الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ) بين الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أنه أخذ الميثاق على أهل الكتاب من اليهود والنصارى من قبل ، كما أخذه على هذه الأمة الآن ، وأنهم نقضوا ميثاقه ، وأضاعوا حظا عظيما مما أوحاه تعالى إليهم ، ولم يقيموا ما حفظوه منه . وهذا البيان من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم التي هي من معجزات القرآن الكثيرة . ثم ناداهم بعد ذلك ، ووجه إليهم الخطاب في إقامة الحجة عليهم بقوله ، عز وجل : ( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ) قيل : إن هذه الآية نزلت في قصة إخفاء اليهود حكم رجم الزاني حين تحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وستأتي القصة في هذه السورة . والصواب أن الآية على [ ص: 251 ] إطلاقها ، فكان رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم قد بين لأهل الكتاب كثيرا من الأحكام والمسائل ، التي كانوا يخفونها مما أنزل الله عليهم ، منها حكم رجم الزاني ، وهو مما حفظوه من أحكام التوراة ( كما تراه في 22 : 20 - 24 من سفر التثنية ) ولم يلتزموا العمل به ، وأنكروه أمام النبي صلى الله عليه وسلم فأقسم على عالمهم ابن صوريا وناشده الله حتى اعترف به . فهذا مما كانوا يخفونه عند وجوب العمل به أو الفتوى ، وكذلك أخفوا صفات النبي صلى الله عليه وسلم والبشارات به ، وحرفوها بالحمل على معان أخرى ، اليهود والنصارى في هذا سواء ، وهذا النوع غير ما أضاعوه من كتبهم ونسوه ألبتة ; كنسيان اليهود ما جاء في التوراة من خبر الحساب والجزاء في الآخرة ، وما أظهره لهم الرسول مما كانوا يخفونه عنه وعن المسلمين - كانت الحجة عليهم فيه أقوى ; لأنهم كانوا يعلمون أنه أمي لم يطلع على شيء من كتبهم ; ولهذا آمن من آمن من علماء اليهود المنصفين ، واعترفوا بعد إيمانهم بما بقي عندهم من البشارات وصفات النبي صلى الله عليه وسلم .

                          ( ويعفو عن كثير ) مما كنتم تخفونه ، فلا يفضحكم ببيانه ، وهذا النص حجة عليهم أيضا ; لأنهم يعلمون أنهم يخفون عن المسلمين وعن عامتهم كثيرا من المسائل ; لئلا يكون حجة عليهم إذ هم لا يعلمون به ، كدأب علماء السوء في كل أمة ؛ يكتمون من العلم ما يكون حجة عليهم ، كاشفا عن سوء حالهم ، أو يحرفونه تحريفا معنويا بحمله على غير معناه المراد .

                          ( قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ) في المراد بالنور هنا ثلاثة أقوال : أحدها : أنه النبي صلى الله عليه وسلم . ثانيها : أنه الإسلام . ثالثها : أنه القرآن . ووجه تسمية كل من هذه الثلاثة نورا هو أنها للبصيرة كالنور للبصر ، فلولا النور لما أدرك البصر شيئا من المبصرات ، ولولا ما جاء به النبي من القرآن والإسلام لما أدرك ذو البصيرة من أهل الكتاب ولا من غيرهم حقيقة دين الله ، وحقيقة ما طرأ على التوراة والإنجيل من ضياع بعضها ونسيانه وعبث رؤساء الدين بالبعض الآخر بإخفاء بعضه وتحريف البعض الآخر ، ولظلوا في ظلمات الجهل والكفر لا يبصرون . والكتاب المبين هو القرآن ، وهو بين في نفسه ، مبين لما يحتاج إليه الناس لهدايتهم ، ولولا عطفه على النور لما فسروا النور إلا به ، فإن الأصل في العطف أن يكون المعطوف غير المعطوف عليه ، ولكن العطف قد يرد للتفسير ، وهو الذي أختاره هنا لتوافق هذه الآية وما بعدها قوله تعالى في أواخر سورة النساء : ( ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما ) ( 4 : 174 ، 175 ) وقد قال هنا بعد ذكر هذا النور : [ ص: 252 ] ( يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ) فبين مزية النور والكتاب المبين بضمير المفرد فقال : ( يهدي به ) ولم يقل " بهما " ، فكان هذا مرجحا لكون المراد بهما واحدا ، وهو القرآن . وثم شواهد أخرى تؤيد ما اخترناه غير آيتي النساء ؛ كقوله تعالى في المهتدين من أهل الكتاب في سورة الأعراف بعد ذكر بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم : ( فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولـئك هم المفلحون ) ( 7 : 157 ) وكقوله تعالى في سورة التغابن : ( فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا ) ( 64 : 8 ) على أن هذا المعنى لا يتغير إذا قلنا : إن النور هنا هو النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه هو المظهر الأكمل للقرآن ببيانه له ، وتخلقه به ، كما قالت عائشة رضي الله عنها : " كان خلقه القرآن " ، ولا نعدم لذلك شاهدا من آياته ، فقد وصفه الله تعالى في سورة الأحزاب بقوله : ( وسراجا منيرا ) ( 33 : 46 ) .

                          وليرجع القارئ إلى تفسيرنا لآيتي النساء اللتين ذكرناهما آنفا ، فقد بينا في تفسيرهما معنى كون القرآن مبينا بما ينفعه في فهم ما هنا .

                          وقد ذكر الله هنا لهذا النور ثلاث فوائد .

                          ( الفائدة الأولى ) : أنه يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ; أي إن من اتبع منهم ما يرضيه تعالى بالإيمان بهذا النور يهديه - هداية دلالة تصحبها العناية والإعانة - الطرق التي يسلم بها في الدنيا والآخرة من كل ما يرديه ويشقيه ، فيقوم في الدنيا بحقوق الله تعالى وحقوق نفسه الروحية والجسدية وحقوق الناس ، فيكون متمتعا بالطيبات مجتنبا للخبائث ، تقيا مخلصا ، صالحا مصلحا ، ويكون في الآخرة سعيدا منعما ، جامعا بين النعيم الحسي الجسدي والنعيم الروحي العقلي . وخلاصة هذه الفائدة أنه يتبع دينا يجد فيه جميع الطرق الموصلة إلى ما تسلم به النفس من شقاء الدنيا والآخرة ; لأنه دين السلام والإخلاص لله ولعباده ، دين المساواة والعدل والإحسان والفضل .

                          ( الفائدة الثانية ) : الإخراج من ظلمات الوثنية والخرافات والأوهام التي أفسد بها الرؤساء جميع الأديان واستعبدوا أهلها إلى نور التوحيد الخالص الذي يحرر صاحبه من رق رؤساء الدين والدنيا ، فيكون بين الخلق حرا كريما ، وبين يدي الخالق وحده عبدا خاضعا . وقوله : ( بإذنه ) فسروه بمشيئته وبتوفيقه . والإذن العلم . يقال أذن بالشيء : إذا علم به ، وآذنته به : أعلمته فأذن ، ويقال أذن - بالتشديد - وتأذن بمعنى أعلم غيره ، ويقال : أذن له بالشيء : إذا أباحه له ، وأذن له أذنا : استمع ، والظاهر أن الإذن هنا بمعنى العلم ; أي يخرجهم من الظلمات إلى النور بعلمه الذي جعل به هذا القرآن سببا لانقشاع ظلمات الشرك والضلال من نفس [ ص: 253 ] من يهتدي به ، واستبدال نور الحق بها ، بنسخه وإزالته لها ; فهو إخراج يجري على سنن الله تعالى في تأثير العقائد الصحيحة والأخلاق والأعمال الصالحة في النفوس ، وإصلاحها إياها ، لا أنه يحصل بمحض الخلق واستئناف التكوين من غير أن يكون القرآن هو المؤثر فيه .

                          ( الفائدة الثالثة ) : الهداية إلى الصراط المستقيم ، وهو الطريق الموصل إلى المقصد والغاية من الدين في أقرب وقت ; لأنه طريق لا عوج فيه ولا انحراف ، فيبطئ سالكه أو يضل في سيره ، وهو أن يكون الاعتصام بالقرآن على الوجه الصحيح الذي أنزله الله تعالى لأجله ، كما كان عليه أهل الصدر الأول ، قبل ظهور الخلاف والتأويل ; بأن تكون عقائده وآدابه وأحكامه مؤثرة في تزكية الأنفس وإصلاح القلوب وإحسان الأعمال . وثمرة ذلك سعادة الدنيا والآخرة بحسب سنن الله في خلق الإنسان .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية