الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 2 ] بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أحيا بذكره قلوب عباده العارفين، وأماط عن بواطنهم حجب الخفاء، فقاموا لإحياء علوم الدين، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد سيد الأولين والآخرين، وصفوة الأنبياء والمرسلين، وقائد الغر المحجلين، وخلاصة من خلقه أجمعين، وعلى آله السادة الأكرمين، وأصحابه الغر الميامين، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

فهذه تبريرات شريفة، وتحريرات منيفة، أمليتها على كتاب الإحياء للإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي -رحمه الله تعالى - حين سئلت في إقرائه، مستعينا بحول الله، شاكرا لحسن بلائه، جانحا فيه إلى حل عباراته، مشيرا إلى كشف الغموض عن رموزه وإشاراته، مخرجا أحاديثه على طريقة حفاظ المحدثين، مبينا لأسانيد ما فيه من أقوال العلماء والعارفين، ولم آل جهدا في تهذيبه وترتيبه، وتسهيله وترقيقه، ولم أتعرض للغاته، إلا ما احتيج إليه، ولا لبيان فائدة سوى ما عول عليه; وذلك لأني لو تتبعت جميع ألفاظه الشائقة، وإشاراته التي انتثلتها من أفكاره الفائقة، طال الكلام، وصعب المرام، وكلت دون محاولته الأفهام؛ إذ مآخذه - رحمه الله تعالى- فيه بعيدة الغور، استنباطا واستكشافا، حتى كأنه يغترف من البحر المحيط اغترافا، وأنى لمثل العاجز القاصر عن تساحله، وحسبي أن أقف لهذا البحر عند ساحله، على أني لم أر أحدا من العلماء قديما وحديثا -مع كثرة تداول هذا الكتاب بين أيديهم وتبركهم بقراءته في سائر الأقطار، خصوصا في قطر اليمن المأنوس بالأخيار- اعتنى بضبط ألفاظه المشكلة، ولا فصل بنود عقوده المجملة .

وقد شرح الله صدري لشرحه بإلهام، وسعى بعيوب فكري لتحصيله باهتمام، فجاء بحمد الله جامعا للشوارد، مكملا للفوائد، ضابطا لما أهمل، مفصلا لما أجمل، ومبينا لما استشكل من اللغات، مقربا لما استبهم من الإشارات، كافلا لبيان ما فرق فيه من الأقوال، معينا لأهل التدريس في سائر الأحوال، بفوائد تقر بها العين. ويقول الغائص: من أين أجد مثل درره من أين؟

اشتمل على فقه وحديث ورقائق، وضوابط ودقائق، وتاريخ وأدب، تنسل إليه الرغبات من كل [ ص: 3 ] حدب، ولست أقول ذلك لأنفق البضاعة، بل لأشوق أرباب الصناعة، وأجمع على حب هذا الكتاب أهل السنة والجماعة، وأعرف المريدين سلوك طريقه، وأشير لهم إلى كمال تحقيقه وتدقيقه، وإن صبح فضله طلع استغلظ فاستوى على سوقه .

وناداني لسان الإنصاف غير متلبث، قل: وأما بنعمة ربك فحدث .

فقد روى الترمذي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده" فعند ذلك قلت: لا للفخر والسمعة، بل لإبانة الحق وحسن الصنعة .

إن هذا المجموع شمس عوارف المعارف، وقمر لطائف الظرائف، ونجم سماء العلى، والناس تلقاء حرمه بين عاكف وطائف، من شاهده قال: هكذا هكذا وإلا فلا، ومن أنفق من خزائن علمه لم يخش من ذي العرش إقلالا .

ومن تأمله منصفا جبن عن معارضته، وأنشد:


أهابك إجلالا

ومن لم يغترف من بحر درره ولم يعترف برفع قدره فهو المحروم نوالا:


ومن يك ذا فم مر مريض     يجد مرا به ماء زلالا

ولكأني بمن يحسد شمس ضوئه، ويجتهد أن يأتي له بنظير، ويطاول الثريا وما أبعدها عن المتناول، فيرجع إليه بصره خاسئا وهو حسير، وأتعب خلق الله من زاد همه، وقصر عما تشتهي النفس وجده، واستخرت الله تعالى في أن أسميه إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين.

وأنا مع وضعي هذا الكتاب ما أبرئ نفسي ولا كتابي من خلل وريب، ولا أبيعه بشرط البراءة من كل عيب، بل أعترف بكمال القصور. وأسأل الله الصفح عما جرى به القلم بهذه السطور، وأقول لناظر جمعي هذا: لا تأخذن في نفسك علي شيئا وجدته فيه مغايرا للفهم؛ فإن الفهوم قد تختلف، ومن صنف قد استهدف، وأعتذر لك أيها المنصف من خطأ أو زلة فالجواد قد يكبو، والفتى قد يصبو، ولا يعد إلا فضولات العارف، وتدخل الزيوف على أعلى الصيارف .

ولا يخفى عليك أن التعقب على الكتب سيما الطويلة سهل بالنسبة إلى تأليفها، ووضعها وترصيفها، كما يشاهد في الأبنية القديمة، والهياكل العظيمة؛ حيث يعترض على بانيها من عري في فنه عن القوى والقدر، بحيث لا يقدر على وضع حجر على حجر، هذا جوابي، عما يرد على كتابي .

وقد كتب أستاذ البلغاء القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني، إلى العماد الكاتب الأصبهاني، معتذرا عن كلام استدركه عليه أنه وقع لي شيء ولا أدري أوقع لك أم لا، وها أنا أخبرك به، وذلك أني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابا في يومه إلا قال في غد: لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر .

فأرجو مسامحة ناظريه فهم أهلوها، وأؤمل جميلهم فهم أحسن الناس وجوها، وهذا حين الشروع في المقصود، ولا ينبغي أن يمل الناظر في هذا الكتاب كثرة الكلام على تخريج حديث بذكر الأسانيد، والاستطراد المزيد في بعض المسائل والتراجم؛ فإنه لذلك وضع، وعلى أعواد هذه القواعد رفع، وسترى فيه من الفوائد ما لا يوجد في مجموع، ومن الزوائد ما هو فوق الفرقد مرفوع، والله المسئول أن يتقبله بقبول حسن، وأن يعينني على إكماله في أقرب زمن، وعلى نهج يرتضيه أهل الحق بالوجه المستحسن، وهو المعين المجيب، عليه توكلت وإليه أنيب .

التالي السابق


الخدمات العلمية