الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 43 ] (سورة الفاتحة )

                                                          بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين

                                                          * * *

                                                          ابتدأ كلام الله تعالى بـ بسم الله الرحمن الرحيم ، وهي مقدمة لتلاوة كل سورة من سور القرآن ، وروي عن بعض الصحابة : " إننا كنا نعرف نهاية سورة وابتداء سورة بنزول قوله تعالى : (بسم الله الرحمن الرحيم ) وروي عن جعفر الصادق بن محمد رضي الله عنهما ، أنه قال : " البسملة تيجان السور " ، وقد قال عبد الله بن المبارك : " إنها جزء من كل سورة ; ولذلك يجب ابتداء السورة بقراءتها . [ ص: 44 ] على أنها جزء منها ، وقال الشافعي : " إنها جزء من الفاتحة " ، وتردد في عدها جزءا من كل سورة ، ولكنها مهما تكن ليست جزءا من غير الفاتحة ، وهي لازمة للفصل بين سورة وسورة من السور التي ابتدأت بذكرها .

                                                          ولأن ثمة كلاما في كون سورة براءة ليست مستقلة عن سورة الأنفال ، وعدها الأكثرون جزءا منها - لم تكن مبتدأة بالبسملة ، وينسب إلى الإمام مالك رضي الله تبارك وتعالى عنه أنها ليست جزءا من سورة الفاتحة أو غيرها ، ومؤدى هذا القول أنها ليست من القرآن ككلمة " آمين " في آخر الفاتحة ; إذ إن الفاتحة ضراعة إلى الله تعالى ، فناسب أن تذكر بعدها " آمين " ، وعد القرطبي في كتابه " أحكام القرآن " أن في مذهب مالك أن البسملة ليست من القرآن هو الصحيح ، وذكر أن القرآن كله متواتر ، والبسملة ليست متواترة ، فلا تعد من القرآن ، ولكن تكون علامة على انتهاء سورة ، وابتداء سورة أخرى .

                                                          ومع أنه قرر ذلك - يقرر أن مالكا يرى أنها يبتدأ بها في الفرض والنافلة ، كما رواه ابن نافع ، وفي الحق أن ذلك القول غريب عن القرآن ، وذلك لأن البسملة متواترة تواتر كل أجزاء القرآن ، فلم تثبت بحديث آحاد ، بل ثبتت بالقرآن نفسه ، فقد كتبت في مصحف عثمان وما قبله ، ولا تواتر أبلغ من هذا ، وما كان للشيخين أبي بكر وعمر ، وذي النورين وجميع الصحابة أن يدونوا في المصحف ما ليس من القرآن ، و " آمين " هي التي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنطق بها في عقب قراءة الفاتحة .

                                                          إن ادعاء أنها ثبتت بخبر آحاد يقتضي ذكر ذلك الخبر ، ورواته ، ومقدار قوتهم ، وضعفهم ، وعددهم ، وليس كذلك ، بل هي ثبتت مقترنة بسور القرآن على أنها ثابتة بين كل سورة وسورة .

                                                          [ ص: 45 ] والسورة التي لم تصدر بها ، ثبت عدم تقدمها لهذه السورة بالتواتر ، فهي متواترة بالذكر في كل السور ، ومتواترة بالسلب في سورة واحدة .

                                                          ولهذا نرى أن نسبة ذلك القول إلى إمام دار الهجرة مالك هو في ذاته موضع نظر ، وقد اقترن ذلك بادعاء أنه لم يقرأها أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيقول القرطبي عفا الله عنه : " في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة انقرضت عليه العصور ومرت عليه الأزمنة والدهور من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى زمان مالك ، ولم يقرأ أحد فيه قط (بسم الله الرحمن الرحيم ) اتباعا لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

                                                          وإن لنا أن نرد ذلك القول ، ونأخذ ذلك من كلامه هو ، فهو قد روى أن عمر ، وعليا ، وابن مسعود ، وعمار بن ياسر ، كانوا يقرأونها ويسرون بها .

                                                          وروى هو أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يسر بها ولا يجهر ، فقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال : " كان يصلي بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يسمعنا قراءة بسم الله الرحمن الرحيم " وروي عنه أيضا : صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وخلف أبي بكر ، وعمر ، فلم أسمع أحدا منهم يجهر بـ " بسم الله الرحمن الرحيم " .

                                                          فالأمر أمر الجهر بها ، لا أمر تركها ، وفرق كبير بين الترك لها أصلا ، وترك الجهر بها .

                                                          وبذلك ينتفي ما ادعاه من أن أحدا لم يقرأها ، اتباعا للسنة إن كانت سنة ، وذلك لأنهم قرأوها خفية وفي سر ، آخذين ذلك من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم .

                                                          [ ص: 46 ] ومن كتاب الله عز وجل : واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين .

                                                          وننتهي من هذا إلى أن البسملة جزء من القرآن الكريم ، وهي فاصلة بين السور تدل على الانتهاء من سورة والابتداء بسورة أخرى .

                                                          وإن الشافعي يعدها جزءا من الفاتحة ، ومهما يكن فإنه لا بد من البدء بقراءتها ، وغيره يوجب البدء بها لا على أنها جزء من الفاتحة ، ولكن على أنها قرآن يبدأ به في أول كل سورة .

                                                          والأكثرون عدوها على أنها يبتدأ بها سرا لا جهرا أو تضرعا في خفية ، ودون الجهر من القول ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية