الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              فصل

              وهذا البحث مبني على أن للشارع مقاصد تابعة في العبادات والعادات معا .

              أما في العادات فهو ظاهر ، وقد مر منه أمثلة ، وأما في العبادات ، فقد ثبت ذلك فيها .

              فالصلاة مثلا أصل مشروعيتها الخضوع لله سبحانه بإخلاص التوجه إليه ، والانتصاب على قدم الذلة والصغار بين يديه ، وتذكير النفس بالذكر له ، قال تعالى : وأقم الصلاة لذكري [ طه : 14 ] ، وقال : إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر [ العنكبوت : 45 ] .

              وفي الحديث : إن المصلي يناجي ربه .

              ثم إن لها مقاصد تابعة كالنهي عن الفحشاء والمنكر والاستراحة إليها [ ص: 143 ] من أنكاد الدنيا ، في الخبر أرحنا بها يا بلال ، وفي الصحيح وجعلت قرة عيني في الصلاة ، وطلب الرزق بها قال الله تعالى : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك [ طه : 132 ] .

              وفي الحديث تفسير هذا المعنى ، وإنجاح الحاجات كصلاة الاستخارة وصلاة الحاجة ، وطلب الفوز بالجنة والنجاة من النار ، وهي الفائدة العامة الخاصة ، وكون المصلي في خفارة الله .

              في الحديث من صلى الصبح لم يزل في ذمة الله ، ونيل أشرف المنازل قال تعالى : ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا [ الإسراء : 79 ] فأعطي بقيام الليل المقام المحمود .

              وفي الصيام سد مسالك الشيطان والدخول من باب الريان والاستعانة على التحصن في العزبة ، في الحديث : من استطاع منكم الباءة فليتزوج .

              ثم قال : ومن لم يستطع فعليه بالصوم ، فإنه له وجاء [ ص: 144 ] وقال : الصيام جنة ، وقال : ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان .

              وكذلك سائر العبادات فيها فوائد أخروية ، وهي العامة ، وفوائد دنيوية ، وهي كلها تابعة للفائدة الأصلية ، وهي الانقياد والخضوع لله كما تقدم ، وبعد هذا يتبع القصد الأصلي جميع ما ذكر من فوائدها ، وسواها ، وهي تابعة فينظر فيها بحسب التقسيم المتقدم .

              فالأول وهو المؤكد كطلب الأجر العام ، أو الخاص ، وضده كطلب المال والجاه ، فإن هذا القسم لا يتأكد به المقصد الأصلي ، بل هو على خلاف ذلك .

              والثالث كطلب قطع الشهوة بالصيام ، وسائر [ ص: 145 ] ما تقدم من المقاصد التابعة في مسألة الحظوظ ، وينبغي تحقيق النظر فيها ، وفي الثاني : المقتضي لعدم التأكد ، وما يقتضي من ذلك ضد التأكد عينا ، وما لا يقتضيه عينا .

              وأيضا فهنا نظر آخر يتعلق بالعبادات من حيث يطلب بها المواهب التي هي نتائج موهوبة من الله تعالى للعبد المطيع ، وحلى يحليه بها ، وأول ذلك الثواب في الآخرة من الفوز بالجنة والدرجات العلى ولما كان هذا المعنى إذا قصد باعثا على العمل الذي أصل القصد به الخضوع لله والتواضع لعظمته; كان التعبد لله من جهته صحيحا لا دخل فيه ولا شوب; لأن القصد الرجوع إلى من بيده ذلك والإخلاص له ، وما جاء في ذلك مما عده بعضهم طلبا للإجارة وصاحبه عبد سوء ، فقد مر الكلام عليه ، ومن ذلك الطرف الآخر العامل لأجل أن يحمد ، أو يعظم ، أو يعطى فهذا عامل على الرياء ولا يثبت فيه كما تقدم .

              وأيضا فإن عمله على غير أصالة; إذ لا إخلاص فيه فهو عبث ، وإن فرض خالصا لله ، لكن قصد به حصول هذه النتيجة فليس هذا القصد بمقو للإخلاص لله ، بل هو مقو لترك الإخلاص .

              اللهم إلا أن يكون مضطرا إلى العطاء فيسأل من الله العطاء ، ويسأل له لأجل ما أصابه من الضراء بسبب المنع وفقد الأسباب ، ويكون عمله بمقتضى محض الإخلاص لا ليراه الناس ، فلا إشكال في صحة هذا ، فإنه عمل مقتض لما شرع له التعبد ، ومقو له ، وأصله قول الله تعالى : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها [ طه : 132 ] .

              [ ص: 146 ] وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا اضطر أهله إلى فضل الله ورزقه أمرهم بالصلاة لأجل هذه الآية .

              فهذه صلاة لله يستمنح بها ما عند الله ، وعلى هذا المهيع جرى ابن العربي ، وشيخه فيمن أظهر عمله لتثبت عدالته ، وتصح إمامته وليقتدى به إذا كان مأمورا شرعا بذلك لتوفر شروطه فيه ، وعدم من يقوم ذلك المقام ، فلا بأس به عندهما; لأنه قائم بما أمر به ، وتلك العبادة الظاهرة لا تقدح في أصل مشروعية العبادة بخلاف من يقصد نفس ثبوت العدالة عند الناس ، أو الإمامة ، أو نحو ذلك ، فإنه مخوف ولا يقتضي ذلك العمل المداومة; لأن فيه ما في طلب الجاه والتعظيم من الخلق بالعبادة .

              ومما ينظر فيه هنا الانقطاع إلى العمل لنيل درجة الولاية ، أو العلم ، أو نحو ذلك فيجري فيه الأمران ، ودليل الجواز قوله تعالى : واجعلنا للمتقين إماما [ الفرقان : 74 ] ، وحديث النخلة حين قال عمر لابنه عبد الله : لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا ، وكذا .

              [ ص: 147 ] وانظر في مسألة العتبية ترى أن اختلاف مالك ، وشيخه فيها إنما يتنزل على هذين الأمرين .

              ومما يشكل من هذا النمط التعبد بقصد تجريد النفس بالعمل والاطلاع على عالم الأرواح ورؤية الملائكة ، وخوارق العادات ، ونيل الكرامات والاطلاع على غرائب العلوم والعوالم الروحانية ، وما أشبه ذلك فلقائل أن يقول : إن قصد مثل هذا بالتعبد جائز ، وسائغ; لأن حاصله راجع إلى طلب نيل درجة الولاية ، وأن يكون من خواص الله ، ومن المصطفين من الناس ، وهذا صحيح في الطلب مقصود في الشرع الترقي إليه ، ودليل الجواز ما تقدم في الأمثلة قبل هذا ولا فرق .

              وقد يقال : إنه خارج عن نمط ما تقدم ، فإنه تخرص على علم الغيب ، ويزيد بأنه جعل عبادة الله وسيلة إلى ذلك ، وهو أقرب إلى الانقطاع عن العبادة; لأن صاحب هذا القصد داخل بوجه ما تحت قوله تعالى : ومن الناس من يعبد الله على حرف الآية [ الحج : 11 ] .

              كذلك هذا إن وصل إلى ما طلب فرح به وصار هو قصده من التعبد فقوي في نفسه مقصوده وضعفت العبادة ، وإن لم يصل رمى بالعبادة وربما كذب بنتائج الأعمال التي يهبها الله تعالى لعباده المخلصين ، وقد روي أن [ ص: 148 ] بعض الناس سمع بحديث : من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه فتعرض لذلك لينال الحكمة فلم يفتح له [ ص: 149 ] بابها ، فبلغت القصة بعض الفضلاء ، فقال : هذا أخلص للحكمة ولم يخلص لله ، وهكذا يجري الحكم في سائر المعاني المذكورة ، ونحوها ولا أعلم دليلا يدل على طلب هذه الأمور ، بل ثم ما يدل على خلاف ذلك ، فإن ما غيب عن الإنسان مما لا يتعلق بالتكليف لم يطلب بدركه ولا حض على الوصول إليه .

              وفي كتب التفسير أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما بال الهلال يبدو رقيقا كالخيط ، ثم ينمو إلى أن يصير بدرا ، ثم يصير إلى حالته الأولى ؟ فنزلت : [ ص: 150 ] يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها [ البقرة : 189 ] الآية فجعل إتيان البيوت من ظهورها مثالا شاملا لمقتضى هذا السؤال; لأنه تطلب لما لم يؤمر بتطلبه .

              ولا يقال : إن المعرفة بالله ، وبصفاته ، وأفعاله على مقدار المعرفة بمصنوعاته ، ومن جملتها العوالم الروحانية ، وخوارق العادات فيها تقوية للنفس واتساع في درجة العلم بالله تعالى; لأنا نقول : إنما يطلب العلم شرعا لأجل العمل حسبما تقدم في المقدمات ، وما في عالم الشهادة كاف ، وفوق الكفاية فالزيادة على ذلك فضل ، وأيضا إن كان ذلك مطلوبا على الجملة كما قال إبراهيم عليه السلام : رب أرني كيف تحي الموتى [ البقرة : 260 ] الآية ، فإن الجواب عن ذلك من وجوه :

              أحدها : أن طلب الخوارق بالدعاء وطلب فتح البصيرة للعلم به لا نكير فيه ، وإنما النظر فيمن أخذ يعبد الله ، ويقصد بذلك أن يرى هذه الأشياء ، فالدعاء بابه مفتوح في الأمور الدنيوية والأخروية شرعا ما لم يدع بمعصية ، والعبادة إنما القصد بها التوجه لله ، وإخلاص العمل له والخضوع بين يديه ، فلا تحتمل الشركة ولولا أن طلب الأجر والثواب الأخروي مؤكد لإخلاص العمل [ ص: 151 ] لله في العبادة لما ساغ القصد إليه بالعبادة مع أن كثيرا من أرباب الأحوال يعزب عنهم هذا القصد ، فكيف يجعلان مثلين ؟ أعني طلب الخوارق بالدعاء مع القصد إليها بالعبادة ، ما أبعد ما بينهما لمن تأمل .

              والثاني : أنه لو لم نجد ما نستدل به على ذلك كله لكان لنا بعض العذر في التخطي عن عالم الشهادة إلى عالم الغيب ، فكيف وفي عالم الشهادة من العجائب والغرائب القريبة المأخذ السهلة الملتمس ما يفنى الدهر وهي باقية لم يبلغ منها في الاطلاع والمعرفة عشر المعشار ولو نظر العاقل في أقل الآيات ، وأذل المخلوقات ، وما أودع باريها فيها من الحكم والعجائب لقضى العجب وانتهى إلى العجز في إدراكه ، وعلى ذلك نبه الله تعالى في كتابه أن تنظر فيه كقوله : أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء [ الأعراف : 185 ] أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت [ الغاشية : 17 - 18 ] إلى آخرها .

              أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج [ ق : 6 ] إلى تمام الآيات .

              [ ص: 152 ] ومعلوم أنه لم يأمرهم بالنظر فيما حجب عنهم ولم يكن لهم الاطلاع عليه عادة إلا بخارقة ، فإنه إحالة على ما يندر التوصل إليه ، وإذا تأملت الآيات التي ذكر فيها الملائكة ، وعوالم الغيب لم تجدها مما أحيل على النظر فيه ولا مأمورا بتطلب الاطلاع عليها ، وعلى ذواتها ، وحقائقها .

              فهذه التفرقة كافية في أن ذلك غير مطلوب النظر فيه شرعا ، وإذا لم يكن مطلوبا لم ينبغ أن يطلب .

              والثالث : أن أصل هذا التطلب الخاص فلسفي ، فإن الاعتناء بطلب تجريد النفس والاطلاع على العوالم التي وراء الحس إنما نقل عن الحكماء المتقدمين والفلاسفة المتعمقين في فنون البحث من المتألهين منهم ، ومن غيرهم ولذلك تجدهم يقررون لطلب هذا المعنى رياضة خاصة لم تأت بها الشريعة المحمدية من اشتراط التغذي بالنبات دون الحيوان ، أو ما يخرج من الحيوان إلى غير ذلك من شروطهم التي لم تنقل في الشريعة ولا وجد منها في السلف الصالح عين ولا أثر; كما أن ذكر التجريد والعوالم الروحانية ، وما يتصل بذلك لم ينقل عن أحد منهم ، وكفى بذلك حجة في أنه غير مطلوب كما سيأتي على أثر هذا بحول الله تعالى .

              والرابع : أن طلب الاطلاع على ما غيب عنا من الروحانيات ، وعجائب المغيبات كطلب الاطلاع على ما غيب عنا من المحسوسات النائية كالأمصار البعيدة والبلاد القاصية والمغيبات تحت أطباق الثرى; لأن الجميع أصناف من مصنوعات الله تعالى فكما لا يصح أن يقال بجواز التعبد لله قصد أن يطلع الأندلسي على قطر بغداد ، وخراسان ، وأقصى بلاد الصين ، فكذلك لا ينبغي مثله في الاطلاع على ما ليس من قبيل المحسوسات .

              والخامس : أنه لو فرض كون هذا سائغا فهو محفوف بعوارض كثيرة ، وقواطع معترضة تحول بين الإنسان ، ومقصوده ، وإنما هي ابتلاءات يبتلي الله بها [ ص: 153 ] عباده; لينظر كيف يعملون .

              فإذا وازن الإنسان بين مصلحة حصول هذه الأشياء ، وبين مفسدة ما يعترض صاحبها ، كانت جهة العوارض أرجح ، فيصير طلبها مرجوحا ولذلك لم يخلد إلى طلبها المحققون من الصوفية ولا رضوا بأن تكون عبادتهم يداخلها أمر حتى بالغ بعضهم فقال في طلب الثواب ما تقدم .

              وأشد العوارض طلب هذه الأشياء بالعبادة من الصلاة والصيام والذكر ، ونحوها مما يقتضي وضعها الإخلاص التام ، فلا يليق به طلب الحظوظ ، فإن طالب العلم بالروحانيات إما أن يكون لأمر الله ورسوله بها ، وهذا لا يوجد ، وإما لأنه أحب أن يطلع على ما لم يطلع عليه أحد من جنسه ، فسار كالمسافر ليرى البلاد النائية والعجائب المبثوثة في الأرض لا لغير ذلك ، وهذا مجرد حظ لا عبادة فيه ، ومقصود الأمر أن مثل هذا لا يكون عاضدا لما وضعت له العبادة في الأصل من التحقق بمحض العبودية .

              فإن قيل : فقد سئل بعض السلف عن دواء الحفظ ، فقال : ترك المعاصي ، ومن مشهور القواعد أن الطاعة تعين على الطاعة ، وأن الخير لا يأتي إلا بالخير كما في الحديث ، كما أن الشر لا يأتي إلا بالشر فهل للإنسان [ ص: 154 ] أن يفعل الخير ليصل به إلى الخير أم لا ؟ فإن قلت : لا; كان على خلاف هذه القاعدة ، وإن قلت : نعم ; خالفت ما أصلت .

              فالجواب أن هذا نمط آخر ، وذلك أن الإنسان قد يعلم أن الذي يصده مثلا عن الخير الفلاني عمل شر فيترك الشر ليصل إلى ذلك الخير الذي يثاب عليه ، أو يكون فعل الخير يوصله إلى خير آخر كذلك فهذا عون بالطاعة على الطاعة ولا إشكال فيه ، وقد قال الله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة [ البقرة : 45 ] وقال : وتعاونوا على البر والتقوى [ المائدة : 2 ] الآية .

              ومسألة الحفظ من هذا ، وأما ما وقع الكلام فيه فحاصله طلب حظ شهواني يطلبه بالطاعة ، وما أقرب هذا أن يكون العمل فيه غير مخلص فالحاصل لمن اعتبر أن ما كان من التوابع مقويا ، ومعينا على أصل العبادة ، وغير قادح في الإخلاص فهو المقصود التبعي السائغ ، وما لا فلا ، وأن المقاصد التابعة للمقاصد الأصلية على ثلاثة أقسام :

              أحدها : ما يقتضي تأكيد المقاصد الأصلية وربطها والوثوق بها ، وحصول الرغبة فيها ، فلا شك أنه مقصود للشارع فالقصد إلى التسبب إليه بالسبب المشروع موافق لقصد الشارع فيصح .

              والثاني : ما يقتضي زوالها عينا ، فلا إشكال أيضا في أن القصد إليها مخالف لمقصد الشارع عينا ، فلا يصح التسبب بإطلاق .

              [ ص: 155 ] والثالث : ما لا يقتضي تأكيدا ولا ربطا ولكنه لا يقتضي رفع المقاصد الأصلية عينا فيصح في العادات دون العبادات .

              أما عدم صحته في العبادات فظاهر ، وأما صحته في العادات فلجواز حصول الربط والوثوق بعد التسبب ، ويحتمل الخلاف ، فإنه قد يقال : إذا كان لا يقتضي تأكيد المقصد الأصلي ، وقصد الشارع التأكيد ، فلا يكون ذلك التسبب موافقا لمقصد الشارع ، فلا يصح ، وقد يقال : هو وإن صدق عليه أنه غير موافق يصدق عليه أيضا أنه غير مخالف ; إذ لم يقصد انحتام رفع ما قصد الشارع وضعه ، وإنما قصد في التسبب أمرا يمكن أن يحصل معه مقصود الشارع ، ويؤكد ذلك أن الشارع أيضا مما يقصد رفع التسبب ، فلذلك شرع في النكاح الطلاق ، وفي البيع الإقالة ، وفي القصاص العفو ، وأباح العزل ، وإن ظهر لبادئ الرأي أن هذه الأمور مضادة لقصد الشارع لما كان كل منها غير مخالف له عينا ، ومثله [ ص: 156 ] ما إذا قصد بالنكاح قضاء الوطر خاصة ولم يتعرض لقصد الشارع الأصلي من التناسل فليس خلافا لقصد الشارع كما تقدم فكذلك غيره مما مضى تمثيله .

              وليس من هذا أن المخالف لقصد الشارع بلا بد هو الاحتيال بالتسبب على تحصيل أمر على وجه يكون التسبب فيه عبثا لا محصول تحته شرعا إلا التوصل إلى ما وراءه ، فإذا حصل انحل التسبب وانخرم من أصله ولا يكون كذلك إلا وهو منخرم شرعا في أصل التسبب .

              وأما إذا أمكن أن لا ينخرم ، أو أمكن أن لا يكون منخرما من أصله فليس بمخالف للمقصد الشرعي من كل وجه فهو محل اجتهاد ، ويبقى التسبب إن صحبه نهي محل نظر أيضا ، وقد تقدم الكلام فيه والله أعلم .

              والجهة الرابعة مما يعرف به مقصد الشارع السكوت عن شرع التسبب ، أو عن شرعية العمل مع قيام المعنى المقتضي له ، وبيان ذلك أن سكوت الشارع عن الحكم على ضربين :

              [ ص: 157 ] أحدهما : أن يسكت عنه; لأنه لا داعية له تقتضيه ولا موجب يقدر لأجله كالنوازل التي حدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها لم تكن موجودة ، ثم سكت عنها مع وجودها ، وإنما حدثت بعد ذلك فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها ، وإجرائها على ما تقرر في كلياتها ، وما أحدثه السلف الصالح راجع إلى هذا القسم كجمع المصحف ، وتدوين العلم ، وتضمين الصناع ، وما أشبه ذلك مما لم يجر له ذكر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تكن من نوازل زمانه ولا عرض للعمل بها موجب يقتضيها فهذا القسم جارية فروعه على أصوله المقررة شرعا بلا إشكال فالقصد الشرعي فيها معروف من الجهات المذكورة قبل .

              والثاني : أن يسكت عنه ، وموجبه المقتضي له قائم فلم يقرر فيه حكم عند نزول النازلة زائد على ما كان في ذلك الزمان فهذا الضرب السكوت فيه كالنص على أن قصد الشارع أن لا يزاد فيه ولا ينقص; لأنه لما كان هذا المعنى الموجب لشرع الحكم العملي موجودا ، ثم لم يشرع الحكم دلالة عليه كان ذلك صريحا في أن الزائد على ما كان هنالك بدعة زائدة ، ومخالفة لما قصده [ ص: 158 ] الشارع; إذ فهم من قصده الوقوف عند ما حد هنالك لا الزيادة عليه ولا النقصان منه .

              ومثال هذا : سجود الشكر في مذهب مالك ، وهو الذي قرر هذا المعنى في العتبية من سماع أشهب وابن نافع قال فيها : وسئل مالك عن الرجل يأتيه الأمر يحبه فيسجد لله عز وجل شكرا ، فقال : لا يفعل ، ليس هذا مما مضى من أمر الناس . قيل له : إن أبا بكر الصديق فيما يذكرون سجد يوم اليمامة شكرا لله أفسمعت ذلك ؟ قال : ما سمعت ذلك ، وأنا أرى أن قد كذبوا على أبي بكر ، وهذا من الضلال أن يسمع المرء الشيء ، فيقول : هذا شيء لم أسمع له خلافا . فقيل له : إنما نسألك لنعلم رأيك فنرد ذلك به . فقال : نأتيك بشيء آخر أيضا لم تسمعه مني : قد فتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى المسلمين بعده ، أفسمعت أن أحدا منهم فعل مثل هذا ؟ إذا جاءك مثل هذا مما قد كان في الناس وجرى على أيديهم لا يسمع عنهم فيه شيء فعليك بذلك ; لأنه لو كان لذكر ; لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم ، فهل سمعت أن أحدا منهم سجد ؟ فهذا إجماع إذا جاءك أمر لا تعرفه فدعه . هذا تمام الرواية ، وقد احتوت على [ ص: 159 ] فرض سؤال والجواب عنه بما تقدم .

              وتقرير السؤال أن يقال في البدع مثلا : إنها فعل ما سكت الشارع عن فعله ، أو ترك ما أذن في فعله ، أو تقول فعل ما سكت الشارع عن الإذن فيه ، أو ترك ما أذن في فعله ، أو أمر خارج عن ذلك ، فالأول كسجود الشكر عند مالك حيث لم يكن ثم دليل على فعله ، والدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلوات ، والاجتماع للدعاء بعد العصر يوم عرفة في غير عرفات ، والثاني : كالصيام مع ترك الكلام ، ومجاهدة النفس بترك مأكولات معينة ، والثالث : كإيجاب شهرين متتابعين في الظهار لواجد الرقبة ، وهذا الثالث مخالف للنص الشرعي ، فلا يصح بحال فكونه بدعة قبيحة بين .

              [ ص: 160 ] وأما الضربان الأولان ، وهما في الحقيقة فعل ، أو ترك لما سكت الشارع عن فعله ، أو تركه ، فمن أين يعلم مخالفتهما لقصد الشارع ، أو أنهما مما يخالف المشروع ، وهما لم يتواردا مع المشروع على محل واحد ، بل هما في المعنى كالمصالح المرسلة والبدع إنما أحدثت لمصالح يدعيها أهلها ، ويزعمون أنها غير مخالفة لقصد الشارع ولا لوضع الأعمال .

              أما القصد فمسلم بالفرض ، وأما الفعل فلم يشرع الشارع فعلا نوقض بهذا العمل المحدث ولا تركا لشيء فعله هذا المحدث كترك الصلاة وشرب الخمر ، بل حقيقته أنه أمر مسكوت عنه عند الشارع والمسكوت من الشارع لا يقتضي مخالفة ولا موافقة ولا يفهم للشارع قصدا معينا دون ضده ، وخلافه ، فإذا كان كذلك رجعنا إلى النظر في وجوه المصالح ، فما وجدنا فيه مصلحة قبلناه إعمالا للمصالح المرسلة ، وما وجدنا فيه مفسدة تركناه إعمالا للمصالح أيضا ، وما لم نجد فيه هذا ولا هذا فهو كسائر المباحات إعمالا للمصالح المرسلة [ ص: 161 ] أيضا فالحاصل أن كل محدثة يفرض ذمها تساوي المحدثة المحمودة في المعنى . فما وجه ذم هذه ومدح هذه ولا نص يدل على مدح ولا ذم على الخصوص ؟

              وتقرير الجواب ما ذكره مالك ، وأن السكوت عن حكم الفعل ، أو الترك هنا إذا وجد المعنى المقتضي للفعل ، أو الترك إجماع من كل ساكت على أن لا زائد على ما كان ، وهو غاية في تحصيل هذا المعنى .

              قال ابن رشد : الوجه في ذلك أنه لم يره مما شرع في الدين يعني سجود الشكر لا فرضا ولا نفلا; إذ لم يأمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولا فعله ، ولا [ ص: 162 ] أجمع المسلمون على اختيار فعله والشرائع لا تثبت إلا من أحد هذه الوجوه .

              قال : واستدلاله على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ولا المسلمون بعده بأن ذلك لو كان لنقل صحيح; إذ لا يصح أن تتوفر دواعي المسلمين على ترك نقل شريعة من شرائع الدين ، وقد أمروا بالتبليغ .

              قال : وهذا أصل من الأصول ، وعليه يأتي إسقاط الزكاة من الخضر والبقول مع وجوب الزكاة فيها بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم : فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر ، وفيما سقي بالنضح نصف العشر ; لأنا نزلنا ترك نقل أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة منها كالسنة القائمة في أن لا زكاة فيها ، فكذلك ننزل ترك نقل السجود عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشكر كالسنة القائمة في أن لا سجود فيه ، ثم حكى خلاف الشافعي والكلام عليه ، والمقصود من المسألة توجيه مالك لها من حيث إنها بدعة لا توجيه أنها بدعة على الإطلاق .

              [ ص: 163 ] وعلى هذا النحو جرى بعضهم في تحريم نكاح المحلل ، وأنها بدعة منكرة من حيث وجد في زمانه - عليه الصلاة والسلام - المعنى المقتضي للتخفيف والترخيص للزوجين بإجازة التحليل ليراجعا كما كانا أول مرة ، وأنه لما لم يشرع ذلك مع حرص امرأة رفاعة على رجوعها إليه دل على أن التحليل ليس بمشروع لها ولا لغيرها ، وهو أصل صحيح ، إذا اعتبر وضح به الفرق بين ما هو من البدع ، وما ليس منها ، ودل على أن وجود المعنى المقتضي مع عدم التشريع دليل على قصد الشارع إلى عدم الزيادة على ما كان موجودا قبل ، فإذا زاد الزائد ظهر أنه مخالف لقصد الشارع فبطل .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية