الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه قيل : إن المراد بالشيطان هنا شيطان الإنس الذي غش المسلمين وخوفهم ليخذلهم ، واختلف في تعيينه فقيل هو أبو سفيان ، فإنه أراد بعد أحد أن يكر ليستأصل المسلمين ، وأرسل إليهم يخوفهم في بدر الثانية أو الصغرى . وقيل هو نعيم بن مسعود الذي أرسله أبو سفيان ليثبط المسلمين عن الخروج إلى بدر الموعد ( وقد أسلم نعيم يوم الأحزاب ) وقيل هو وفد عبد القيس على الخلاف الذي تقدم ذكره في سبب النزول ، وقيل بل المراد به شيطان الجن الذي يوسوس في صدور الناس على حد : الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء [ 2 : 268 ] والمعنى على الأول : ليس ذلك الذي قال لكم إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم أو من أوعز إليه بأن يقول ذلك أو من وسوس به إلا الشيطان يخوفكم أولياءه وهم مشركو مكة يوهمكم أنهم جمع كثير أولو بأس شديد ، وأن من مصلحتكم أن تقعدوا عن لقائهم وتجبنوا عن مدافعتهم . والمعنى على الثاني : أن الشيطان يخوف أولياءه ولا سلطان له على أولياء الله المؤمنين فهو عاجز عن تخويفهم . وفي التفسير الكبير للرازي أنه يخوف أولياءه المنافقين فيسول لهم القعود عن قتال المشركين ، ويزين لهم خذلان المسلمين . وإذا صح هذا من جهة المعنى فإن الإشارة فيه ليست جلية كجلائها في الوجه الأول ولا الثاني أيضا ، ولا يظهر عليه قوله : فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين لأن المنافقين لم يكونوا بحيث يخاف المؤمنون منهم فينهون عن ذلك .

                          أي لا تحفلوا بقولهم : فاخشوهم فتخافوهم بل خافوني أنا لأنكم أوليائي وأنا وليكم وناصركم إن كنتم راسخين في الإيمان قائمين بحقوقه .

                          قال الأستاذ الإمام : في الآية التنبيه إلى الموازنة بين أولياء الشيطان من مشركي مكة وغيرهم . وبين ولي المؤمنين القادر على كل شيء كأنه يقول : عليكم أن توازنوا بين قوتي [ ص: 201 ] وقوتهم ، ونصرتي ونصرتهم ، فأنا الذي وعدتكم النصر ، وأنا وليكم ونصيركم ما أطعتموني ، وأطعتم رسولي ، وفي هذا المقام شبهة تعرض لبعضهم ، يقولون : إن تكليف عدم الخوف من تكليف ما لا يستطاع ، ولا يدخل في الوسع ، فإن الإنسان إذا علم أن العدد الكثير ذا العدد العظيمة يريد أن يواثبه وينزل به العذاب بأن رآه ، أو سمع باستعداده من الثقات ، فإنه لا يستطيع ألا يخافه ، فكان الظاهر أن يؤمروا بإكراه النفس على المقاومة ، والمدافعة مع الخوف لا أن ينهوا عن الخوف . والجواب : أن هذه الشبهة حجة الجبناء فهي لا تطوف إلا في خيال الجبان ; فإن أعمال النفس من الخوف ، والحزن ، والفرح يتراءى أنها اضطرارية ، وأن آثارها كائنة لا محالة مهما حدث سببها ، والحقيقة أن ذلك اختياري من وجهين : ( أحدهما ) أن هذه الأمور تأتي بالعادة والمزاولة ، ولذلك تختلف الشعوب والأجيال ، فمن اعتاد الإحجام عند الحاجة إلى الدفاع يصير جبانا ، والعادات خاضعة للاختيار بالتربية والتمرين ، ففي استطاعة الإنسان أن يقاوم أسباب الخوف ، ويعود نفسه الاستهانة بها ، ( وثانيهما ) أن هذه الأمور إذا حدثت بأسبابها فالإنسان مختار في الإسلاس لها ، والاسترسال معها حتى يتمكن أثرها في النفس ، وتتجسم صورتها في الخيال ، ومختار في ضد ذلك ، وهو مغالبتها ، والتعمل في صرفها وشغل النفس بما يضادها ، ويذهب بأثرها ، أو يتبدل به أثرا آخر مناقضا له ، فهذا الأمر الاختياري هو مناط التكليف ، كأنه يقول : إذا عرضت لكم أسباب الخوف فاستحضروا في نفوسكم قدرة الله على كل شيء ، وكونه بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه ، وتذكروا وعده بنصركم ، وإظهار دينكم على الدين كله وأن الحق يدمغ الباطل ، فإذا هو زاهق ، وتذكروا قوله : كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين [ 2 : 249 ] ثم خذوا أهبتكم ، وتوكلوا على ربكم ، فإنه لا يدع لخوف غيره مكانا في قلوبكم اهـ . بتصرف منه ، إن مقولة : " كأنه يقول " من عندي لأنني لم أكتب ما قاله - رحمه الله - فيه ، وإنما تركت له بياضا لأكتبه في وقت الفراغ ، ثم نسيته ، ومراده أن الوجه الأول إنما يتعلق به الاختيار في التربية التدريجية ، والثاني يتعلق به الاختيار فورا في كل وقت . وقد قلت في هذا المعنى شعرا في الحزن من مرثية نظمتها في أيام التحصيل وهو :

                          أطبيعة ، ذا الحزن ليس يشذ عن ناموسه فرد من الأفراد أم ذاك مما أوجبته شرائع الأ ( م ) ديان من هدى لنا ورشاد أم ذلك العقل السليم قضى على كل الشعوب بهذه الأصفاد كلا ، فليس لأمر ضربة لازب لكنه ضرب من المعتاد فاخلع سرابيل العوائد إن تكن ليست بنهج العقل ذات سداد وتقلد الحزم الشريف كصارم كيما تنافح جيشها بجهاد

                          [ ص: 202 ] قال الأستاذ الإمام : إن قوله - تعالى - إن كنتم مؤمنين يفيد وجوب توثيق الإيمان بالله في القلب قبل كل شيء ; لأن تلك الخواطر ، والهواجس التي تحدث الخوف من أولياء الشيطان لا يمحوها من لوح القلب إلا الإيمان الصحيح الثابت ، وفي قوله : إن كنتم إشارة إلى أن إيمان من يرجح الخوف من أولياء الشيطان على الخوف من الله - تعالى - مشكوك فيه .

                          أقول : فليزن كل مؤمن نفسه بهذه الآية ويقارن بين عمله ، وعمل الصحابة الكرام وبين إيمانه ، وإيمانهم ، لكيلا يكون من المغرورين .

                          من تدبر هذه الآية حق التدبر علم أن المؤمن الصادق لا يكون جبانا ، فالشجاعة وصف ثابت للمؤمنين ، إذا شاركهم فيه غيرهم فإنه لا يدرك فيه مداهم ، ولا يبلغ شأوهم . ومن بحث عن علل الأشياء يرى أن علة الجبن هي الخوف من الموت والحرص على الحياة ، وكل من الخوف والحرص مما يتسع له قلب المؤمن كقلب غيره . قال - تعالى - في سياق الكلام على اليهود : ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر [ 2 : 96 ] ولا يزال العالم كله يشهد أن الجيش الإسلامي أشجع جيوش الملل كلها ، هذا مع ما مني به المسلمون من ضعف الإيمان ، والجهل بالإسلام " هذا وما ، فكيف لو " .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية