الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                      صفحة جزء
                                                                      4305 حدثنا جعفر بن مسافر التنيسي حدثنا خلاد بن يحيى حدثنا بشير بن المهاجر حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث يقاتلكم قوم صغار الأعين يعني الترك قال تسوقونهم ثلاث مرار حتى تلحقوهم بجزيرة العرب فأما في السياقة الأولى فينجو من هرب منهم وأما في الثانية فينجو بعض ويهلك بعض وأما في الثالثة فيصطلمون أو كما قال

                                                                      التالي السابق


                                                                      ( في حديث يقاتلكم ) : قال القاري : ظاهره أن يكون بالإضافة لكنه في جميع النسخ بالتنوين وفك الإضافة فالوجه أن قوله : يقاتلكم خبر مبتدأ محذوف أي هو يقاتلكم إلخ والجملة صفة حديث ، والمعنى في حديث هو أن ذلك الحديث يقاتلكم ( يعني الترك ) : تفسير من الراوي وهو الصحابي أو التابعي ( قال ) : أي النبي صلى الله عليه وسلم ( تسوقونهم ) : من السوق أي يصيرون مغلوبين مقهورين منهزمين بحيث أنكم تسوقونهم ( ثلاث مرار ) : أي من السوق ( حتى تلحقوهم ) : من الإلحاق أي توصلوهم آخرا ( بجزيرة العرب ) : قيل هي اسم لبلاد العرب سميت بذلك لإحاطة البحار والأنهار بحر الحبشة وبحر فارس ودجلة والفرات

                                                                      وقال مالك : هي الحجاز واليمامة واليمن وما لم يبلغه ملك فارس والروم ذكره الطيبي رحمه الله وتبعه ابن الملك ( فينجو ) : أي يخلص ( من هرب منهم ) أي من الترك ( ويهلك بعض ) : إما بنفسه أو بأخذه وإهلاكه وهو الظاهر ( فيصطلمون ) : بصيغة المجهول أي يحصدون بالسيف ويستأصلون من الصلم وهو القطع المستأصل .

                                                                      واعلم أن هذا الحديث يدل صراحة على أن المسلمين من أمة النبي صلى الله عليه وسلم هم الذين يسوقون الترك ثلاث مرار حتى يلحقوهم بجزيرة العرب ، ففي السياقة الأولى ينجو من هرب من الترك ، وفي الثانية ينجو بعض منهم ويهلك بعض ، وفي الثالثة يستأصلون .

                                                                      وأخرج هذا الحديث الإمام أحمد في مسنده وسياقه مخالف لسياق أبي داود ، مخالفة ظاهرة فإن سياق أحمد يدل صراحة على أن الترك هم الذين يسوقون المسلمين ثلاث مرار حتى يلحقوهم بجزيرة العرب ، ففي السياقة الأولى ينجو من هرب من المسلمين ، وفي الثانية ينجو بعض منهم ويهلك بعض ، وفي الثالثة يستأصلون كلهم .

                                                                      قال أحمد في [ ص: 323 ] مسنده : حدثنا أبو نعيم حدثنا بشير بن مهاجر حدثني عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن أمتي يسوقها قوم عراض الأوجه صغار الأعين كأن وجوههم الحجف ثلاث مرار حتى يلحقوهم بجزيرة العرب ، أما السابقة الأولى فينجو من هرب منهم وأما الثانية فيهلك بعض وينجو بعض ، وأما الثالثة فيصطلون كلهم من بقي منهم . قالوا يا نبي الله من هم ؟ قال : هم الترك قال : أما والذي نفسي بيده ليربطن خيولهم إلى سواري مساجد المسلمين ، قال : وكان بريدة لا يفارقه بعيران أو ثلاثة ومتاع السفر والأسقية بعد ذلك للهرب مما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم من البلاء من أمراء الترك .

                                                                      قال القرطبي : إسناده صحيح .

                                                                      فانظر إلى سياق أحمد كيف خالف سياق أبي داود ، مخالفة بينة لا يظهر وجه الجمع بينهما .

                                                                      وبوب القرطبي في التذكرة بلفظ باب في سياقة الترك للمسلمين وسياقة المسلمين لهم ثم أورد فيه رواية أحمد ورواية أبي داود ، المذكورتين وإني لست أدري ما مراده من تبويبه بهذا اللفظ إن أراد به الجمع بين روايتي أبي داود وأحمد بأنهما محمولان على زمانين مختلفين ، ففي زمان يكون سياقة الترك للمسلمين ، وفي زمان آخر يكون سياقة المسلمين لهم ، فهذا بعيد جدا كما لا يخفى على المتأمل ، وإن أراد غير هذا فالله تعالى أعلم بما أراد .

                                                                      وعندي أن الصواب هي رواية أحمد وأما رواية أبي داود فالظاهر أنه قد وقع الوهم فيه من بعض الرواة ، ويؤيده ما في رواية أحمد من أن بريدة لا يفارقه بعيران أو ثلاثة ومتاع السفر والأسقية بعد ذلك للهرب مما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم من البلاء من أمراء الترك ، ويؤيده أيضا أنه وقع الشك لبعض رواة أبي داود ، ولذا قال في آخر الحديث أو كما قال .

                                                                      ويؤيده أيضا أنه وقعت الحوادث على نحو ما ورد في رواية أحمد فقد قال القرطبي في التذكرة : والحديث الأول أي حديث أحمد على خروجهم وقتالهم المسلمين وقتلهم ، وقد وقع على نحو ما أخبر صلى الله عليه وسلم فخرج منهم في هذا الوقت أمم لا يحصيهم إلا الله ولا يردهم عن المسلمين إلا الله حتى كأنهم يأجوج ومأجوج ، فخرج منهم في جمادى الأولى سنة سبع عشرة وست مائة جيش من الترك يقال له الططر عظم في قتله الخطب والخطر ، وقضي له في قتل النفوس المؤمنة الوطر فقتلوا ما وراء النهر وما دونه من جميع بلاد خراسان ، ومحوا [ ص: 324 ] رسوم ملك بني ساسان ، وخربوا مدينة نشاور وأطلقوا فيها النيران ، وحاد عنهم من أهل خوارزم كل إنسان ، ولم يبق منهم إلا من اختبأ في المغارات والكهفان حتى وصلوا إليها وقتلوا وسبوا وخربوا البنيان ، وأطلقوا الماء على المدينة من نهر جيحان فغرق منها مباني الدار والأركان ، ثم وصلوا إلى بلاد ثهشان فخربوا مدينة الري وقزوين ومدينة أردبيل ومدينة مراغة كرسي بلاد آذربيجان وغير ذلك ، واستأصلوا ساقه من هذه البلاد من العلماء والأعيان واستباحوا قتل النساء وذبح الولدان ، ثم وصلوا إلى العراق الثاني ، وأعظم مدنه مدينة أصبهان ودور سورها أربعون ألف ذراع في غاية الارتفاع والإتقان وأهلها مشتغلون بعلم الحديث فحفظهم الله بهذا الشأن وأنزل عليهم مواد التأييد والإحسان فتلقوهم بصدور هي في الحقيقة صدور الشجعان ، وحققوا الخبر بأنها بلد الفرسان واجتمع فيها مائة ألف إنسان ، وأبرز الططر القتل في مضاجعهم وساقهم القدر المحتوم إلى مصارعهم ، فمرقوا عن أصبهان مروق السهم من الرمية ، ففروا منهم فرار الشيطان في يوم بدر وله حصاص ، ورأوا أنهم إن وقفوا لم يكن من الهلاك خلاص ، وواصلوا السير بالسير إلى أن صعدوا جبل أربد فقتلوا جميع من فيه من صلحاء المسلمين ، وخربوا ما فيه من الجنات والبساتين ، وكانت استطالتهم على ثلثي بلاد المشرق الأعلى ، وقتلوا من الخلائق ما لا يحصى ، وقتلوا في العراق الثاني عدة يبعد أن تحصى ، وربطوا خيولهم إلى سواري المساجد والجوامع كما جاء في الحديث المنذر بخروجهم ، إلى أن قال : وقطعوا السبيل وأخافوها ، وجاسوا خلال الديار وطافوها ، وملأوا قلوب المسلمين رعبا وسحبوا ذيل الغلبة على تلك البلاد سحبا ، ولا شك أنهم هم المنذر بهم في الحديث ، وأن لهم ثلاث خرجات يصطلمون في الأخيرة منها .

                                                                      قال القرطبي : فقد كملت بحمد الله خرجاتهم ، ولم يبق قتلتهم وقتالهم ، فخرجوا عن العراق الثاني والأول كما ذكرنا وخرجوا من هذا الوقت على العراق الثالث بغداد وما اتصل بها من البلاد ، وقتلوا جميع من فيها من الملوك والعلماء والفضلاء والعباد ، واستباحوا جميع من فيها من المسلمين ، وعبروا الفلاة إلى حلب وقتلوا جميع من فيها ، وخربوا إلى أن تركوها خالية ، ثم أوغلوا إلى أن ملكوا جميع الشام في مدة يسيرة من الأيام ، وفلقوا بسيوفهم الرءوس والهام ، ودخل رعبهم الديار المصرية ، ولم يبق إلا اللحوق بالديار الأخروية ، فخرج إليهم من مصر الملك المظفر الملقب بقطز رضي الله عنه بجميع من معه [ ص: 325 ] من العساكر ، وقد بلغت القلوب الحناجر إلى أن التقى بهم بعين جالوت ، فكان له عليهم من النصر والظفر كما كان لطالوت ، فقتل منهم جمع كثير وعدد غزير وارتحلوا عن الشام من ساعتهم ، ورجع جميعه كما كان للإسلام ، وعدوا الفرات منهزمين ، ورأوا ما لم يشاهدوه منذ زمان ولا حين ، وراحوا خائبين وخاسئين مدحورين أذلاء صاغرين ، انتهى كلام القرطبي باختصار .

                                                                      وقال الإمام ابن الأثير في الكامل : حادثة التتار من الحوادث العظمى والمصائب الكبرى التي عقمت الدهور عن مثلها ، عمت الخلائق وخصت المسلمين ، فلو قال قائل إن العالم منذ خلقه الله تعالى إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقا ، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها انتهى .

                                                                      وقال الذهبي : وكانت بلية لم يصب الإسلام بمثلها انتهى .

                                                                      ( أو كما قال ) : أي قال غير هذا اللفظ ، فهذا يدل على أن الراوي لم يضبط لفظ الحديث ولذا رجحت رواية أحمد . والحديث سكت عنه المنذري .




                                                                      الخدمات العلمية