الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        معلومات الكتاب

                                        إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

                                        ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

                                        صفحة جزء
                                        219 - الحديث الأول : [ ص: 443 ] عن { أبي شريح - خويلد بن عمرو - الخزاعي العدوي رضي الله عنه : أنه قال لعمرو بن سعيد بن العاص - وهو يبعث البعوث إلى مكة - ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح . فسمعته أذناي . ووعاه قلبي . وأبصرته عيناي ، حين تكلم به : أنه حمد الله وأثنى عليه . ثم قال : إن مكة حرمها الله تعالى ، ولم يحرمها الناس . فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر : أن يسفك بها دما ، ولا يعضد بها شجرة . فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا : إن الله قد أذن لرسوله ، ولم يأذن لكم . وإنما أذن لي ساعة من نهار . وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس . فليبلغ الشاهد الغائب . فقيل لأبي شريح : ما قال لك ؟ قال : أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح إن الحرم لا يعيذ عاصيا ، ولا فارا بدم ولا فارا بخربة } .

                                        التالي السابق


                                        . " الخربة " بالخاء المعجمة والراء المهملة : هي الخيانة . وقيل : البلية وقيل : التهمة . وأصلها في سرقة الإبل . قال الشاعر :

                                        وتلك قربى مثل أن تناسبا أن تشبه الضرائب الضرائبا والخارب اللص يحب الخاربا

                                        .

                                        الكلام عليه من وجوه :

                                        الأول : " أبو شريح " الخزاعي ، ويقال فيه : العدوي ويقال : الكعبي ، اسمه : خويلد بن عمرو - وقيل : عمرو بن خويلد وقيل عبد الرحمن بن عمرو . وقيل هانئ بن عمرو - أسلم قبل فتح مكة . وتوفي بالمدينة سنة ثمان وستين .

                                        [ ص: 444 ] الثاني : قول " ائذن لي أيها الأمير في أن أحدثك " فيه حسن الأدب في المخاطبة للأكابر - لا سيما الملوك - لا سيما فيما يخالف مقصودهم ; لأن ذلك يكون أدعى للقبول ، لا سيما في حق من يعرف منه ارتكاب غرضه ، فإن الغلظة عليه قد تكون سببا لإثارة نفسه ، ومعاندة من يخاطبه .

                                        وقوله " أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم . فسمعته أذناي . ووعاه قلبي " تحقيق لما يريد أن يخبر به . وقوله " سمعته أذناي " نفي لوهم أن يكون رواه عن غيره وقوله " ووعاه قلبي " تحقيق لفهمه ، والتثبت في تعقل معناه .

                                        الثالث : قوله " فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر : أن يسفك بها دما " يؤخذ منه أمران :

                                        أحدهما : تحريم القتال بمكة لأهل مكة . وهو الذي يدل عليه سياق الحديث ولفظه . وقد قال بذلك بعض الفقهاء . قال القفال في شرح التلخيص ، في أول كتاب النكاح ، في ذكر الخصائص : لا يجوز القتال بمكة . قال : حتى لو تحصن جماعة من الكفار فيها لم يجز لنا قتالهم فيها وحكى الماوردي أيضا : أن من خصائص الحرم : أن لا يحارب أهله إن بغوا على أهل العدل . فقد قال بعض الفقهاء : يحرم قتالهم ، بل يضيق عليهم حتى يرجعوا إلى الطاعة ، ويدخلوا في أحكام أهل العدل ، قال وقال جمهور الفقهاء : يقاتلون على البغي إذا لم يمكن ردهم عن البغي إلا بالقتال ; لأن قتال البغاة من حقوق الله تعالى التي لا يجوز إضاعتها ، فحفظها في الحرم أولى من إضاعتها .

                                        وقيل : إن هذا الذي نقله عن جمهور الفقهاء : نص عليه الشافعي في كتاب اختلاف الحديث من كتب الأم ونص عليه أيضا في آخر كتابه المسمى بسير الواقدي . وقيل : إن الشافعي أجاب عن الأحاديث : بأن معناها تحريم نصب القتال عليهم وقتالهم بما يعم ، كالمنجنيق وغيره ، إذا لم يمكن إصلاح الحال بدون ذلك ، بخلاف ما إذا انحصر الكفار في بلد آخر . فإنه يجوز قتالهم على كل وجه ، وبكل شيء . والله أعلم .

                                        وأقول : هذا التأويل على خلاف الظاهر القوي ، الذي دل عليه عموم النكرة في سياق النفي ، في قوله صلى الله عليه وسلم { فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما } وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين خصوصيته لإحلالها له ساعة من نهار وقال " فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم " فأبان بهذا اللفظ : أن المأذون للرسول صلى الله عليه وسلم فيه لم يؤذن فيه لغيره . والذي أذن [ ص: 445 ] للرسول فيه : إنما هو مطلق القتال ، ولم يكن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل مكة بمنجنيق وغيره مما يعم ، كما حمل عليه الحديث في هذا التأويل وأيضا فالحديث وسياقه يدل على أن هذا التحريم لإظهار حرمة البقعة بتحريم مطلق القتال فيها وسفك الدم . وذلك لا يختص بما يستأصل . وأيضا فتخصيص الحديث بما يستأصل ليس لنا دليل على تعين هذا الوجه بعينه لأن يحمل عليه الحديث . فلو أن قائلا أبدى معنى آخر ، وخص به الحديث : لم يكن بأولى من هذا .

                                        والأمر الثاني : يستدل به أبو حنيفة في أن الملتجئ إلى الحرم لا يقتل به . لقوله عليه السلام { لا يحل لامرئ أن يسفك بها دما } وهذا عام تدخل فيه صورة النزاع قال : بل يلجأ إلى أن يخرج من الحرم ، فيقتل خارجه ، وذلك بالتضييق عليه .

                                        الرابع " العضد " القطع ، عضد - بفتح الضاد في الماضي يعضد - بكسر الضاد : يدل على تحريم قطع أشجار الحرم ، واتفقوا عليه فيما لا يستنبته الآدميون في العادة واختلف الفقهاء فيما يستنبته الآدميون . والحديث عام في عضد ما يسمى شجرا .

                                        الخامس : قد يتوهم أن قوله عليه السلام { لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر } أنه يدل على أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشريعة . والصحيح عند أكثر الأصوليين : أنهم مخاطبون . وقال بعضهم في الجواب عن هذا التوهم : لأن المؤمن هو الذي ينقاد لأحكامنا ، وينزجر عن محرمات شرعنا ، ويستثمر أحكامه . فجعل الكلام فيه ، وليس فيه : أن غير المؤمن لا يكون مخاطبا بالفروع .

                                        وأقول : الذي أراه إن هذا الكلام من باب خطاب التهييج ، فإن مقتضاه : أن استحلال هذا المنهي عنه لا يليق بمن يؤمن بالله واليوم الآخر ، بل ينافيه : هذا هو المقتضي لذكر هذا الوصف . ولو قيل : لا يحل لأحد مطلقا ، لم يحصل به الغرض . وخطاب التهييج معلوم عند علماء البيان ومنه قوله تعالى { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } إلى غير ذلك .

                                        السادس : فيه دليل على أن مكة فتحت عنوة . وهو مذهب الأكثرين . وقال الشافعي وغيره : فتحت صلحا ، وقيل في تأويل الحديث : إن القتال كان جائزا [ ص: 446 ] له صلى الله عليه وسلم في مكة فلو احتاج إليه لفعله . ولكن ما احتاج إليه .

                                        وهذا التأويل : يضعفه قوله عليه السلام { فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم } فإنه يقتضي وجود قتال منه صلى الله عليه وسلم ظاهرا . وأيضا السير التي دلت على وقوع القتال ، وقوله عليه السلام { من دخل دار أبي سفيان فهو آمن } إلى غيره من الأمان المعلق على أشياء مخصوصة ، تبعد هذا التأويل أيضا .

                                        السابع قوله " فليبلغ الشاهد الغائب " فيه تصريح بنقل العلم ، وإشاعة السنن والأحكام .

                                        وقول عمرو " أنا أعلم منك بذلك يا أبا شريح - إلى آخره " هو كلامه . ولم يسنده إلى رواية . وقوله " لا يعيذ عاصيا " أي لا يعصمه . وقوله " ولا فارا بخربة " قد فسرها المصنف ، ويقال فيها : بضم الخاء وأصلها : سرقة الإبل ، كما قال . وتطلق على كل خيانة . وفي صحيح البخاري " أنها البلية " وعن الخليل أنه قال : هي الفساد في الدين ، من الخارب وهو اللص المفسد في الأرض ، وقيل : هي العيب .




                                        الخدمات العلمية