الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
وقد روى عبد الرزاق في " تفسيره " : حدثنا الثوري عن ابن عباس ، " أنه قسم التفسير إلى أربعة أقسام : قسم تعرفه العرب في كلامها ، وقسم لا يعذر أحد بجهالته ؛ يقول من الحلال والحرام ، وقسم يعلمه العلماء خاصة ، وقسم لا يعلمه إلا الله ، ومن ادعى علمه فهو كاذب . وهذا تقسيم صحيح .

فأما الذي تعرفه العرب ، فهو الذي يرجع فيه إلى لسانهم ، وذلك شأن اللغة والإعراب . فأما اللغة فعلى المفسر معرفة معانيها ، ومسميات أسمائها ، ولا يلزم ذلك القارئ . ثم إن كان ما تتضمنه ألفاظها يوجب العمل دون العلم ، كفى فيه خبر الواحد والاثنين والاستشهاد بالبيت والبيتين ، وإن كان مما يوجب العلم دون العمل لم يكف ذلك ، بل لا بد أن يستفيض ذلك اللفظ ، وتكثر شواهده من الشعر .

وأما الإعراب ؛ فما كان اختلافه محيلا للمعنى وجب على المفسر والقارئ تعلمه ، ليتوصل المفسر إلى معرفة الحكم ، وليسلم القارئ من اللحن ، وإن لم يكن محيلا للمعنى [ ص: 307 ] وجب تعلمه على القارئ ليسلم من اللحن ، ولا يجب على المفسر ليتوصل إلى المقصود دونه ؛ على أن جهله نقص في حق الجميع .

إذا تقرر ذلك ؛ فما كان من التفسير راجعا إلى هذا القسم فسبيل المفسر التوقف فيه على ما ورد في لسان العرب ، وليس لغير العالم بحقائق اللغة ومفهوماتها تفسير شيء من الكتاب العزيز ، ولا يكفي في حقه تعلم اليسير منها ، فقد يكون اللفظ مشتركا وهو يعلم أحد المعنيين .

الثاني : ما لا يعذر واحد بجهله ، وهو ما تتبادر الأفهام إلى معرفة معناه من النصوص المتضمنة شرائع الأحكام ودلائل التوحيد ؛ وكل لفظ أفاد معنى واحدا جليا لا سواه يعلم أنه مراد الله - تعالى . فهذا القسم لا يختلف حكمه ، ولا يلتبس تأويله ، إذ كل أحد يدرك معنى التوحيد من قوله - تعالى - : فاعلم أنه لا إله إلا الله ( محمد : 19 ) وأنه لا شريك له في إلهيته ، وإن لم يعلم أن " لا " موضوعة في اللغة للنفي ، و " إلا " للإثبات وأن مقتضى هذه الكلمة الحصر ، ويعلم كل أحد بالضرورة أن مقتضى قوله - تعالى - : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ( البقرة : 43 ) ونحوها من الأوامر - طلب إدخال ماهية المأمور به في الوجود ، وإن لم يعلم أن صيغة " افعل " مقتضاها الترجيح وجوبا أو ندبا ، فما كان من هذا القسم لا يقدر أحد يدعي الجهل بمعاني ألفاظه ، لأنها معلومة لكل أحد بالضرورة .

الثالث : ما لا يعلمه إلا الله - تعالى - فهو ما يجري مجرى الغيوب نحو الآي المتضمنة قيام الساعة ونزول الغيث وما في الأرحام ، وتفسير الروح ، والحروف المقطعة . وكل متشابه في القرآن عند أهل الحق فلا مساغ للاجتهاد في تفسيره ، ولا طريق إلى ذلك إلا بالتوقيف من أحد ثلاثة أوجه : إما نص من التنزيل ، أو بيان من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو إجماع الأمة على تأويله ؛ فإذا لم يرد فيه توقيف من هذه الجهات علمنا أنه مما استأثر الله - تعالى - بعلمه .

والرابع : ما يرجع إلى اجتهاد العلماء ، وهو الذي يغلب عليه إطلاق التأويل ؛ [ ص: 308 ] وهو صرف اللفظ إلى ما يؤول إليه فالمفسر ناقل ، والمؤول مستنبط ، وذلك استنباط الأحكام ، وبيان المجمل ، وتخصيص العموم . وكل لفظ احتمل معنيين فصاعدا فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه ، وعلى العلماء اعتماد الشواهد والدلائل ، وليس لهم أن يعتمدوا مجرد رأيهم فيه ، على ما تقدم بيانه .

وكل لفظ احتمل معنيين ، فهو قسمان : أحدهما : أن يكون أحدهما أظهر من الآخر ، فيجب الحمل على الظاهر إلا أن يقوم دليل على أن المراد هو الخفي دون الجلي فيحمل عليه .

الثاني : أن يكونا جليين والاستعمال فيهما حقيقة . وهذا على ضربين :

أحدهما : أن تختلف أصل الحقيقة فيهما ، فيدور اللفظ بين معنيين ؛ هو في أحدهما حقيقة لغوية ، وفي الآخر حقيقة شرعية ، فالشرعية أولى إلا أن تدل قرينته على إرادة اللغوية ، نحو قوله - تعالى - : وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ( التوبة : 103 ) وكذلك إذا دار بين اللغوية والعرفية ، فالعرفية أولى لجريانها على اللغة ، ولو دار بين الشرعية والعرفية ، فالشرعية أولى لأن الشرع ألزم .

الضرب الثاني : لا تختلف أصل الحقيقة ، بل كلا المعنيين استعمل فيهما ، في اللغة أو في الشرع أو العرف على حد سواء . وهذا أيضا على ضربين :

أحدهما : أن يتنافيا اجتماعا ، ولا يمكن إرادتهما باللفظ الواحد ، كالقرء ؛ حقيقة في الحيض والطهر ، فعلى المجتهد أن يجتهد في المراد منهما بالأمارات الدالة عليه ؛ فإذا وصل إليه كان هو مراد الله في حقه ، وإن اجتهد مجتهد آخر فأدى اجتهاده إلى المعنى الآخر كان ذلك مراد الله - تعالى - في حقه ؛ لأنه نتيجة اجتهاده ، وما كلف به ، فإن لم يترجح أحد الأمرين لتكافؤ الأمارات ، فقد اختلف أهل العلم ؛ فمنهم من قال : يخير في الحمل على أيهما شاء ، ومنهم من قال : يأخذ بأعظمهما حكما ، ولا يبعد اطراد وجه ثالث ، وهو أن يأخذ بالأخف ؛ كاختلاف جواب المفتين .

الضرب الثاني : ألا يتنافيا اجتماعا ، فيجب الحمل عليهما عند المحققين ، [ ص: 309 ] ويكون ذلك أبلغ في الإعجاز والفصاحة ، وأحفظ في حق المكلف ؛ إلا أن يدل دليل على إرادة أحدهما . وهذا أيضا ضربان :

أحدهما : أن تكون دلالته مقتضية لبطلان المعنى الآخر ، فيتعين المدلول عليه للإرادة .

الثاني : ألا يقتضي بطلانه ، وهذا اختلف العلماء فيه ، فمنهم من قال : يثبت حكم المدلول عليه ويكون مرادا ، ولا يحكم بسقوط المعنى الآخر ، بل يجوز أن يكون مرادا أيضا ، وإن لم يدل عليه دليل من خارج لأن موجب اللفظ عليهما فاستويا في حكمه ، وإن ترجح أحدهما بدليل من خارج . ومنهم من قال : ما ترجح بدليل من خارج أثبت حكما من الآخر ؛ لقوته بمظاهرة الدليل الآخر .

فهذا أصل نافع معتبر في وجوه التفسير في اللفظ المحتمل ، والله أعلم .

إذا تقرر ذلك فينزل قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من تكلم في القرآن بغير علم ، فليتبوأ مقعده من النار ) على قسمين من هذه الأربعة :

أحدهما : تفسير اللفظ لاحتياج المفسر له إلى التبحر في معرفة لسان العرب .

الثاني : حمل اللفظ المحتمل على أحد معنييه لاحتياج ذلك إلى معرفة أنواع من العلوم : علم العربية واللغة والتبحر فيهما ، ومن علم الأصول ما يدرك به حدود الأشياء ، وصيغ الأمر والنهي والخبر ، والمجمل والمبين ، والعموم والخصوص ، والظاهر والمضمر ، والمحكم والمتشابه والمؤول ، والحقيقة والمجاز ، والصريح والكناية ، والمطلق والمقيد ، ومن علوم الفروع ما يدرك به استنباطا ، والاستدلال على هذا أقل ما يحتاج إليه . ومع ذلك فهو على خطر ، فعليه أن يقول : يحتمل كذا ولا يجزم إلا في حكم اضطر إلى الفتوى به ، فأدى اجتهاده إليه ، فيحرم خلافه مع تجويز خلافه عند الله .

فإن قيل : فقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ما نزل من القرآن من آية إلا ولها ظهر وبطن ، ولكل حرف حد ، ولكل حد مطلع ، فما معنى ذلك ؟

قلت : أما قوله : " ظهر وبطن " ففي تأويله أربعة أقوال : أحدها - وهو قول الحسن - [ ص: 310 ] إنك إذا بحثت عن باطنها وقسته على ظاهرها وقفت على معناها . والثاني : - قول أبي عبيد - إن القصص ظاهرها الإخبار بهلاك الأولين ، وباطنها عظة للآخرين . الثالث : - قول ابن مسعود رضي الله عنه - إنه ما من آية إلا عمل بها قوم ، ولها قوم سيعملون بها . الرابع : - قاله بعض المتأخرين - إن ظاهرها لفظها ، وباطنها تأويلها . وقول أبي عبيد أقربها .

وأما قوله : " ولكل حرف حد " ففيه تأويلان :

أحدهما : لكل حرف منتهى فيما أراد الله من معناه . الثاني : معناه أن لكل حكم مقدارا من الثواب والعقاب .

وأما قوله : ولكل حد مطلع ، ففيه قولان :

أحدهما : لكل غامض من المعاني والأحكام مطلع يتوصل إلى معرفته ، ويوقف على المراد به .

والثاني : لكل ما يستحقه من الثواب والعقاب مطلع يطلع عليه في الآخرة ، ويراه عند المجازاة .

وقال بعضهم : منه ما لا يعلم تأويله إلا الله الواحد القهار ، وذلك آجال حادثة في أوقات آتية ، كوقت قيام الساعة ، والنفخ في الصور ، ونزول عيسى ابن مريم ، وما أشبه ذلك .

لقوله : لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض ( الأعراف : 187 ) ومنه ما يعلم تأويله كل ذي علم باللسان الذي نزل به القرآن ، وذلك إبانة غرائبه ، ومعرفة المسميات بأسمائها اللازمة غير المشتركة منها ، أو الموصوفات بصفاتها الخاصة دون ما سواها ، فإن ذلك لا يجهله أحد منهم ، وذلك كسامع منهم لو سمع تاليا يتلو : وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ( البقرة : 11 و 12 ) لم يجهل أن معنى الفساد هو ما ينبغي تركه مما هو [ ص: 311 ] مضرة ، وأن الصلاح مما ينبغي فعله مما هو منفعة ، وإن جهل المعاني التي جعلها الله إفسادا والمعاني التي جعلها الله إصلاحا . فأما تعليم التفسير ونقله عمن قوله حجة ففيه ثواب وأجر عظيم ، كتعليم الأحكام من الحلال والحرام .

تنبيه

التالي السابق


الخدمات العلمية