الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ) هذا بيان للإنذار العام ، الذي أمر الرسول بتبليغه إلى جميع الأنام ، وهو على تقدير القول الذي يكثر حذفه في مثل هذا المقام ، لما يدل عليه من الأسلوب وسياق الكلام ، أي قل : يا أيها الناس اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ، الذي هو خالقكم ومربيكم ومدبر أموركم ، فإنه هو الذي له وحده الحق في شرع الدين لكم وفرض العبادات عليكم ، والتحليل لما ينفعكم ، والتحريم لما يضركم ؛ لأنه أعلم بمصلحتكم منكم ( ولا تتبعوا من دونه أولياء ) تتخذونهم من أنفسكم ، ولا من الشياطين الذين يوسوسون لكم ، بما يزين لكم ضلال تقاليدكم والابتداع في دينكم ، فتولونهم أموركم ، وتطيعونهم فيما يرومون منكم ، من وضع أحكام ، وحلال وحرام ، زاعمين أنه يجب عليكم تقليدهم لأنهم أعلم منكم ، أو للاقتداء بما كان عليه آباؤكم ، فإنما على العالم بدين الله تبليغه وبيانه للمتعلم لا بيان آرائه وظنونه فيه - ولا أولياء تتخذونهم لأجل إنجائكم من الجزاء على ذنوبكم ، وجلب النفع لكم أو رفع الضر عنكم ، زاعمين أنهم بصلاحهم يقربونكم إليه زلفى ، أو يشفعون لكم عنده في الآخرة أو الدنيا ، فإن الله ربكم هو الولي ، أي الذي يتولى أمر العباد بالتشريع والتدبير ، والخلق والتقدير ، فله وحده الخلق والأمر وبيده النفع والضر ( قليلا ما تذكرون ) أي تذكرا قليلا تتذكرون ، أو زمنا قليلا تتذكرون ما يجب أن يعلم فلا يجهل ويحفظ فلا ينسى ، مما يجب للرب تعالى ، ويحظر أن يشرك معه غيره فيه ، أو قليلا ما تتعظون بما توعظون به فترجعون عن تقاليدكم وأهوائكم إلى ما أنزل إليكم من ربكم . قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم " تذكرون " بحذف إحدى التاءين وتخفيف الذال وتشديد الكاف ، على أن أصلها ( تتذكرون ) وقرأها ابن عامر " يتذكرون " بالياء على أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على طريق الالتفات ، وقرأها الباقون بالتاء وتشديد الذال بإدغام التاء الأخرى فيها .

                          قد حققنا معنى الولاية لغة وأنواع استعمالها في القرآن مرارا أقربها ما في سورة الأنعام كقوله تعالى : ( وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا ) ( 6 : 129 ) وبينا وجه الحصر في كون الله تعالى هو ولي المؤمنين في تفسير : ( قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض ) ( 6 : 14 ) وزدنا هذا بيانا في تفسير : ( وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون ) ( 6 : 51 ) [ ص: 273 ] وكذا تفسير : ( وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع ) ( 6 : 70 ) كما بيناه في تفسير آيات أخرى مما قبل سورة الأنعام ، ومن أوسعها وأعمها بيانا تفسير قوله تعالى : ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت ) ( 2 : 257 ) الآية وفيه تفصيل لولاية الله المؤمنين ، وولاية المؤمنين بعضهم لبعض ، وولاية الطاغوت للكافرين .

                          ونكتفي هنا بأن نقول : إن الولاية التي هي عبارة عن تولي الأمر - منها ما هو خاص برب العباد وإلههم الحق ، وهي قسمان : ( أحدهما ) شرع الدين ، عقائده وعباداته وحلاله وحرامه . ( وثانيهما ) الخلق والتدبير الذي هو فوق استطاعة الناس في أمور الأسباب العامة التي مكن الله منها جميع الناس في الدنيا ، كالهداية بالفعل ، وتسخير القلوب ، والنصر على الأعداء وغير ذلك - وكل ما يتعلق بأمر الآخرة من المغفرة والرحمة والثواب والعقاب ، فكل ما ورد من حصر الولاية في الله تعالى فالمراد به تولي أمور العباد فيما لا يصل إليه كسبهم وشرع الدين لهم كما فصلناه في تفسير آية البقرة وغيرها .

                          والمتبادر هنا من النهي عن اتباع الأولياء من دونه تعالى ، هو النهي عن طاعة كل أحد من الخلق في أمر الدين غير ما أنزل الله من وحيه ، كما فعل أهل الكتاب في طاعة أحبارهم ورهبانهم فيما أحلوا لهم وزادوا على الوحي من العبادات وما حرموا عليهم من المباحات ، كما ورد في الحديث المرفوع في تفسير قوله تعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) ( 9 : 31 ) وكل من أطاع أحدا طاعة دينية في حكم شرعي لم ينزله ربه إليه فقد اتخذه ربا ، والآية نص في عدم جواز طاعة أحد من العلماء ولا الأمراء في اجتهاده في أمور العقائد والعبادات والحلال والحرام تدينا ، وما على العلماء إلا بيان ما أنزله الله وتبليغه ، وإرشاد الناس إلى فهمه وما عسى أن يخفى عليهم من تطبيق العمل على النص ، وحكمة الدين في الأحكام كبيان سمت القبلة في البلاد المختلفة ، فهم لا يتبعون في ذلك لذواتهم ، بل المتبع ما أنزله الله بنصه أو فحواه على حسب روايتهم له وتفسيرهم لمعناه ، وإنما يطاع أولو الأمر من الأمراء وأهل الحل والعقد في تنفيذ ما أنزله الله تعالى ، وفيما ناطه بهم من استنباط الأحكام في سياسة الأمة وأقضيتها التي تختلف المصالح فيها باختلاف الزمان والمكان . والآية نص في بطلان القياس ونبذ الرأي في الأمور الدينية المحضة ، وقد فصلنا القول في ذلك وما يتعلق [ ص: 274 ] به من الأصول والفروع في تفسير : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) ( 4 : 59 ) الآية ، وتفسير قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) ( 5 : 101 ) الآية .

                          ولا شك في أن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه من بيان الدين داخل في عموم ما أنزل إلينا على لسانه ، وكذا اتباعه في أحكامه الاجتهادية ، فإنه تعالى أمرنا باتباعه وبطاعته ، وأخبرنا بأنه مبلغ عنه ، وقال له : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) ( 16 : 44 ) والجمهور على أن الأحكام الشرعية الواردة في السنة موحى بها ، وأن الوحي ليس محصورا في القرآن ، والإمام الشافعي يقول : إنها مستنبطة من القرآن . وقد قال صلى الله عليه وسلم : " إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر " رواه مسلم من حديث رافع بن خديج في مسألة تأبير النخل ، وروي من حديث موسى بن طلحة عن أبيه أنه صلى الله عليه وسلم قال : " إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه فإني إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن ، ولكن إن حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به فإني لن أكذب على الله عز وجل " وإذا كان عليه أفضل الصلاة والسلام قد أذن لنا ألا نأخذ بظنه في أمور الدنيا ، وقال : " أنتم أعلم بأمر دنياكم " كما في حديث عائشة وثابت بن أنس عند مسلم ، فما القول بظن غيره ؟ ومنه اجتهاد العلماء فيما ذكرنا آنفا .

                          قال الرازي : هذه الآية تدل على أن تخصيص عموم القرآن بالقياس لا يجوز ؛ لأن عموم القرآن منزل من عند الله تعالى ، والله تعالى أوجب متابعته فوجب العمل بعموم القرآن ، ولما وجب العمل به امتنع العمل بالقياس وإلا لزم التناقض ، فإن قالوا : لما ورد الأمر بالقياس في القرآن وهو قوله : ( فاعتبروا ) كان العمل بالقياس عملا بما أنزل الله - قلنا : هب أنه كذلك ، إلا أنا نقول : الآية الدالة على وجوب العمل بالقياس إنما تدل على الحكم المثبت بالقياس لا ابتداء بل بواسطة ذلك القياس ، وأما عموم القرآن فإنه يدل على ثبوت ذلك الحكم ابتداء لا بواسطة ، ولما وقع التعارض كان الذي دل عليه ما أنزله الله ابتداء أولى بالرعاية من الحكم الذي دل عليه ما أنزله الله بواسطة شيء آخر ، فكان الترجيح من جانبنا والله أعلم اهـ .

                          وقد نقلنا في بحث القياس أن الرازي قد رد في محصوله كون قوله تعالى : ( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) ( 59 : 2 ) دليلا على القياس الأصولي وهو مصيب في ذلك . ثم أورد استدلالا آخر بالآية لنفاة القياس وأورد عليه مناقشة القياسيين فيه ، ونحن في غنى عن ذلك بتحقيق الحق في المسألة في تفسير آية المائدة التي أشرنا إليها آنفا . [ ص: 275 ] ثم ذكر أن الحشوية الذين ينكرون النظر العقلي والبراهين العقلية تمسكوا بهذه الآية : قال : وهو بعيد لأن العلم بكون القرآن حجة موقوف على صحة التمسك بالدلائل العقلية ، فلو جعلنا القرآن طاعنا في صحة الدلائل العقلية لزم التناقض وهو باطل اهـ . وكان ينبغي أن يرد عليهم بأن القرآن قد هدى إلى الدلائل العقلية باستدلاله بالمعقول ، ومخاطبته لأولي الألباب وأصحاب العقول ، على أننا لا نعرف طائفة من الناس تنكر النظر العقلي والبراهين العقلية مطلقا ، وإنما أنكر بعض العقلاء وأهل البصيرة على أمثاله من المتكلمين جعل العقائد والصفات الإلهية وأخبار عالم الغيب محلا لنظريات فلسفية ، وموقوفا إثباتها على اصطلاحات جدلية ما أنزل الله بها من سلطان ، ولم يستفد أصحابها منها غير تفريق الدين ، واختلاف المسلمين ، والبعد عن حق اليقين ، ويرى هؤلاء أن كون القرآن عند الله تعالى قد ثبت ثبوتا عقليا من وجوه كثيرة ، فوجب اتباعه بتلقي العقائد والأحكام منه مع اجتناب التأويل للصفات الإلهية والأمور الغيبية بالنظريات الكلامية كما كان عليه السلف الصالح ، وقد بينا هذا في مواضع أخرى .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية