الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وقال أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، فيما [ ص: 36 ] خرجه في «الرد على الزنادقة والجهمية، فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولت غير تأويله» ، وقد ذكر هذا الكتاب أبو بكر الخلال في كتاب «السنة» ونقله بألفاظه، وذكره القاضي أبو يعلى وغيرهما.

قال فيه: «بيان ما أنكرت الجهمية الضلال، أن يكون الله تعالى على العرش.

قلنا: لم أنكرتم ذلك؟
إن الله سبحانه على العرش، وقد قال سبحانه: الرحمن على العرش استوى [طه: 5] وقال: [ ص: 37 ] ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا [الفرقان: 59] قالوا: هو تحت الأرض السابعة، كما هو على العرش، فهو على العرش، وفي السموات وفي الأرض، وفي كل مكان لا يخلو منه مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، وتلوا آيات من القرآن: وهو الله في السماوات وفي الأرض [الأنعام: 3] فقلنا: قد عرف المسلمون أماكن كثيرة، وليس فيها من عظمة الله شيء. فقالوا: أي مكان؟ فقلنا: أحشاؤكم وأجواف الخنازير والحشوش والأماكن القذرة، ليس فيها من عظمة الرب سبحانه شيء، وقد أخبرنا أنه في السماء، فقال سبحانه: أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا [الملك: 16-17] وقال: إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه [فاطر: 10] وقال: وله من في السماوات والأرض ومن عنده [الأنبياء: 19] وقال: إني متوفيك ورافعك إلي [آل عمران: 55] وقال: بل رفعه الله إليه [النساء: 158] وقال: يخافون ربهم من فوقهم [النحل: 50] وقال: تعرج الملائكة والروح إليه [المعارج: 4] وقال: وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير [ ص: 38 ] [الأنعام: 18] فهذا خبر الله أنه في السماء، ووجدنا كل شيء أسفل مذموما، قال الله تعالى: إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار [النساء: 145] وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين [فصلت: 29] وقلنا لهم: أليس تعلمون أن إبليس كان مكانه، والشياطين مكانهم؟ فلم يكن الله ليجتمع هو وإبليس [في مكان واحد]، ولكن إنما معنى قوله تبارك وتعالى: وهو الله في السماوات وفي الأرض [الأنعام: 3] يقول: هو إله من في السموات وإله من في الأرض، وهو على العرش، وقد أحاط بعلمه ما دون العرش، لا يخلو من علم الله مكان، ولا يكون علم الله في مكان دون مكان، وذلك قوله تعالى: لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما [الطلاق: 12] قال: ومن الاعتبار في ذلك لو أن رجلا كان في يده قدح من قوارير صاف وفيه شراب صاف، كان بصر بني آدم قد أحاط بالقدح، من غير أن يكون ابن آدم في القدح، فالله سبحانه -وله المثل الأعلى-، قد أحاط بجميع خلقه، من غير أن يكون في شيء من خلقه، وخصلة أخرى; لو أن رجلا بنى دارا بجميع مرافقها، ثم [ ص: 39 ] أغلق بابها وخرج منها، كان ابن آدم لا يخفى عليه كم بيتا في داره، وكم سعة كل بيت، من غير أن يكون صاحب الدار في جوف الدار، فالله سبحانه -وله المثل الأعلى- قد أحاط بجميع ما خلق، وقد علم كيف هو، وما هو، من غير أن يكون في شيء مما خلق».

قال أحمد رضي الله عنه: «ومما تأول الجهمية من قول الله سبحانه: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم [المجادلة: 7] قالوا: إن الله معنا وفينا. فقلنا: لم قطعتم الخبر من أول؟ إن الله يقول: ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض [المجادلة: 7] ثم قال: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم [المجادلة: 7] يعني أن الله بعلمه رابعهم. ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم يعني بعلمه فيهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم [المجادلة: 7] يفتح الخبر بعلمه، ويختم الخبر بعلمه. [ ص: 40 ] ويقال للجهمي: إن الله إذا كان معنا بعظمة نفسه. فقل له: هل يغفر الله لكم فيما بينه وبين خلقه؟ فإن قال: نعم. فقد زعم أن الله بائن من خلقه، وأن خلقه دونه. وإن قال: لا، كفر. وإذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أنه في كل مكان، ولا يكون في مكان دون مكان. فقل له: أليس كان الله ولا شيء؟ فيقول: نعم. فقل له: حين خلق الشيء خلقه في نفسه، أو خارج عن نفسه؟ فإنه يصير إلى ثلاثة أقاويل لا بد له من واحد منها: إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه، فقد كفر حين زعم أنه خلق الخلق والشياطين وإبليس في نفسه، وإن قال: خلقهم خارجا من نفسه، ثم دخل فيهم، كان هذا أيضا كفر، حين زعم أنه دخل في كل مكان وحش وقذر. وإن قال: خلقهم خارجا من نفسه، ثم لم يدخل فيهم، رجع عن قوله كله أجمع وهو قول أهل السنة». انتهى كلام أحمد. [ ص: 41 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية