الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون ) .

                          بدئت السورة بالكتاب الحكيم ( القرآن ) وإنكار المشركين للوحي بشبهتهم المعروفة ، وسيقت بعدها الآيات في إقامة الحجج عليهم من خلق العالم علويه وسفليه ، ومن طبيعة الإنسان وتاريخه ، [ ص: 261 ] متضمنة لإثبات أهم أركان الدين وهو الوحي والتوحيد والبعث ، وجاءت هذه الآيات الثلاث بعد ذلك في شأن الكتاب نفسه وتفنيد ما اقترحه المشركون على الرسول فيه ، وحجته البالغة عليهم في كونه وحيا من الله تعالى .

                          ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ) في الآية التفات عن خطاب هؤلاء الموعوظين إلى الغيبة عنهم ، وتوجيه له إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأسلوب الالتفات في القرآن كثير جدا ، وفائدته العامة تلوين الكلام بما يجدد الانتباه له والتأمل فيه ، وفي كل التفات فائدة خاصة ، لو أردنا بيان ما نفهمه منها لطال بنا بحث البلاغة الكلامية ، بما يشغل القراء عن الهداية المقصودة بالذات من تفسيرنا . ويظهر في هذه الآية أن نكتة حكاية هذا الاقتراح السخيف بأسلوب الإخبار عن قوم غائبين إفادة أمرين : ( أحدهما ) إظهار الإعراض عنهم كأنهم غير حاضرين ؛ لأنهم لا يستحقون الخطاب به من الله تعالى : ( ثانيهما ) تلقينه - صلى الله عليه وسلم - الجواب عنه بما ترى من العبارة البليغة التأثير ، والمعنى : وإذا تتلى على أولئك القوم آياتنا المنزلة حالة كونها بارزة في أعلى معارض البيان ، وأظهر مقدمات الوحي والبرهان قال الذين لا يرجون لقاءنا وهم ما تقدم ذكرهم قريبا - وأعاده واضعا إياه موضع الضمير للإشعار بعلة القول - أي قالوا لمن يتلوها عليهم وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - ائت بقرآن غير هذا أو بدله ، الأظهر في سبب قولهم هذا أنه - صلى الله عليه وسلم - بلغهم أن هذا القرآن من عند الله أوحاه إليه لينذرهم به ، وتحداهم بالإتيان بمثله أو بسورة من مثله فعجزوا ، وكانوا في ريب من كونه وحيا من الله لبشر مثلهم كما تقدم في أول السورة ، وفي ريب من كونه من عند محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهو لم يكن يفوقهم في الفصاحة والبلاغة ، ولا في شيء من العلم ، بل كانوا يرونه دون كبار فصحائهم من بلغاء الشعراء ومصاقع الخطباء ، فأرادوا أن يمتحنوه بمطالبته بالإتيان بقرآن غيره في جملة ما بلغهم من سورة في أسلوبها ونظمها ودعوتها ، أو بالتصرف فيه بالتغيير والتبديل لما يكرهونه منه ، كتحقير آلهتهم وتكفير آبائهم ، حتى إذا فعل هذا أو ذاك كانت دعواه أنه كلام الله أوحاه إليه منقوضة من أساسها ، وكان قصارى أمره أنه امتاز عليهم بهذا النوع من البيان ، بقوة نفسية فيه كانت خفية عنهم كأسباب السحر لا بوحي الله إليه ، وهما ما يزعمه بعض الإفرنج ومقلدتهم في عصرنا ، وقد فندناه في تفسير الآية الأولى من هذه السورة .

                          قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي أي قل لهم أيها الرسول إنه ليس من شأني ولا مما تبيحه لي رسالتي أن أبدله من تلقاء نفسي ، أي بمحض رأيي ومقتضى اجتهادي ، وكلمة ( تلقاء ) بكسر التاء مصدر من اللقاء كتبيان من البيان ، وكسر التاء فيهما سماعي والقياس في هذا المصدر فتحها كالتكرار والتطواف والتجوال ، إن أتبع إلا ما يوحى إلي أي ما أتبع فيه إلا تبليغ ما يوحى إلي والاهتداء به فإن بدل الله تعالى منه شيئا بنسخه بلغته عنه ، وما [ ص: 262 ] علي إلا البلاغ المحض ، وأقول : إذا كان الله لم يعط رسوله الحق في تبديل القرآن ، فما حكمه تعالى فيمن يبدلونه بأعمالهم المنافية لصدق وعده لأهله وهم يدعون أنهم أهله ، كالذين قال فيهم : ( يريدون أن يبدلوا كلام الله ) ( 48 : 15 ) أو بترك أحكامه لمذاهبهم ، كالذين قال فيهم : ( فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه ) ( 2 : 181 ) إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم : هذا تعليل لمضمون ما قبله ، الذي هو بيان لنفي الشأن الذي قبله ، أي إني أخاف إن عصيت ربي أي عصيان كان ، عذاب يوم عظيم الشأن ، وهو يوم القيامة ، فكيف إذا عصيته بتبديل كلامه اتباعا لأهوائكم ؟ وقوله : إن عصيت من باب الفرض ، إذ الشرطية المبدوءة بـ ( ( إن ) ) يعبر بها عما شأنه ألا يقع . وهذا جواب عن الشق الثاني من اقتراحهم .

                          ثم لقنه الجواب عن الشق الأول مفصولا لأهميته بقوله : ( قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ) أي لو شاء الله تعالى ألا أتلو عليكم هذا القرآن ما تلوته عليكم ، فإنما أتلوه بأمره تنفيذا لمشيئته ولا أدراكم به أي ولو شاء ألا يدريكم ويعلمكم به بإرسالي إليكم لما أرسلني ولما أدراكم به ، ولكنه شاء أن يمن عليكم بهذا العلم الأعلى ؛ لتدروه فتهتدوا به وتكونوا بهدايته خلائف الأرض ، وقد علم أن هذا إنما يكون به لا بقرآن آخر ، كما قال : ( لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه ) ( 4 : 166 ) وقال : ( ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون ) ( 7 : 52 ) ( راجع تفسير هذه وما بعدها في ج 8 تفسير ) فهو قد أنزله عالما بأن فيه كل ما يحتاجون إليه من الهداية وأسباب السعادة ، وأمرني بتبليغه إليكم ولم يكن لي علم بشيء من ذلك قبله ( فقد لبثت فيكم عمرا من قبله ) أي فقد مكثت فيما بين ظهرانيكم عمرا طويلا من قبله وهو أربعون سنة ، لم أتل عليكم فيه سورة من مثله ولا آية تشبه آياته ، لا في العلم والعرفان ، ولا في البلاغة وروعة البيان أفلا تعقلون ؟ إن من عاش أربعين سنة لم يقرأ فيها كتابا ، ولم يلقن من أحد علما ، ولم يتقلد دينا ، ولم يعرف تشريعا ، ولم يمارس أساليب البيان ، في أفانين الكلام ، من شعر ونثر ، ولا خطابة وفخر ، ولا علم وحكم ، لا يمكنه أن يأتي من تلقاء نفسه بمثل هذا القرآن المعجز لكم ، بل هو يعجز جميع الخلق حتى الدارسين لكتب الأديان والحكمة والتاريخ أن يأتوا بمثله ؟ فكيف تقترحون علي إذا أن آتي بقرآن غيره ؟ وسيتحداهم في الآية 38 بسورة مثله .

                          ومما يمتاز به الوحي المحمدي على ما كان قبله ، أن أكثر أنبياء بني إسرائيل كانوا قبل نبوتهم على شيء من العلم الكسبي كما بيناه في مباحث الوحي القريبة ، وفاتنا فيها التذكير بما أوتي بعضهم من العلم والحكم الوهبي قبلها أيضا . قال تعالى في موسى : ( ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما ) ( 28 : 14 ) وبلوغ الأشد يكون في استكمال الثلاثين وذكر بعد هذا [ ص: 263 ] خروجه إلى مدين ونزول الوحي عليه في أثناء عودته منها . وكان موسى على علم بشرائع المصريين ومعارفهم أيضا ، قال تعالى في يوسف : ( ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما ) ( 12 : 22 ) ولم يقل : ( ( واستوى ) ) فالظاهر أنه قبل النبوة أيضا ، وكان العلم الذي امتاز به يوسف تأويل الأحاديث والرؤى أي الإخبار بمآلها . وقال في يحيى ( وآتيناه الحكم صبيا ) ( 19 : 12 ) ولم ينقل عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة علم ولا حكم في الأمور ، اللهم إلا حكمه في تنازع زعماء قريش عند بنائهم الكعبة ، أيهم يضع الحجر الأسود في مكانه من الركن ، وكادوا يقتتلون فطلع عليهم فقالوا : هذا الأمين نحكمه ونرضى بحكمه ؛ أي لأنه أمين صادق لا يحابي ، فحكم بوضعه في ثوب يأخذ سيد كل قبيلة ناحية منه ، ثم ارتقى هو إلى موضعه من الركن فرفعوه إليه فوضعه فيه . والخبر من مراسيل السير لم يرد مرفوعا وأخرجه البيهقي عن ابن شهاب الزهري وقد عبر عنه بكلمة ( ( غلام ) ) وفي السيرة الحلبية أن سنه - صلى الله عليه وسلم - كانت عند بناء الكعبة خمسا وثلاثين سنة .

                          هذه حجة عقلية ناهضة ، على بطلان شبهتهم الداحضة ، التي بنوا عليها مطالبة محمد - صلى الله عليه وسلم - بالإتيان بقرآن غير هذا القرآن ، وقد ظهر لعلماء هذا العصر ما أيد دلالتها العلمية فإنهم بما حذقوا علم النفس وأخلاق البشر وطباعهم ، وما عرفوا من درجات استعدادهم العلمي والعقلي باستقراء تاريخهم ، قد حققوا أن استعداد الإنسان العقلي للعلوم ، واستعداده النفسي للنهوض بالأعمال القومية أو العالمية ، يظهر كل من الاستعدادين فيه من أوائل نشأته ، ويكون في منتهى القوة والظهور بالفعل عند استكمال نموه في العقدين الثاني والثالث من عمره ، فإذا بلغ الخامسة والثلاثين ولم يظهر نبوغه في علم من العلوم التي سبق اشتغاله بها ، ولا النهوض بعمل من الأعمال العامة التي كان استشرف لها ، فإن من المحال أن يظهر منه شيء من هذا أو ذاك من بعدها جديدا أنفا ويكون فيه نابغا ناجحا ، وقد قدمنا في مباحث إثبات ( الوحي المحمدي ) أن هذا القرآن مشتمل على تمحيص الحقائق في جميع العلوم والمعارف الدينية والتشريعية التي يتوقف عليها صلاح جميع البشر ، وأن الرسول الذي أنزله الله عليه قام بتنفيذ هذا الإصلاح بما غير وجه الأرض ، وقلب أحوال أكثر أممها فحولها إلى خير منها ، وأن ذلك كله كان بعد أربعين سنة قضاها في الأمية . فهذا العلم الجديد الذي أيد حجة القرآن العقلية في هذا العصر ، له في علوم القرآن نظائر أشرنا إلى بعضها آنفا ، وبينا كثيرا منها في تفسيرنا هذا ، وهو مما يمتاز به على جميع التفاسير بفضل الله تعالى ، وإن كان أكثر المسلمين غافلين عنه تبعا لغفلتهم عن القرآن نفسه ، وعدم شعورهم بالحاجة إلى هدايته ، بصد دعاة التقليد المعممين [ ص: 264 ] إياهم عنه ، ومن الغريب أن ترى أساطين المفسرين لم يفهموا من الآية أن فيها جوابا عن الشق الأول من اقتراح المشركين ، وهو الإتيان بقرآن آخر ، وقد هدانا الله تعالى إليه مع برهانه بفضله ، وكم ترك الأول للآخر ! !

                          ( فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته ) هذه تتمة الرد على اقتراح المشركين ، فإنه رد عليهم أولا ببيان حقيقة الأمر الواقع ، وهو أن تبديل القرآن ليس من شأن الرسول في نفسه ، ولا مما أذن الله له به ، بل يعاقبه عليه أشد العقاب في الآخرة إن فرض وقوعه منه - لأنه كلامه الخاص به - وثانيا بإقامة الحجة العقلية على أنه كلام الله ، وأنه ليس في استطاعته - صلى الله عليه وسلم - الإتيان بمثله ، ثم عزز هاتين الحجتين بثالثة أدبية ، وهي أن شر أنواع الظلم والإجرام في البشر شيئان : أحدهما افتراء الكذب على الله ، وهو ما اقترحوه عليه بجحودهم ، وثانيهما التكذيب بآيات الله ، وهو ما اجترحوه بإجرامهم . وقد بين هذا بصيغة الاستفهام الإنكاري ، أي لا أحد أظلم عند الله وأجدر بغضبه وعقابه من هذين الفريقين من الظالمين ، وأنا أنعي عليكم الثاني منهما ، فكيف أرضى لنفسي بالأول وهو شر منه ؟ وأي فائدة لي من هذا الإجرام العظيم وأنا أريد الإصلاح وأدعو إليه وأحتمل المشاق في سبيله ، وأعلم أنه لا يفلح المجرمون أي لا يفوزون بمطلوبهم الذي يتوسلون إليه بالكذب والزور .

                          وقد تقدم مثل هذا الاستفهام في ثلاث آيات من سورة الأنعام ( 6 : 21 و 93 و 144 ) وفي آية من سورة الأعراف ( 7 : 37 ) فراجع تفسيرهن في ج 8 تفسير ) .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية