الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا .

                          لما نهى الله تعالى كلا من الرجال والنساء عن تمني ما فضل به بعضهم على بعض ، وأرشدهم إلى الاعتماد في أمر الرزق على كسبهم ، وأمرهم أن يؤتوا الوارث نصيبهم ، ولما كان من جملة أسباب هذا البيان ذكر تفضيل الرجال على النساء في الميراث والجهاد كان لسائل هنا أن يسأل عن سبب هذا الاختصاص ، وكان جواب سؤاله قوله تعالى : الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ، أي : إن من شأنهم المعروف المعهود القيام على النساء بالحماية والرعاية والولاية والكفاية ، ومن لوازم ذلك أن يفرض عليهم الجهاد دونهن ، فإنه يتضمن الحماية لهن ، وأن يكون حظهم من الميراث أكثر من حظهن ; لأن عليهم من النفقة ما ليس عليهن ، وسبب ذلك أن الله تعالى فضل الرجال على النساء في أصل الخلقة ، [ ص: 56 ] وأعطاهم ما لم يعطهن من الحول والقوة ، فكان التفاوت في التكاليف والأحكام أثر التفاوت في الفطرة والاستعداد ، وثم سبب آخر كسبي يدعم السبب الفطري ، وهو ما أنفق الرجال على النساء من أموالهم ; فإن المهور تعويض للنساء ومكافأة على دخولهن بعقد الزوجية تحت رياسة الرجال ، فالشريعة كرمت المرأة إذ فرضت لها مكافأة عن أمر تقتضيه الفطرة ، ونظام المعيشة وهو أن يكون زوجها قيما عليها ، فجعل هذا الأمر من قبيل الأمور العرفية التي يتواضع الناس عليها بالعقود لأجل المصلحة ، كأن المرأة تنازلت باختيارها عن المساواة التامة ، وسمحت بأن يكون للرجل عليها درجة واحدة هي درجة القيامة والرياسة ، ورضيت بعوض مالي عنها ، فقد قال تعالى : ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة ( 2 : 228 ) ، فالآية أوجبت لهم هذه الدرجة التي تقتضيها الفطرة ; لذلك كان من تكريم المرأة إعطاؤها عوضا ومكافأة في مقابلة هذه الدرجة وجعلها بذلك من قبيل الأمور العرفية ؛ لتكون طيبة النفس مثلجة الصدر قريرة العين ، ولا يقال : إن الفطرة لا تجبر المرأة على قبول عقد يجعلها مرءوسة للرجل بغير عوض ، فإنا نرى النساء في بعض الأمم يعطين الرجال المهور ليكن تحت رياستهم ، فهل هذا إلا بدافع الفطرة الذي لا يستطيع عصيانه إلا بعض الأفراد ، وقد سبق لنا في بيان حكمة تسمية المهور أجورا من عهد قريب نحوا مما تقدم هنا ، وهو ظاهر جلي ، وإن لم يهتد إليه من عرفت من المفسرين ، وجعل بعضهم إنفاق الأموال هنا شاملا للمهر ، ولما يجب من النفقة على المرأة بعد الزواج .

                          الأستاذ الإمام : المراد بالقيام هنا هو الرياسة التي يتصرف فيها المرءوس بإرادته واختياره ، وليس معناها أن يكون المرءوس مقهورا مسلوب الإرادة لا يعمل عملا إلا ما يوجهه إليه رئيسه ، فإن كون الشخص قيما على آخر هو عبارة عن إرشاده والمراقبة عليه في تنفيذ ما يرشده إليه أي : ملاحظته في أعماله وتربيته ، ومنها حفظ المنزل وعدم مفارقته ولو لنحو زيارة أولي القربى إلا في الأوقات والأحوال التي يأذن بها الرجل ويرضى ، أقول : ومنها مسألة النفقة فإن الأمر فيها للرجل ، فهو يقدر للمرأة تقديرا إجماليا يوما يوما أو شهرا شهرا أو سنة سنة ، وهي تنفذ ما يقدره على الوجه الذي ترى أنه يرضيه ويناسبه حاله من السعة والضيق .

                          قال : والمراد بتفضيل بعضهم على بعض تفضيل الرجال على النساء ، ولو قال : " بما فضلهم عليهن " ، أو قال : " بتفضيلهم عليهن " لكان أخصر وأظهر فيما قلنا إنه المراد ، وإنما الحكمة في هذا التعبير هي عين الحكمة في قوله : ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ( 4 : 32 ) ، وهي إفادة أن المرأة من الرجل ، والرجل من المرأة بمنزلة الأعضاء من بدن الشخص الواحد ، فالرجل بمنزلة الرأس ، والمرأة بمنزلة البدن ، ( أقول ) : يعني أنه لا ينبغي للرجل أن يبغي بفضل قوته على المرأة ، ولا للمرأة أن تستثقل فضله وتعده خافضا لقدرها ، فإنه لا عار [ ص: 57 ] على الشخص أن كان رأسه أفضل من يده ، وقلبه أشرف من معدته مثلا ; فإن تفضل بعض أعضاء البدن على بعض بجعل بعضها رئيسا دون بعض ـ إنما هو لمصلحة البدن كله لا ضرر في ذلك على عضو ما ، وإنما تتحقق وتثبت منفعة جميع الأعضاء بذلك ، كذلك مضت الحكمة في فضل الرجل على المرأة في القوة ، وللقدرة على الكسب والحماية ، ذلك هو الذي يتيسر لها به القيام بوظيفتها الفطرية وهي الحمل والولادة وتربية الأطفال وهي آمنة في سربها ، مكفية ما يهمها من أمر رزقها ، وفي التعبير حكمة أخرى وهي الإشارة إلى أن هذا التفضيل إنما هو للجنس لا لجميع أفراد الرجال على جميع أفراد النساء ، فكم من امرأة تفضل زوجها في العلم والعمل بل في قوة البنية ، والقدرة على الكسب ، ولم ينبه الأستاذ إلى هذا المعنى على ظهوره من العبارة وتصديق الواقع له وإن ادعى بعضهم ضعفه ، وبهذين المعنيين اللذين أفادتهما العبارة ظهر أنها في نهاية الإيجاز الذي يصل إلى حد الإعجاز ؛ لأنها أفادت هذه المعاني كلها ، وقد قلنا في تفسير : ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ، إن التعبير يشمل ما يفضل به كل من الجنس الآخر ، وما يفضل به أفراد كل منهما أفراد جنسه وأفراد الجنس الآخر ، ولا تأتي تلك الصور كلها هنا ، وإن اتحدت العبارة ؛ لأن السياق هناك غيره هنا ، على أننا أشرنا ثمة إلى ضعف صورة فضل النساء على الرجال بما هو خاص بهن من الحمل ، والولادة ، والرجال لا يتمنون ذلك ، ونعود إلى كلام الأستاذ .

                          قال : وما به الفضل قسمان : فطري وكسبي ، فالفطري : هو أن مزاج الرجل أقوى وأكمل وأتم وأجمل ، وإنكم لتجدون من الغرابة أن أقول : إن الرجل أجمل من المرأة ، وإنما الجمال تابع لتمام الخلقة وكمالها ، وما الإنسان في جسمه الحي إلا نوع من أنواع الحيوان ، فنظام الخلقة فيها واحد ، وإننا نرى ذكور جميع الحيوانات أكمل وأجمل من إناثها ، كما ترون في الديك والدجاجة ، والكبش والنعجة ، والأسد واللبؤة ، ومن كمال خلقة الرجال وجمالها شعر اللحية والشاربين ، ولذلك يعد الأجرد ناقص الخلقة ، ويتمنى لو يجد دواء ينبت الشعر وإن كان ممن اعتادوا حلق اللحى ، ويتبع قوة المزاج وكمال الخلقة قوة العقل ، وصحة النظر في مبادئ الأمور وغاياتها ، ومن أمثال الأطباء : العقل السليم في الجسم السليم .

                          ويتبع ذلك الكمال في الأعمال الكسبية ، فالرجال أقدر على الكسب والاختراع والتصرف في الأمور ; أي : فلأجل هذا كانوا هم المكلفين أن ينفقوا على النساء ، وأن يحموهن ويقوموا بأمر الرياسة العامة في مجتمع العشيرة التي يضمها المنزل ; إذ لا بد في كل مجتمع من رئيس يرجع إليه في توحيد المصلحة العامة ، انتهى بزيادة وإيضاح .

                          أقول : ويتبع هذه الرياسة جعل عقدة النكاح في أيدي الرجال هم الذين يبرمونها برضا النساء ، وهم الذين يحلونها بالطلاق ، وأول ما يذكره جمهور المفسرين المعروفين [ ص: 58 ] في هذا التفضيل النبوة والإمامة الكبرى والصغرى ، وإقامة الشعائر كالأذان والإقامة والخطبة في الجمعة ، وغيرها ، ولا شك أن هذه المزايا تابعة لكمال استعداد الرجال ، وعدم الشاغل لهما عن هذه الأعمال ، على ما في النبوة من الاصطفاء والاختصاص ، ولكن ليست هي أسباب قيام الرجال على شئون النساء ، وإنما السبب هو ما أشير إليه بباء السببية ؛ لأن النبوة اختصاص لا يبنى عليها مثل هذا الحكم ، كما أنه لا يبنى عليها أن كل رجل أفضل من كل امرأة ; لأن الأنبياء كانوا رجالا ، وأما الإمامة والخطبة وما في معناهما مما ذكروه ; فإنما كان للرجال بالوضع الشرعي ، فلا يقتضي أن يميزوا بكل حكم ، ولو جعل الشرع للنساء أن يخطبن في الجمعة والحج ، ويؤذن ويقمن الصلاة لما كان ذلك مانعا أن يكون من مقتضى الفطرة أن يكون الرجال قوامين عليهن ، ولكن أكثر المفسرين يغفلون عن الرجوع إلى سنن الفطرة في تعليل حكمة أحكام دين الفطرة ، ويلتمسون ذلك كله من أحكام أخرى .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية