الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ولما كانت إرادة الإصلاح برد الرجل امرأته إلى عصمته إنما تتحقق بأن يقوم بحقوقها كما يلزمها أن تقوم بحقوقه ذكر جل شأنه حق كل منهما على الآخر بعبارة مجملة تعد ركنا من أركان الإصلاح في البشر وهي قوله تعالى : ( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ) .

                          هذه كلمة جليلة جدا جمعت على إيجازها ما لا يؤدى بالتفصيل إلا في سفر كبير، فهي قاعدة كلية ناطقة بأن المرأة مساوية للرجل في جميع الحقوق إلا أمرا واحدا عبر عنه بقوله : ( وللرجال عليهن درجة ) وسيأتي بيانه ، وقد أحال في معرفة مالهن وما عليهن على المعروف بين الناس في معاشراتهم ومعاملاتهم في أهليهم ، وما يجري عليه عرف الناس ، وهو تابع [ ص: 298 ] لشرائعهم وعقائدهم وآدابهم وعاداتهم ، فهذه الجملة تعطي الرجل ميزانا يزن به معاملته لزوجه في جميع الشئون والأحوال ، فإذا هم بمطالبتها بأمر من الأمور يتذكر أنه يجب عليه مثله بإزائه ، ولهذا قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : إنني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي لهذه الآية ، وليس المراد بالمثل المثل بأعيان الأشياء وأشخاصها ، وإنما المراد أن الحقوق بينهما متبادلة وأنهما أكفاء ، فما من عمل تعمله المرأة للرجل إلا وللرجل عمل يقابله لها ، إن لم يكن مثله في شخصه ، فهو مثله في جنسه ، فهما متماثلان في الحقوق والأعمال ، كما أنهما متماثلان في الذات والإحساس والشعور والعقل; أي أن كلا منهما بشر تام له عقل يتفكر في مصالحه ، وقلب يحب ما يلائمه ويسر به ، ويكره ما لا يلائمه وينفر منه ، فليس من العدل أن يتحكم أحد الصنفين بالآخر ويتخذه عبدا يستذله ويستخدمه في مصالحه ، ولا سيما بعد عقد الزوجية والدخول في الحياة المشتركة التي لا تكون سعيدة إلا باحترام كل من الزوجين الآخر والقيام بحقوقه .

                          قال الأستاذ الإمام - قدس الله روحه - : هذه الدرجة التي رفع النساء إليها لم يرفعهن إليها دين سابق ولا شريعة من الشرائع ، بل لم تصل إليها أمة من الأمم قبل الإسلام ولا بعده، وهذه الأمم الأوربية التي كان من آثار تقدمها في الحضارة والمدنية أن بالغت في تكريم النساء واحترامهن ، وعنيت بتربيتهن وتعليمهن العلوم والفنون ، لا تزال دون هذه الدرجة التي رفع الإسلام النساء إليها ، ولا تزال قوانين بعضها تمنع المرأة من حق التصرف في مالها بدون إذن زوجها ، وغير ذلك من الحقوق التي منحتها إياها الشريعة الإسلامية من نحو ثلاثة عشر قرنا ونصف ، وقد كان النساء في أوربا منذ خمسين سنة بمنزلة الأرقاء في كل شيء كما كن في عهد الجاهلية عند العرب أو أسوأ حالا ، ونحن لا نقول : إن الدين المسيحي أمرهم بذلك لأننا نعتقد أن تعليم المسيح لم يخلص إليهم كاملا سالما من الإضافات والبدع ، ومن المعروف أن ما كانوا عليه من الدين لم يرق المرأة وإنما كان ارتقاؤها من أثر المدنية الجديدة في القرن الماضي .

                          وقد صار هؤلاء الإفرنج الذين قصرت مدنيتهم عن شريعتنا في إعلاء شأن النساء يفخرون علينا ، بل يرموننا بالهمجية في معاملة النساء ، ويزعم الجاهلون منهم بالإسلام أن ما نحن عليه هو أثر ديننا ، ذكر الأستاذ الإمام في الدرس أن أحد السائحين من الإفرنج [ ص: 299 ] زاره في الأزهر وبينا هما ماران في المسجد رأى الإفرنجي بنتا مارة فيه فبهت وقال : ما هذا ؟ أنثى تدخل الجامع ! ! ! فقال له الإمام : وما وجه الغرابة في ذلك ؟ قال : إننا نعتقد أن الإسلام قرر أن النساء ليس لهن أرواح وليس عليهن عبادة : فبين له غلطه وفسر له بعض الآيات فيهن . قال : فانظروا كيف صرنا حجة على ديننا ؟ وإلى جهل هؤلاء الناس بالإسلام حتى مثل هذا الرجل الذي هو رئيس لجمعية كبيرة فما بالكم بعامتهم ؟

                          إذا كان الله قد جعل للنساء على الرجال مثل ما لهم عليهن إلا ما ميزهم به من الرياسة ، فالواجب على الرجال بمقتضى كفالة الرياسة أن يعلموهن ما يمكنهن من القيام بما يجب عليهن ويجعل لهن في النفوس احتراما يعين على القيام بحقوقهن ويسهل طريقه ، فإن الإنسان بحكم الطبع يحترم من يراه مؤدبا عالما بما يجب عليه عاملا به ، ولا يسهل عليه أن يمتهنه أو يهينه ، وإن بدرت منه بادرة في حقه رجع على نفسه باللائمة ، فكان ذلك زاجرا له عن مثلها .

                          خاطب الله تعالى النساء بالإيمان والمعرفة والأعمال الصالحة في العبادات والمعاملات كما خاطب الرجال ، وجعل لهن عليهم مثل ما جعله لهم عليهن ، وقرن أسماءهن بأسمائهم في آيات كثيرة ، وبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤمنات كما بايع المؤمنين ، وأمرهن بتعلم الكتاب والحكمة كما أمرهم ، وأجمعت الأمة على ما مضى به الكتاب والسنة من أنهن مجزيات على أعمالهن في الدنيا والآخرة ، أفيجوز بعد هذا كله أن يحرمن من العلم بما عليهن من الواجبات والحقوق لربهن ولبعولتهن ولأولادهن ولذي القربى وللأمة والملة ؟ العلم الإجمالي بما يطلب فعله شرط في توجه النفس إليه ، إذ يستحيل أن تتوجه إلى المجهول المطلق والعلم التفصيلي به المبين لفائدة فعله ومضرة تركه يعد سببا للعناية بفعله والتوقي من إهماله ، فكيف يمكن للنساء أن يؤدين تلك الواجبات والحقوق مع الجهل بها إجمالا وتفصيلا ؟ وكيف تسعد في الدنيا أو الآخرة أمة نصفها كالبهائم لا يؤدي ما يجب عليه لربه ولا لنفسه ولا لأهله ولا للناس ؟ والنصف الآخر قريب من ذلك; لأنه لا يؤدي إلا قليلا مما يجب عليه من ذلك ويترك الباقي ، ومنه إعانة ذلك النصف الضعيف على القيام بما يجب عليه من علم وعمل ، أو إلزامه إياه بما له عليه من السلطة والرياسة .

                          إن ما يجب أن تعلمه المرأة من عقائد دينها وآدابه وعباداته محدود ، ولكن ما يطلب منها لنظام بيتها وتربية أولادها ونحو ذلك من أمور الدنيا كأحكام المعاملات - إن كانت في بيت غني ونعمة - يختلف باختلاف الزمان والمكان والأحوال ، كما يختلف بحسب ذلك الواجب على الرجال ، ألا ترى الفقهاء يوجبون على الرجل النفقة والسكنى والخدمة اللائقة بحال المرأة ؟ ألا ترى أن فروض الكفايات قد اتسعت دائرتها ؟ فبعد أن كان اتخاذ السيوف والرماح والقسي كافيا في الدفاع عن الحوزة صار هذا الدفاع متوقفا على المدافع والبنادق [ ص: 300 ] والبوارج ، وعلى علوم كثيرة صارت واجبة اليوم ولم تكن واجبة ولا موجودة بالأمس ، ألم تر أن تمريض المرضى ومداواة الجرحى كان يسيرا على النساء في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وعصر الخلفاء رضي الله تعالى عنهم ، وقد صار الآن متوقفا على تعلم فنون متعددة وتربية خاصة ، أي الأمرين أفضل في نظر الإسلام ؟ أتمريض المرأة لزوجها إذا هو مرض أم اتخاذ ممرضة أجنبية تطلع على عورته وتكتشف مخبآت بيته ؟ وهل يتيسر للمرأة أن تمرض زوجها أو ولدها إذا كانت جاهلة بقانون الصحة وبأسماء الأدوية ؟ نعم; قد تيسر لكثيرات من الجاهلات قتل مرضاهن بزيادة مقادير الأدوية السامة أو بجعل دواء مكان آخر .

                          روى ابن المنذر والحاكم - وصححه - وغيرهما عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في تفسير قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا ) ( 66 : 6 ) علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم ، والمراد بالأهل النساء والأولاد ذكورا وإناثا ، وزاد بعضهم هنا العبد والأمة ، وهو من : أهل المكان أهولا : عمر ، وأهل الرجل وتأهل تزوج ، وأهل الرجل : زوجه وأهل بيته الذين يسكنون معه فيه والأصل فيه القرابة . وجمع الأهل أهلون، وربما قيل الأهالي ( المصباح ) وإذا كان الرجل يقي نفسه وأهله نار الآخرة بتعليمهم وتأديبهم ، فهو كذلك يقيهم بذلك نار الدنيا وهي المعيشة المنغصة بالشقاء وعدم النظام .

                          والآية تدل على اعتبار العرف في حقوق كل من الزوجين على الآخر ما لم يحل العرف حراما أو يحرم حلالا مما عرف بالنص ، والعرف يختلف باختلاف الناس والأزمنة ، ولكن أكثر فقهاء المذاهب المعروفة يقولون : إن حق الرجل على المرأة ألا تمنعه من نفسها بغير عذر شرعي ، وحقها عليه النفقة والسكنى إلخ . وقالوا : لا يلزمها عجن ولا خبز ولا طبخ ولا غير ذلك من مصالح بيته أو ماله وملكه ، والأقرب إلى هداية الآية ما قاله بعض المحدثين والحنابلة . قال في حاشية المقنع بعد ذكر القول بأنه لا يجب عليها ما ذكر .

                          وقال أبو بكر بن أبي شيبة والجوزجاني : عليها ذلك واحتجا بقضية علي وفاطمة رضي الله عنهما فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى على ابنته بخدمة البيت وعلى علي ما كان خارجا من البيت من عمل . ورواه الجوزجاني من طرق ، قال وقد قال عليه السلام : ( ( لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ، ولو أن رجلا أمر امرأته أن تنتقل من جبل أسود إلى جبل أحمر أو من جبل أحمر إلى جبل أسود لكان نولها ( أي : حقها ) أن تفعل ذلك ) ) رواه بإسناده . قال : فهذا طاعة فيما لا منفعة فيه فكيف بمؤنة معاشه ؟ قال الشيخ تقي الدين يجب عليها المعروف من مثلها لمثله . قال في الإنصاف : والصواب أن يرجع في ذلك إلى عرف البلد ) ) اهـ .

                          [ ص: 301 ] وما قضى به النبي - صلى الله عليه وسلم - بين بنته وربيبه وصهره ( عليهما السلام ) هو ما تقضي به فطرة الله تعالى ، وهو توزيع الأعمال بين الزوجين ، على المرأة تدبير المنزل والقيام بالأعمال فيه ، وعلى الرجل السعي والكسب خارجه . وهذا هو المماثلة بين الزوجين في الجملة ، وهو لا ينافي استعانة كل منهما بالخدم والأجراء عند الحاجة إلى ذلك مع القدرة عليه ، ولا مساعدة كل منهما للآخر في عمله أحيانا إذا كانت هناك ضرورة ، وإنما ذلك هو الأصل والتقسيم الفطري الذي تقوم به مصلحة الناس وهم لا يستغنون في ذلك ولا في غيره عن التعاون ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) ( 2 : 286 ) ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله ) ( 5 : 2 ) .

                          وما قاله الشيخ تقي الدين وما بينه به في الإنصاف من الرجوع إلى العرف لا يعدو ما في الآية قيد شعرة . وإذا أردت أن تعرف مسافة البعد بين ما يعمل أكثر المسلمين وما يعتقدون من شريعتهم ، فانظر في معاملتهم لنسائهم تجدهم يظلمونهن بقدر الاستطاعة لا يصد أحدهم عن ظلم امرأته إلا العجز ، ويحملونهن ما لا يحملنه إلا بالتكلف والجهد ، ويكثرون الشكوى من تقصيرهن ، ولئن سألتهم عن اعتقادهم فيما يجب لهم عليهن ليقولن كما يقول أكثر فقهائهم : إنه لا يجب لنا عليهن خدمة ، ولا طبخ ، ولا غسل ، ولا كنس ولا فرش ، ولا إرضاع طفل ، ولا تربية ولد ، ولا إشراف على الخدم الذين نستأجرهم لذلك ، إن يجب عليهن إلا المكث في البيت والتمكين من الاستمتاع ، وهذا الأمران عدميان; أي : عدم الخروج من المنزل بغير إذن ، وعدم المعارضة بالاستمتاع ، فالمعنى أنه لا يجب عليهن للرجال عمل قط ، ولا للأولاد مع وجود آبائهم أيضا . وأقول : إن هذه مبالغة في إعفائهن من التكاليف الواجبة عليهن في حكم الشرع والعرف ، يقابلها المبالغة في وضع التكاليف عليهن بالفعل ، ولكن الجاهلين بالمذاهب الفقهية يتهمون رجالها بهضم حقوق النساء ، وما هو إلا غلبة التقاليد والعادات مع عموم الجهل .

                          وأما قوله تعالى : ( وللرجال عليهن درجة ) فهو يوجب على المرأة شيئا وعلى الرجال أشياء; ذلك أن هذه الدرجة هي درجة الرياسة والقيام على المصالح المفسرة بقوله تعالى : ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ) ( 4 : 34 ) فالحياة الزوجية حياة اجتماعية ولا بد لكل اجتماع من رئيس; لأن المجتمعين لا بد أن تختلف آراؤهم ورغباتهم في بعض الأمور ، ولا تقوم مصلحتهم إلا إذا كان لهم رئيس يرجع إلى رأيه في الخلاف; لئلا يعمل كل على ضد الآخر فتنفصم عروة الوحدة الجامعة ، ويختل النظام ، والرجل أحق بالرياسة لأنه أعلم بالمصلحة ، وأقدر على التنفيذ بقوته وماله ، ومن ثم كان هو المطالب شرعا بحماية المرأة والنفقة عليها ، وكانت هي مطالبة بطاعته في المعروف [ ص: 302 ] فإن نشزت عن طاعته كان له تأديبها بالوعظ والهجر والضرب غير المبرح - إن تعين - تأديبا ، يجوز ذلك لرئيس البيت لأجل مصلحة العشيرة وحسن العشرة ، كما يجوز مثله لقائد الجيش ولرئيس الأمة ( الخليفة أو السلطان ) لأجل مصلحة الجماعة ، وأما الاعتداء على النساء لأجل التحكم أو التشفي أو شفاء الغيظ فهو من الظلم الذي لا يجوز بحال ، قال - صلى الله عليه وسلم - : ( ( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته ، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها - إلى أن قال - فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ) ) متفق عليه من حديث ابن عمر .

                          وسيأتي تفصيل لهذه السلطة في سورة النساء إن شاء الله تعالى .

                          وختم الآية بقوله عز وجل : ( والله عزيز حكيم ) قال الأستاذ الإمام : إن لذكر العزة والحكمة هاهنا وجهين : ( أحدهما ) إعطاء المرأة من الحقوق على الرجل مثل ما له عليها بعد أن كانت مهضومة الحقوق عند العرب وجميع الأمم . ( والثاني ) جعل الرجل رئيسا عليها ، فكأن من لم يرض بهذه الأحكام الحكيمة يكون منازعا لله تعالى في عزة سلطانه ، ومنكرا لحكمته في أحكامه فهي تتضمن الوعيد على المخالفة كما عهدنا من سنة القرآن .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية