الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
4552 - وعن زينب امرأة عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن عبد الله رأى في عنقي خيطا ، فقال : ما هذا ؟ فقلت : خيط رقي لي فيه قالت : فأخذه فقطعه ، ثم قال : أنتم آل عبد الله لأغنياء عن الشرك ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الرقى والتمائم والتولة شرك " فقلت : لم تقول هكذا ؟ لقد كانت عيني تقذف ، وكنت أختلف إلى فلان اليهودي ، فإذا رقاها سكنت ، فقال عبد الله : إنما ذلك عمل الشيطان ، كان ينخسها بيده ، فإذا رقي كف عنها ، إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " اذهب البأس ، رب الناس واشف أنت الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك ، شفاء لا يغادر سقما " . رواه أبو داود .

التالي السابق


4552 - ( وعن زينب امرأة عبد الله بن مسعود ) : قال المصنف : هي بنت عبد الله بن معاوية الثقفية ، روى عنها زوجها ، وأبو سعيد ، وأبو هريرة ، وعائشة - رضي الله عنهم - . ( أن عبد الله ) : أي : ابن مسعود ، فإنه المراد عند الإطلاق في اصطلاح المحدثين ( رأى في عنقي خيطا ) : أي : معلقا ( فقال : ما هذا ؟ ) : أي : الخيط أو الفعل ( قالت : خيط رقي لي فيه ) : بصيغة المجهول ( قالت : فأخذه فقطعه ، ثم قال : أنتم آل عبد الله ) : بنصب آل على حذف حرف النداء أي : يا آل عبد الله ، فأنتم مبتدأ وخبره ( لأغنياء عن الشرك ) : ويجوز دخول لام الابتداء للتأكيد في الخبر كما في حديث " أغبط أوليائي عندي المؤمن خفيف الحاذ ، والجملة الندائية معترضة . وقال الطيبي : منصوبة على الاختصاص . وقال الزجاج ، قال النحاة : أصل هذه اللام أن تقع في الابتداء ووقوعها في الخبر جائز ، قال الطيبي : ويجوز أن يقدر المبتدأ أي : مبتدأ آخر ، أي : لأنتم أغنياء كما قرر الزجاج في قوله تعالى : إن هذان لساحران أي : لهما ساحران اهـ . قال منصوب بأعني أو الاختصاص أو بحرف النداء والمبتدأ الثاني مؤكد للأول ، وقيل خبره " آل عبد الله " على ما في نسخة بالرفع ، ولأغنياء جواب قسم محذوف ، والمراد بالشرك اعتقاد أن ذلك سبب قوي وله تأثير ، فإنه شرك خفي ، وأما إن اعتقد أنه مؤثر ، فإنه شرك جلي .

( سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الرقى ) : أي : رقية فيها اسم صنم أو شيطان أو كلمة كفر أو غيرها مما لا يجوز شرعا ، ومنها ما لم يعرف معناها ( والتمائم ) : جمع التميمة وهي التعويذة التي تعلق على الصبي أطلقه الطيبي ، لكن ينبغي أن يقيد بأن لا يكون فيها أسماء الله تعالى ، وآياته المتلوة ، والدعوات المأثورة ، وقيل : هي خرزات كانت للعرب تعلق على الصبي لدفع العين بزعمهم ، وهو باطل ، ثم اتسعوا فيها حتى سموا بها كل عوذة ذكره بعض الشراح ، وهو كلام حسن ، وتحقيق مستحسن . ( والتولة ) : بكسر التاء ويضم وفتح الواو نوع من السحر قال الأصمعي : هي ما يحبب به المرأة إلى زوجها ذكره الطيبي ، أو خيط يقرأ فيه من السحر ، أو قرطاس يكعب فيه شيء من السحر للمحبة أو غيرها . قيل : وأما التولة بضم التاء وفتح الواو فهي الداهية ، وهذه الأشياء كلها باطلة بإبطال الشرع إياها ، ولذا قال : ( شرك ) : أي : كل واحد منها قد يفضي إلى الشرك إما جليا وإما خفيا . قال القاضي : وأطلق الشرك عليها إما لأن المتعارف منها في عهده ما كان معهودا في الجاهلية ، وكان مشتملا على ما يضمن الشرك ، أو لأن اتخاذها يدل على اعتقاد تأثيرها وهو يفضي إلى الشرك .

قال الطيبي : ويحتمل أن يراد بالشرك اعتقاد أن ذلك سبب قوي ، وله تأثير ، وكان ينافي التوكل والانخراط في الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ، ومن ثم حسن منه قوله : أنتم آل عبد الله

[ ص: 2879 ] لأغنياء أي : أعني وأخص آل عبد الله من بين سائر الأنام ، ومنها قولها ( فقلت : لم تقول هكذا ؟ ) : أي : وتأمرني بالتوكل وعدم الاسترقاء ، فإني وجدت في الاسترقاء فائدة ، لقد كانت عيني تقذف ) : على بناء المجهول أي : ترمى بما يهيج الوجع ذكره التوربشتي ، ويدل عليه قولها الآتي : فإذا رقاها سكنت ، وفي بعض النسخ بصيغة الفاعل أي : ترمى بالرمص أو الدمع ، وهو ماء العين من الوجع ، والرمص : بالصاد المهملة ما جمد من الوسخ في مؤخر العين . قال الطيبي : ويحتمل بناء الفاعل ولا أحقق أحد اللفظين من طريق الرواية إلا أن الأول هو أكثر ظني .

( وكنت أختلف ) : أي : أتردد بالرواح والمجيء ( إلى فلان اليهودي ، فإذا رقاها سكنت ) أي : العين يعني وجعها ( فقال عبد الله : إنما ذلك ) : بكسر الكاف ( عمل الشيطان ) : أي : من فعله وتسويله ، والمعنى أن الوجع الذي كان في عينيك لم يكن وجعا في الحقيقة ، بل ضرب من ضربات الشيطان ونزغاته ( كان ) : أي : الشيطان ( ينخسها ) : بفتح الخاء المعجمة أي : يطعنها ( بيده ، فإذا رقي ) : بصيغة المجهول أي : إذا رقى اليهودي ( كف عنها ) : على بناء المفعول أي : كف الشيطان عن نخسها وترك طعنها ( إنما كان يكفيك أن تقولي ) : أي : عند وجع العين ونحوها ( كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : اذهب ) : أمر من الإذهاب أي : أزل ( البأس ) : بالهمز الساكن ، وقد يبدل أي : الشدة ، وفي المواهب مطابقا لشيخه العسقلاني هو بغير همز لمؤاخاة قوله : ( رب الناس ) : أي : يا خالقهم ومربيهم ( واشف ) : بهمز وصل معطوفا على " اذهب " على أن الجملة الثانية مؤكدة للأولى وهما ممهدتان للثالثة ( أنت الشافي ) : جملة مستأنفة على سبيل الحصر بتعريض الخبر ( لا شفاء إلا شفاؤك ) : بالرفع بدل من موضع لا شفاء على ما في المواهب ( شفاء ) : بالنصب على أنه مصدر لقوله : اشف ، والجملتان معترضتان ( لا يغادر ) : أي : لا يترك ( سقما ) : بفتحتين وبضم وسكون أي مرضا ، والجملة صفة قوله " شفاء " ، فالتنوين فيه للتعظيم . قال الطيبي : وفيه رد لاعتقادها أن رقية اليهودي شافية وإرشاد إلى أن الشفاء الذي لا يغادر سقما هو شفاء الله تعالى ، وأن شفاء اليهودي ليس فيه إلا تسكين ما ، يعني بمعاونة فعل الشيطان كما تقدم والله أعلم . ( رواه أبو داود ) : أي : الحديث بكماله المشتمل على المرفوعين وعلى الموقوف على ابن مسعود ، وإلا فالحديث الأول رواه أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجه ، والحاكم ، وأما الحديث الثاني ، فقد ذكره الجزري في الحصن وقال : رواه البخاري ، ومسلم ، والنسائي عن عائشة أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعود بعض أهله ويمسح بيده اليمنى ويقول : " اللهم اذهب البأس رب الناس ، اشفه وأنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك ، شفاء لا يغادر سقما " .

قال الشيخ ابن حجر العسقلاني قوله : وأنت الشافي كذا لأكثر الرواة بالواو ، ورواه بعضهم بحذفها ، والضمير . في اشفه للتعليل ، أو هي هاء السكت ، ويؤخذ منه جواز تسمية الله تعالى بما ليس في القرآن بشرطين . أحدهما : أن لا يكون في ذلك ما يوهم نقصا ، والثاني أن له أصلا في القرآن ، وهذا من ذلك ، فإن فيه : " وإذا مرضت فهو يشفين " . وقوله : لا شفاء بالمد مبني على الفتح ، وقوله : إلا شفاؤك بالرفع على أنه بدل من موضع لا شفاء ، ووقع في رواية البخاري : لا شافي إلا أنت ، وفيه إشارة إلى أن كل ما يقع من الداء والتداوي لا ينجح إن لم يصادف تقدير الله تعالى ، وقوله : شفاء ، مصدر منصوب لقوله اشفه ، ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ ، أي : هذا أو هو ، وقوله : لا يغادر بالغين المعجمة أي : لا يترك ، وفائدة التقييد بذلك أنه قد يحصل الشفاء من ذلك المرض ، فيخلفه مرض آخر يتولد منه مثلا ، فكان يدعو بالشفاء المطلق لا بمطلق الشفاء والله أعلم . وذكر الجزري في الحصن برواية أحمد ، والنسائي ، عن محمد بن حاطب ، أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرقي المحروق بقوله : " اذهب البأس رب الناس ، اشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت " ، وروى النسائي ، وأبو داود عن أبي الدرداء ، والحاكم عن فضيلة بن عبيد ، أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرقي من احتبس بوله أو أصابته حصاة بقوله : " ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك أمرك في السماء والأرض ، كما رحمتك في السماء ، فاجعل رحمتك في الأرض ، واغفر لنا حوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين ، فأنزل شفاء من شفائك ورحمة من رحمتك على هذا الوجع " فيبرأ .




الخدمات العلمية