الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 330 ] قلت: ليس المقصود هنا استيفاء الكلام فيما ذكره من الأمثال، فإن فيما ذكر أنه لا يعلم إلا بالسمع ما يمكن علمه بدون السمع، إذ علم الإنسان بوجود بعض الممكنات له طرق متعددة غير إخبار الرسول، وكذلك ما ذكر أنه لا يعلم بالسمع، فيه كلام ليس هذا موضعه.

ولكن المقصود ذكر قوله بعد ذلك، [فإنه] قال: "إذا عرفت ذلك فنقول: أما أن الأدلة السمعية لا يجوز استعمالها في الأصول في القسم الأول فهو ظاهر، وإلا لو وقع الدور، وأما أنه يجب استعمالها في القسم الثاني فهو ظاهر، كما سلف، وأما القسم الثالث ففي جواز [استعمال] الأدلة السمعية فيه إشكال.

وذلك لأنا لو قدرنا قيام الدليل القاطع العقلي على خلاف ما أشعر به ظاهر الدليل السمعي، فلا خلاف بين أهل التحقيق بأنه يجب تأويل الدليل السمعي، لأنه إذا لم يمكن الجمع بين ظاهر [ ص: 331 ] النقل وبين مقتضى الدليل العقلي، فإما أن نكذب بالعقل وإما نأول النقل، فإن كذبنا العقل، مع أن النقل لا يمكن إثباته إلا بالعقل، فإن الطريق إلى إثبات الصانع ومعرفة النبوة ليس إلا العقل، فحينئذ تكون صحة النقل متفرعة على ما يجوز فساده وبطلانه، فإذن لا يكون النقل مقطوع الصحة، فإذن تصحيح النقل برد العقل يتضمن القدح في النقل، وما أدى ثبوته إلى انتفائه كان باطلا، فتعين تأويل النقل.

فإذن الدليل السمعي لا يفيد اليقين بوجود مدلوله، إلا بشرط أن لا يوجد دليل عقلي على خلاف ظاهره، فحينئذ لا يكون الدليل النقلي مفيدا للمطلوب، إلا إذا بينا أنه ليس في العقل ما يقتضي خلاف ظاهره، ولا طريق لنا إلى إثبات ذلك الأمر إلا من وجهين: إما [ ص: 332 ] أن نقيم دلالة عقلية على صحة ما أشعر به ظاهر الدليل النقلي، وحينئذ يصير الاستدلال بالنقل فضلا غير محتاج إليه، وإما بأن نزيف أدلة المنكرين لما دل عليه ظاهر النقل، وذلك ضعيف لما بينا من أنه لا يلزم من فساد ما ذكروه أن لا يكون هناك معارض أصلا، اللهم إلا أن نقول: إنه لا دليل على هذه المعارضات فوجب نفيه، ولكنا زيفنا هذه الطريقة، أو نقيم دلالة قاطعة على أن المقدمة الفلانية غير معارضة لهذا النص، ولا المقدمة الفلانية الأخرى، وحينئذ يحتاج إلى إقامة الدلالة على أن كل واحدة من هذه المقدمات التي لا نهاية لها غير معارضة لهذا الظاهر، فثبت أنه لا يمكن حصول اليقين، بعدم ما يقتضي خلاف الدليل النقلي، وثبت أن الدليل النقلي يتوقف إفادته اليقين على ذلك، فإذا الدليل النقلي تتوقف إفادته على مقدمة غير يقينية، وهي عدم دليل [ ص: 333 ] عقلي، فوجب تأول ذلك النقل، وكل ما تبنى صحته على ما لا يكون يقينيا، لا يكون هو أيضا يقينيا، فثبت أن ذلك الدليل النقلي من هذا القسم لا يكون مفيدا لليقين".

قال: "وهذا بخلاف الأدلة العقلية، فإنها مركبة من مقدمات لا يكتفى منها بأن لا يعلم فسادها، بل لا بد وأن يعلم بالبديهية صحتها، ويعلم بالبديهية لزومها مما علم صحته بالبديهية ومتى كان كذلك استحال أن يوجد ما يعارضه لاستحالة التعارض في العلوم البديهية".

التالي السابق


الخدمات العلمية