريابي من طريق مجاهد ، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق أبي حازم عن أبي هريرة مثله .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال معمر الرجعى : المرجع ) كذا لأبي ذر ، وسقط لغيره " وقال معمر " فصار كأنه من قول مجاهد والأول هو الصواب ، وهو كلام أبي عبيدة في " كتاب المجاز " ولفظه إلى ربك الرجعى قال : المرجع والرجوع .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( لنسفعن بالناصية : لنأخذن ، ولنسفعن بالنون وهي الخفيفة ، سفعت بيده أخذت ) هو كلام أبي عبيدة أيضا ولفظه : و ( لنسفعن ) إنما يكتب بالنون لأنها نون خفيفة انتهى . وقد روي عن أبي عمرو بتشديد النون ، والموجود في مرسوم المصحف بالألف ، والسفع القبض على الشيء بشدة ، وقيل أصله الأخذ بسفعة الفرس أي سواد ناصيته ، ومنه قولهم : به سفعة من غضب ، لما يعلو لون الغضبان من التغير ، ومنه امرأة سفعاء .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 586 ] قوله : ( باب حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب . وحدثني سعيد بن مروان ) الإسناد الأول قد ساق البخاري المتن به في أول الكتاب ، وساق في هذا الباب المتن بالإسناد الثاني ، وسعيد بن مروان هذا هو أبو عثمان البغدادي نزيل نيسابور من طبقة البخاري ، شاركه في الرواية عن أبي نعيم وسليمان بن حرب ونحوهما ، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع ، ومات قبل البخاري بأربع سنين . ولهم شيخ آخر يقال له أبو عثمان سعيد بن مروان الرهاوي ، حدث عنه أبو حاتم وابن أبي رزمة وغيرهما ، وفرق البخاري في " التاريخ " بينه وبين البغدادي ، ووهم من زعم أنهما واحد وآخرهم الكرماني . ومحمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة بكسر الراء وسكون الزاي . واسم أبي رزمة غزوان ، وهو مروزي من طبقة أحمد بن حنبل ، فهو من الطبقة الوسطى من شيوخ البخاري ، ومع ذلك فحدث عنه بواسطة ، وليس له عنده سوى هذا الموضع . وقد حدث عنه أبو داود بلا واسطة . وشيخه أبو صالح سلمويه اسمه سليمان بن صالح الليثي المروزي يلقب سلمويه ، ويقال اسم أبيه داود ، وهو من طبقة الراوي عنه من حيث الرواية إلا أنه تقدمت وفاته ، وكان من أخصاء عبد الله بن المبارك والمكثرين عنه . وقد أدركه البخاري بالسن لأنه مات سنة عشر ومائتين ، وما له أيضا في البخاري سوى هذا الحديث . وعبد الله هو ابن المبارك الإمام المشهور ، وقد نزل البخاري في حديثه في هذا الإسناد درجتين ، وفي حديث الزهري ثلاث درجات ، وقد تقدم شرح هذا الحديث مستوفى في أوائل هذا الكتاب ، [ ص: 587 ] وسأذكر هنا ما لم يتقدم ذكره مما اشتمل عليه من سياق هذه الطريق وغيرها من الفوائد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : كان أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرؤيا الصادقة ) قال النووي : هذا من مراسيل الصحابة ، لأن عائشة لم تدرك هذه القصة فتكون سمعتها من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من صحابي . وتعقبه من لم يفهم مراده فقال : إذا كان يجوز أنها سمعتها من النبي - صلى الله عليه وسلم - فكيف يجزم بأنها من المراسيل ؟ والجواب أن مرسل الصحابي ما يرويه من الأمور التي لم يدرك زمانها ، بخلاف الأمور التي يدرك زمانها فإنها لا يقال إنها مرسلة ، بل يحمل على أنه سمعها أو حضرها ولو لم يصرح بذلك ، ولا يختص هذا بمرسل الصحابي بل مرسل التابعي إذا ذكر قصة لم يحضرها سميت مرسلة ، ولو جاز في نفس الأمر أن يكون سمعها من الصحابي الذي وقعت له تلك القصة . وأما الأمور التي يدركها فيحمل على أنه سمعها أو حضرها ، لكن بشرط أن يكون سالما من التدليس والله أعلم . ويؤيد أنها سمعت ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - قولها في أثناء هذا الحديث فجاءه الملك فقال : اقرأ . فقال : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما أنا بقارئ . قال : فأخذني إلى آخره . فقوله قال : فأخذني فغطني ظاهر في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرها بذلك فتحمل بقية الحديث عليه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرؤيا الصادقة ) زاد في رواية عقيل كما تقدم في بدء الوحي " من الوحي " أي في أول المبتدآت من إيجاد الوحي الرؤيا ، وأما مطلق ما يدل على نبوته فتقدمت له أشياء مثل تسليم الحجر كما ثبت في صحيح مسلم وغير ذلك ، و " ما " في الحديث نكرة موصوفة ، أي أول شيء . ووقع صريحا في حديث ابن عباس عند ابن عائذ . ووقع في مراسيل عبد الله بن أبي بكر بن حزم عند الدولابي ما يدل على أن الذي كان يراه - صلى الله عليه وسلم - هو جبريل ولفظه أنه قال لخديجة بعد أن أقرأه جبريل اقرأ باسم ربك : أرأيتك الذي كنت أحدثك أني رأيته في المنام فإنه جبريل استعلن .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( من الوحي ) يعني : إليه وهو إخبار عما رآه من دلائل نبوته من غير أن يوحى بذلك إليه وهو أول ذلك مطلقا ما سمعه من بحيرى الراهب ، وهو عند الترمذي بإسناد قوي عن أبي موسى ، ثم ما سمعه عند بناء الكعبة حيث قيل له " اشدد عليك إزارك " وهو في صحيح البخاري من حديث جابر ، وكذلك تسليم الحجر عليه وهو عند مسلم من حديث جابر بن سمرة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( الصالحة ) قال ابن المرابط هي التي ليست ضغثا ولا من تلبيس الشيطان ولا فيها ضرب مثل مشكل ، وتعقب الأخير بأنه إن أراد بالمشكل ما لا يوقف على تأويله فمسلم وإلا فلا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فلق الصبح ) يأتي في سورة الفلق قريبا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ثم حبب إليه الخلاء ) هذا ظاهر في أن الرؤيا الصادقة كانت قبل أن يحبب إليه الخلاء ، ويحتمل أن تكون لترتيب الأخبار ، فيكون تحبيب الخلوة سابقا على الرؤيا الصادقة ، والأول أظهر .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( الخلاء ) بالمد المكان الخالي ، ويطلق على الخلوة ، وهو المراد هنا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فكان يلحق بغار حراء ) كذا في هذه الرواية ، وتقدم في بدء الوحي بلفظ : " فكان يخلو " وهي أوجه . وفي رواية عبيد بن عمير عند ابن إسحاق " فكان يجاور " .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 588 ] قوله : ( الليالي ذوات العدد ) في رواية ابن إسحاق أنه كان يعتكف شهر رمضان .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال : والتحنث التعبد ) هذا ظاهر في الإدراج ، إذ لو كان من بقية كلام عائشة لجاء فيه قالت ، وهو يحتمل أن يكون من كلام عروة أو من دونه ، ولم يأت التصريح بصفة تعبده ، لكن في رواية عبيد بن عمير عند ابن إسحاق " فيطعم من يرد عليه من المساكين " وجاء عن بعض المشايخ أنه كان يتعبد بالتفكر ، ويحتمل أن تكون عائشة أطلقت على الخلوة بمجردها تعبدا ، فإن الانعزال عن الناس ولا سيما من كان على باطل من جملة العبادة كما وقع للخليل - عليه السلام - حيث قال : إني ذاهب إلى ربي ، وهذا يلتفت إلى مسألة أصولية ، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - هل كان قبل أن يوحى إليه متعبدا بشريعة نبي قبله ؟ قال الجمهور : لا ، لأنه لو كان تابعا لاستبعد أن يكون متبوعا ، ولأنه لو كان لنقل من كان ينسب إليه . وقيل نعم واختاره ابن الحاجب ، واختلفوا في تعيينه على ثمانية أقوال : أحدها آدم حكاه ابن برهان ، الثاني نوح حكاه الآمدي ، الثالث إبراهيم ذهب إليه جماعة واستدلوا بقوله تعالى أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ، الرابع موسى ، الخامس عيسى ، السادس بكل شيء بلغه عن شرع نبي من الأنبياء وحجته أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ، السابع الوقف واختاره الآمدي ، ولا يخفى قوة الثالث ولا سيما مع ما نقل من ملازمته للحج والطواف ونحو ذلك مما بقي عندهم من شريعة إبراهيم والله أعلم . وهذا كله قبل النبوة ، وأما بعد النبوة فقد تقدم القول فيه في تفسير سورة الأنعام .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إلى أهله ) يعني خديجة وأولاده منها ، وقد سبق في تفسير سورة النور في الكلام على حديث الإفك تسمية الزوجة أهلا ، ويحتمل أن يريد أقاربه أو أعم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ثم يرجع إلى خديجة فيتزود ) خص خديجة بالذكر بعد إذ عبر بالأهل إما تفسيرا بعد إبهام ، وإما إشارة إلى اختصاص التزود بكونه من عندها دون غيرها .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فيتزود لمثلها ) في رواية الكشميهني " بمثلها " بالموحدة ، والضمير لليالي أو للخلوة أو للعبادة أو للمرات . أي السابقة ، ثم يحتمل أن يكون المراد أنه يتزود ويخلو أياما ، ثم يرجع ويتزود ويخلو أياما ، ثم يرجع ويتزود ويخلو أياما إلى أن ينقضي الشهر . ويحتمل أن يكون المراد أن يتزود لمثلها إذا حال الحول وجاء ذلك الشهر الذي جرت عادته أن يخلو فيه ، وهذا عندي أظهر ، ويؤخذ منه إعداد الزاد للمختلي إذا كان بحيث يتعذر عليه تحصيله لبعد مكان اختلائه من البلد مثلا ، وأن ذلك لا يقدح في التوكل وذلك لوقوعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد حصول النبوة له بالرؤيا الصالحة ، وإن كان الوحي في اليقظة قد تراخى عن ذلك .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وهو في غار حراء ) جملة في موضع الحال .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فجاءه الملك ) هو جبريل كما جزم به السهيلي ، وكأنه أخذه من كلام ورقة المذكور في حديث الباب . ووقع عند البيهقي في " الدلائل " فجاءه الملك فيه ، أي في غار حراء ، كذا عزاه شيخنا البلقيني للدلائل فتبعته ، ثم وجدته بهذا اللفظ في كتاب التعبير فعزوه له أولى .

                                                                                                                                                                                                        ( تنبيه ) : إذا علم أنه كان يجاور في غار حراء في شهر رمضان وأن ابتداء الوحي جاءه وهو في الغار المذكور اقتضى ذلك أنه نبئ في شهر رمضان ويعكر على قول ابن إسحاق أنه بعث على رأس الأربعين مع قوله إنه في شهر رمضان ولد ، ويمكن أن يكون المجيء في الغار كان أولا في شهر رمضان وحينئذ نبئ وأنزل عليه اقرأ باسم ربك ، ثم كان المجيء الثاني في شهر ربيع الأول بالإنذار وأنزلت عليه ياأيها المدثر قم فأنذر فيحمل قول [ ص: 589 ] ابن إسحاق " على رأس الأربعين " أي عند المجيء بالرسالة ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( اقرأ ) يحتمل أن يكون هذا الأمر لمجرد التنبيه والتيقظ لما سيلقى إليه ، ويحتمل أن يكون على بابه من الطلب فيستدل به على تكليف ما لا يطاق في الحال وإن قدر عليه بعد ذلك ، ويحتمل أن تكون صيغة الأمر محذوفة أي قل اقرأ ، وإن كان الجواب ما أنا بقارئ فعلى ما فهم من ظاهر اللفظ ، وكأن السر في حذفها لئلا يتوهم أن لفظ قل من القرآن ، ويؤخذ منه جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب وأن الأمر على الفور ، لكن يمكن أن يجاب بأن الفور فهم من القرينة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ما أنا بقارئ ) وقع عند ابن إسحاق في مرسل عبيد بن عمير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أتاني جبريل بنمط من ديباج فيه كتاب قال : اقرأ ، قلت : ما أنا بقارئ قال السهيلي قال بعض المفسرين : إن قوله : الم ذلك الكتاب لا ريب فيه إشارة إلى الكتاب الذي جاء به جبريل حيث قال له : " اقرأ " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فغطني ) تقدم بيانه في بدء الوحي ، ووقع في " السيرة لابن إسحاق " فغتني بالمثناة بدل الطاء وهما بمعنى والمراد غمني وصرح بذلك ابن أبي شيبة في مرسل عبد الله بن شداد وذكر السهيلي أنه روى سأبني [1] بمهملة ثم همزة مفتوحة ثم موحدة أو مثناة وهما جميعا بمعنى الخنق ، وأغرب الداودي فقال : معنى فغطني صنع بي شيئا حتى ألقاني إلى الأرض كمن تأخذه الغشية . والحكمة في هذا الغط شغله عن الالتفات لشيء آخر أو لإظهار الشدة والجد في الأمر تنبيها على ثقل القول الذي سيلقى إليه ، فلما ظهر أنه صبر على ذلك ألقي إليه ، وهذا وإن كان بالنسبة إلى علم الله حاصل لكن لعل المراد إبرازه للظاهر بالنسبة إليه - صلى الله عليه وسلم - وقيل ليختبر هل يقول من قبل نفسه شيئا فلما لم يأت بشيء دل على أنه لا يقدر عليه وقيل أراد أن يعلمه أن القراءة ليست من قدرته ولو أكره عليها ، وقيل : الحكمة فيه أن التخيل والوهم والوسوسة ليست من صفات الجسم ؛ فلما وقع ذلك لجسمه علم أنه من أمر الله . وذكر بعض من لقيناه أن هذا من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ لم ينقل عن أحد من الأنبياء أنه جرى له عند ابتداء الوحي مثل ذلك .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فغطني الثالثة ) يؤخذ منه أن من يريد التأكيد في أمر وإيضاح البيان فيه أن يكرره ثلاثا ، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك كما سبق في كتاب العلم ، ولعل الحكمة في تكرير الإقراء الإشارة إلى انحصار الإيمان الذي ينشأ الوحي بسببه في ثلاث : القول ، والعمل ، والنية . وأن الوحي يشتمل على ثلاث : التوحيد ، والأحكام والقصص . وفي تكرير الغط الإشارة إلى الشدائد الثلاث التي وقعت له وهي : الحصر في الشعب ، وخروجه في الهجرة وما وقع له يوم أحد . وفي الإرسالات الثلاثة إشارة إلى حصول التيسير له عقب الثلاث المذكورة : في الدنيا والبرزخ ، والآخرة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فقال : اقرأ باسم ربك - إلى قوله - ما لم يعلم ) هذا القدر من هذه السورة هو الذي نزل أولا ، بخلاف بقية السورة فإنما نزل بعد ذلك بزمان . وقد قدمت في تفسير المدثر بيان الاختلاف في أول ما نزل ، والحكمة في هذه الأولية أن هذه الآيات الخمس اشتملت على مقاصد القرآن : ففيها براعة الاستهلال ، وهي جديرة أن تسمى عنوان القرآن لأن عنوان الكتاب يجمع مقاصده بعبارة وجيزة في أوله ، وهذا بخلاف الفن البديعي المسمى العنوان فإنهم عرفوه بأن يأخذ المتكلم في فن فيؤكده بذكر مثال سابق ، وبيان كونها اشتملت على [ ص: 590 ] مقاصد القرآن أنها تنحصر في علوم التوحيد والأحكام والأخبار ، وقد اشتملت على الأمر بالقراءة والبداءة فيها بـ " بسم الله " ، وفي هذه الإشارة إلى الأحكام وفيها ما يتعلق بتوحيد الرب وإثبات ذاته وصفاته من صفة ذات وصفة فعل ، وفي هذا إشارة إلى أصول الدين ، وفيها ما يتعلق بالأخبار من قوله : علم الإنسان ما لم يعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : باسم ربك استدل به السهيلي على أن البسملة يؤمر بقراءتها أول كل سورة ، لكن لا يلزم من ذلك أن تكون آية من كل سورة ، كذا قال : وقرره الطيبي فقال : قوله : اقرأ باسم ربك قدم الفعل الذي هو متعلق الباء لكون الأمر بالقراءة أهم ، وقوله : ( اقرأ ) أمر بإيجاد القراءة مطلقا ، وقوله " باسم ربك " حال ، أي اقرأ مفتتحا باسم ربك : وأصح تقاديره قل باسم الله ثم اقرأ ، قال : فيؤخذ منه أن البسملة مأمور بها في ابتداء كل قراءة انتهى . لكن لا يلزم من ذلك أن تكون مأمورا بها ، فلا تدل على أنها آية من كل سورة ، وهو كما قال ؛ لأنها لو كان للزم أن تكون آية قبل كل آية وليس كذلك . وأما ما ذكره القاضي عياض عن أبي الحسن بن القصار من المالكية أنه قال : في هذه القصة رد على الشافعي في قوله : إن البسملة آية من كل سورة ، قال : لأن هذا أول سورة أنزلت وليس في أولها البسملة ، فقد تعقب بأن فيها الأمر بها وإن تأخر نزولها . وقال النووي : ترتيب آي السور في النزول لم يكن شرطا ، وقد كانت الآية تنزل فتوضع في مكان قبل التي نزلت قبلها ثم تنزل الأخرى فتوضع قبلها ، إلى أن استقر الأمر في آخر عهده - صلى الله عليه وسلم - على هذا الترتيب ، ولو صح ما أخرجه الطبري من حديث ابن عباس " أن جبريل أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاستعاذة والبسملة قبل قوله " اقرأ " لكان أولى في الاحتجاج ، لكن في إسناده ضعف وانقطاع ، وكذا حديث أبي ميسرة " أن أول ما أمر به جبريل قال له : قل بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين " هو مرسل وإن كان رجاله ثقات ، والمحفوظ أن أول ما نزل اقرأ باسم ربك وأن نزول الفاتحة كان بعد ذلك .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ترجف بوادره ) في رواية الكشميهني " فؤاده " وقد تقدم بيان ذلك في بدء الوحي ، وترجف عندهم بمثناة فوقانية ولعلها في رواية " يرجف فؤاده " بالتحتانية .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( زملوني زملوني ) كذا للأكثر مرتين ، كذا تقدم في بدء الوحي ، ووقع لأبي ذر هنا مرة واحدة . والتزميل التلفيف ، وقال ذلك لشدة ما لحقه من هول الأمر ، وجرت العادة بسكون الرعدة بالتلفيف . ووقع في مرسل عبيد بن عمير أنه - صلى الله عليه وسلم - خرج فسمع صوتا من السماء يقول : يا محمد أنت رسول الله ، وأنا جبريل ، فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر ، وجعلت أصرف وجهي في ناحية آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك وسيأتي في التعبير أن مثل ذلك وقع له عند فترة الوحي ، وهو المعتمد ، فإن إعلامه بالإرسال وقع بقوله : قم فأنذر .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فزملوه حتى ذهب عنه الروع ) بفتح الراء أي الفزع ، وأما الذي بضم الراء فهو موضع الفزع من القلب .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال لخديجة : أي خديجة ، ما لي لقد خشيت ) في رواية الكشميهني " قد خشيت " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فأخبرها الخبر ) تقدم في بدء الوحي بلفظ : " فقاله لخديجة وأخبرها الخبر : لقد خشيت " وقوله " وأخبرها الخبر " جملة معترضة بين القول والمقول ، وقد تقدم في بدء الوحي ما قالوه في متعلق الخشية المذكورة . [ ص: 591 ] وقال عياض : هذا وقع له أول ما رأى التباشير في النوم ثم في اليقظة ، وسمع الصوت قبل لقاء الملك ، فأما بعد مجيء الملك فلا يجوز عليه الشك ولا يخشى من تسلط الشيطان . وتعقبه النووي بأنه خلاف صريح الشفاء ، فإنه قال بعد أن غطه الملك وأقرأه اقرأ باسم ربك ، قال : إلا أن يكون أراد أن قوله " خشيت على نفسي " وقع منه إخبارا عما حصل له أولا لا أنه حالة إخبارها بذلك جازت فيتجه ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( كلا أبشر ) بهمزة قطع ويجوز الوصل ، وأصل البشارة في الخير . وفي مرسل عبيد بن عمير " فقالت أبشر يا ابن عم واثبت فوالذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( لا يخزيك الله ) بخاء معجمة وتحتانية . ووقع في رواية معمر في التعبير " يحزنك " بمهملة ونون ثلاثيا ورباعيا ، قال اليزيدي : أحزنه لغة تميم ، وحزنه لغة قريش ، وقد نبه على هذا الضبط مسلم . والخزي الوقوع في بلية وشهرة بذلة ، ووقع عند ابن إسحاق عن إسماعيل بن أبي حكيم مرسلا أن خديجة قالت : أي ابن عم أتستطيع أن تخبرني بصاحبك إذا جاء ؟ قال : نعم . فجاءه جبريل ، فقال : يا خديجة ، هذا جبريل . قالت : قم فاجلس على فخذي اليسرى ، ثم قالت : هل تراه ؟ قال : نعم ، قالت فتحول إلى اليمنى كذلك ، ثم قالت : فتحول فاجلس في حجري كذلك ، ثم ألقت خمارها وتحسرت وهو في حجرها وقالت : هل تراه ؟ قال : لا قالت : اثبت ، فوالله إنه لملك وما هو بشيطان . وفي رواية مرسلة عند البيهقي في " الدلائل " أنها ذهبت إلى عداس وكان نصرانيا فذكرت له خبر جبريل فقال : هو أمين الله بينه وبين النبيين ، ثم ذهبت إلى ورقة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فانطلقت به إلى ورقة ) في مرسل عبيد بن عمير أنها أمرت أبا بكر أن يتوجه معه ، فيحتمل أن يكون عند توجيهها أو مرة أخرى .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ماذا ترى ) ؟ في رواية ابن منده في " الصحابة " من طريق سعيد بن جبير " عن ابن عباس عن ورقة بن نوفل قال : قلت يا محمد أخبرني عن هذا الذي يأتيك ، قال : يأتيني من السماء جناحاه لؤلؤ وباطن قدميه أخضر " قوله : ( وكان يكتب الكتاب العربي ، ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله ) هكذا وقع هنا وفي التعبير ، وقد تقدم القول فيه في بدء الوحي ، ونبهت عليه هنا لأني نسيت هذه الرواية هناك لمسلم فقط تبعا للقطب الحلبي ، قال النووي : العبارتان صحيحتان . والحاصل أنه تمكن حتى صار يكتب من الإنجيل أي موضع شاء بالعربية وبالعبرانية ، قال الداودي : كتب من الإنجيل الذي هو بالعبرانية هذا الكتاب الذي هو بالعربية .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( اسمع من ابن أخيك ) أي الذي يقول .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أنزل على موسى ) كذا هنا على البناء للمجهول ، وقد تقدم في بدء الوحي " أنزل الله " ووقع في مرسل أبي ميسرة " أبشر فأنا أشهد أنك الذي بشر به ابن مريم ، وأنك على مثل ناموس موسى ، وأنك نبي مرسل ، وأنك ستؤمر بالجهاد وهذا أصرح ما جاء في إسلام ورقة أخرجه ابن إسحاق . وأخرج الترمذي عن عائشة " أن خديجة قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن ورقة : كان ورقة صدقك . ولكنه مات قبل أن تظهر ، فقال : رأيته في المنام وعليه ثياب بيض " ، ولو كان من أهل النار لكان لباسه غير ذلك . وعند البزار والحاكم عن عائشة مرفوعا لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين وقد استوعبت ما ورد فيه في ترجمة من كتابي في الصحابة ، وتقدم بعض خبره في بدء الوحي ، وتقدم أيضا ذكر الحكمة في قول ورقة " ناموس [ ص: 592 ] موسى " ولم يقل عيسى مع أنه كان تنصر ، وأن ذلك ورد في رواية الزبير بن بكار بلفظ " عيسى " ولم يقف بعض من لقيناه على ذلك فبالغ في الإنكار على النووي ومن تبعه بأنه ورد في غير الصحيحين بلفظ " ناموس عيسى " وذكر القطب الحلبي في وجه المناسبة لذكر موسى دون عيسى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعله لما ذكر لورقة مما نزل عليه من اقرأ ويا أيها المدثر ويا أيها المزمل فهم ورقة من ذلك أنه كلف بأنواع من التكاليف فناسب ذكر موسى لذلك ، لأن الذي أنزل على عيسى إنما كان مواعظ . كذا قال ، وهو متعقب فإن نزول يا أيها المدثر ويا أيها المزمل إنما نزل بعد فترة الوحي كما تقدم بيانه في تفسير المدثر ، والاجتماع بورقة كان في أول البعثة . وزعم أن الإنجيل كله مواعظ متعقب أيضا ، فإنه منزل أيضا على الأحكام الشرعية وإن كان معظمها موافقا لما في التوراة ، لكنه نسخ منها أشياء بدليل قوله تعالى ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فيها ) أي أيام الدعوة ، قاله السهيلي ، وقال المازري : الضمير للنبوة ، ويحتمل أن يعود للقصة المذكورة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ليتني أكون حيا ذكر حرفا ) كذا في هذه الرواية ، وتقدم في بدء الوحي بلفظ " إذ يخرجك قومك " ويأتي في رواية معمر في التعبير بلفظ " حين يخرجك " وأبهم موضع الإخراج والمراد به مكة ، وقد وقع في حديث عبد الله بن عدي في السنن " ولولا أني أخرجوني منك ما خرجت " يخاطب مكة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( يومك ) أي وقت الإخراج ، أو وقت إظهار الدعوة ، أو وقت الجهاد . وتمسك ابن القيم الحنبلي بقوله في الرواية التي في بدء الوحي " ثم لم ينشب ورقة أن توفي " يرد ما وقع في السيرة النبوية لابن إسحاق أن ورقة كان يمر ببلال والمشركون يعذبونه وهو يقول أحد أحد فيقول : أحد والله يا بلال ، لئن قتلوك لاتخذت قبرك حنانا ، هذا والله أعلم وهم ، لأن ورقة قال : " وإن أدركني يومك حيا لأنصرنك نصرا مؤزرا " فلو كان حيا عند ابتداء الدعوة لكان أول من استجاب وقام بنصر النبي - صلى الله عليه وسلم - كقيام عمر وحمزة .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وهذا اعتراض ساقط ، فإن ورقة إنما أراد بقوله " فإن يدركني يومك حيا أنصرك " اليوم الذي يخرجوك فيه ، لأنه قال ذلك عنه عند قوله أومخرجي هم؟! وتعذيب بلال كان بعد انتشار الدعوة ، وبين ذلك وبين إخراج المسلمين من مكة للحبشة ثم للمدينة مدة متطاولة .

                                                                                                                                                                                                        ( تنبيه ) : زاد معمر بعد هذا كلاما يأتي ذكره في كتاب التعبير .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال محمد بن شهاب ) هو موصول بالإسنادين المذكورين في أول الباب ، وقد أخرج البخاري حديث جابر هذا بالسند الأول من السندين المذكورين هنا في تفسير سورة المدثر .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فأخبرني ) هو عطف على شيء ، والتقدير قال ابن شهاب فأخبرني عروة بما تقدم ، وأخبرني أبو سلمة بما سيأتي .

                                                                                                                                                                                                        قوله قال ( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يحدث عن فترة الوحي قال في حديثه : بينا أنا أمشي ) هذا يشعر بأنه كان في أصل الرواية أشياء غير هذا المذكور ، وهذا أيضا من مرسل الصحابي لأن جابرا لم يدركه زمان القصة فيحتمل أن يكون سمعها من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من صحابي آخر حضرها والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يحدث عن فترة الوحي ) وقع في رواية عقيل في بدء الوحي [ ص: 593 ] غير مصرح بذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه ، ووقع في رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة في تفسير المدثر عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : جاورت بحراء ، فلما قضيت جواري هبطت فنوديت وزاد مسلم في روايته " جاورت بحراء شهرا " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري ) يؤخذ منه جواز رفع البصر إلى السماء عند وجود حادث من قبلها ، وقد ترجم له المصنف في الأدب ، ويستثنى من ذلك رفع البصر إلى السماء في الصلاة لثبوت النهي عنه كما تقدم في الصلاة من حديث أنس ، وروى ابن السني بإسناد ضعيف عن ابن مسعود قال : أمرنا أن لا نتبع أبصارنا الكواكب إذا انقضت . ووقع في رواية يحيى بن أبي كثير فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ونظرت أمامي فلم أر شيئا ونظرت خلفي فلم أر شيئا ، فرفعت رأسي وفي رواية مسلم بعد قوله شيئا ثم نوديت فنظرت فلم أر أحدا ، ثم نوديت فرفعت رأسي .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي ) كذا له بالرفع ، وهو على تقدير حذف المبتدأ ، أي فإذا صاحب الصوت هو الملك الذي جاءني بحراء وهو جالس ، ووقع عند مسلم " جالسا " بالنصب وهو على الحال ، ووقع في رواية يحيى بن أبي كثير فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ففزعت منه ) [2] كذا في رواية ابن المبارك عن يونس ، وفي رواية ابن وهب عند مسلم " فجئثت " ، وفي رواية عقيل في بدء الوحي " فرعبت " ، وفي روايته في تفسير المدثر " فجئثت " وكذا لمسلم وزاد " فجئثت منه فرقا " ، وفي رواية معمر فيه " فجئثت " وهذه اللفظة بضم الجيم ، وذكر عياض أنه وقع للقابسي بالمهملة قال : وفسره بأسرعت ، قال : ولا يصح مع قوله " حتى هويت " أي سقطت من الفزع .

                                                                                                                                                                                                        قلت : ثبت في رواية عبد الله بن يوسف عن الليث في ذكر الملائكة من بدء الخلق ولكنها بضم المهملة وكسر المثلثة بعدها مثناة تحتانية ساكنة ثم مثناة فوقانية ، ومعناها إن كانت محفوظة سقطت على وجهي حتى صرت كمن حثي عليه التراب . قال النووي : وبعد الجيم مثلثتان في رواية عقيل ومعمر ، وفي رواية يونس بهمزة مكسورة ثم مثلثة وهي أرجح من حيث المعنى ، قال أهل اللغة : جئث الرجل فهو مجئوث إذا فزع ، وعن الكسائي جئث وجثث فهو مجئوث ومجثوث أي مذعور .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فقلت زملوني زملوني ) في رواية يحيى بن أبي كثير " فقلت دثروني وصبوا علي ماء باردا " وكأنه رواها بالمعنى ، والتزميل والتدثير يشتركان في الأصل وإن كانت بينهما مغايرة في الهيئة . ووقع في رواية مسلم " فقلت دثروني ، فدثروني وصبوا علي ماء " ويجمع بينهما بأنه أمرهم فامتثلوا . وأغفل بعض الرواة ذكر الأمر بالصب ، والاعتبار بمن ضبط ، وكأن الحكمة في الصب بعد التدثر طلب حصول السكون لما وقع في الباطن من الانزعاج ، أو أن العادة أن الرعدة تعقبها الحمى ، وقد عرف من الطب النبوي معالجتها بالماء البارد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فنزلت يا أيها المدثر ) يعرف من اتحاد الحديثين في نزول يا أيها المدثر عقب قوله دثروني وزملوني أن المراد بزملوني دثروني ، ولا يؤخذ من ذلك نزول يا أيها المزمل حينئذ لأن نزولها تأخر عن نزول يا أيها المدثر بالاتفاق ، لأن أول يا أيها المدثر الأمر بالإنذار وذلك أول ما بعث ، وأول المزمل الأمر بقيام الليل وترتيل القرآن فيقتضي تقدم نزول كثير من القرآن قبل ذلك ، وقد تقدم في تفسير المدثر أنه نزل من أولها إلى قوله : والرجز فاهجر وفيها محصل ما يتعلق بالرسالة ، ففي الآية الأولى المؤانسة بالحالة التي هو عليها من التدثر إعلاما بعظيم قدره ، وفي [ ص: 594 ] الثانية الأمر بالإنذار قائما وحذف المفعول تفخيما ، والمراد بالقيام إما حقيقته أي قم من مضجعك ، أو مجازه أي قم مقام تصميم ، وأما الإنذار فالحكمة في الاقتصار عليه هنا فإنه أيضا بعث مبشرا لأن ذلك كان أول الإسلام ، فمتعلق الإنذار محقق ؛ فلما أطاع من أطاع نزلت إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وفي الثانية تكبير الرب تمجيدا وتعظيما ، ويحتمل الحمل على تكبير الصلاة كما حمل الأمر بالتطهير على طهارة البدن والثياب كما تقدم البحث فيه وفي الآية الرابعة ، وأما الخامسة فهجران ما ينافي التوحيد وما يئول إلى العذاب ، وحصلت المناسبة بين السورتين المبتدأ بهما النزول فيما اشتملتا عليه من المعاني الكثيرة باللفظ الوجيز وفي عدة ما نزل من كل منهما ابتداء والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال أبو سلمة : وهي الأوثان التي كان أهل الجاهلية يعبدون ) تقدم شرح ذلك في تفسير المدثر ، وتقدم الكثير من شرح عائشة وجابر في بدء الوحي ، وبقيت منهما فوائد أخرتها إلى كتاب التعبير ليأخذ كل موضع ساقهما المصنف فيه مطولا بقسط من الفائدة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ثم تتابع الوحي ) أي استمر نزوله .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب قوله خلق الإنسان من علق ) ذكر فيه طرفا من الحديث الذي قبله برواية عقيل عن ابن شهاب واختصره جدا قال : ( أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة ) وفي رواية الكشميهني ( الصادقة ) قال : ( فجاء الملك فقال : اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم وهذا في غاية الإجحاف ولا أظن يحيى بن بكير حدث البخاري به هكذا ولا كان له هذا التصرف ، وإنما هذا صنيع البخاري ، وهو دال على أنه كان يجيز الاختصار من الحديث إلى هذه الغاية .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية