الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في صلاة الاستسقاء

                                                                                                          556 حدثنا يحيى بن موسى حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عباد بن تميم عن عمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالناس يستسقي فصلى بهم ركعتين جهر بالقراءة فيها وحول رداءه ورفع يديه واستسقى واستقبل القبلة قال وفي الباب عن ابن عباس وأبي هريرة وأنس وآبي اللحم قال أبو عيسى حديث عبد الله بن زيد حديث حسن صحيح وعلى هذا العمل عند أهل العلم وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحق وعم عباد بن تميم هو عبد الله بن زيد بن عاصم المازني

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( عن عباد بن تميم ) بن غزية الأنصاري المازني المدني ، ثقة من الثالثة ، وقد قيل : إن له رؤية ( عن عمه ) قال في التقريب : اسم عمه عبد الله بن زيد بن عاصم وهو أخو أبيه لأمه ، انتهى .

                                                                                                          تنبيه :

                                                                                                          اعلم أن عمه هو عبد الله بن زيد بن عاصم بن مازن الأنصاري ، لا عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري الخزرجي الذي رأى الأذان في المنام . وهما مختلفان ، ومن ظنهما واحدا فقد غلط وأخطأ .

                                                                                                          قوله : ( خرج بالناس ) ، أي إلى المصلى كما في رواية الشيخين ( يستسقي ) حال أو استئناف فيه معنى التعليل ( فصلى بهم ركعتين ) فيه دليل على أن الصلاة في الاستسقاء سنة . وقال الشافعي وأحمد ومالك والجمهور ، وهو قول أبي يوسف ومحمد ، قال محمد في موطئه : أما أبو حنيفة -رحمه الله- فكان لا يرى في الاستسقاء صلاة ، وأما في قولنا ، فإن الإمام يصلي بالناس ركعتين ثم يدعو ويحول رداءه ، انتهى .

                                                                                                          قلت : قول الجمهور هو الصواب والحق ؛ لأنه قد ثبت صلاته -صلى الله عليه وسلم- ركعتين في الاستسقاء من أحاديث كثيرة صحيحة .

                                                                                                          منها : حديث عبد الله بن زيد المذكور في الباب ، وهو حديث متفق عليه ، ومنها حديث أبي هريرة ، أخرجه أحمد وابن ماجه ، ومنها حديث ابن عباس أخرجه أصحاب السنن الأربعة ، ومنها : حديث عائشة أخرجه أبو داود وقال : غريب وإسناده جيد ، ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك ، وقال : حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، فهذه الأحاديث حجة بينة لقول الجمهور ، وهي حجة على الإمام أبي حنيفة .

                                                                                                          قال بعض العلماء في تعليقه على موطأ الإمام محمد بعد ذكر هذه الأحاديث ما لفظه : وبه ظهر ضعف قول صاحب الهداية في تعليل مذهب أبي حنيفة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استسقى ولم يرو عنه الصلاة ، انتهى . فإنه إن أراد أنه لم يرو بالكلية فهذه الأخبار تكذبه ، وإن أراد أنه لم يرو في بعض الروايات فغير قادح ، انتهى .

                                                                                                          وقد رد على قول صاحب الهداية المذكور الحافظ الزيلعي في نصب الراية ؛ حيث قال : أما استسقاؤه -عليه السلام- فصحيح ثابت ، وأما أنه لم يرو عنه الصلاة فهذا غير صحيح ، بل صح أنه صلى فيه ، وليس في الحديث أنه استسقى ولم يصل ، بل غاية ما يوجد ذكر الاستسقاء دون ذكر الصلاة ، ولا يلزم من عدم ذكر الشيء عدم وقوعه ، انتهى .

                                                                                                          قال العيني في شرح البخاري : قال أبو حنيفة : ليس في الاستسقاء صلاة مسنونة في [ ص: 105 ] جماعة ، فإن صلى الناس وحدانا جاز ، إنما الاستسقاء الدعاء والاستغفار ، ثم ذكر أحاديث الاستسقاء التي ليس فيها ذكر الصلاة ثم قال : وأجيب عن الأحاديث التي فيها الصلاة أنه -صلى الله عليه وسلم- فعلها مرة وتركها أخرى ، وذا لا يدل على السنية وإنما يدل على الجواز ، انتهى . وكذلك قال غير واحد من العلماء الحنفية .

                                                                                                          ورده بعض العلماء الحنفية في تعليقه على موطأ الإمام محمد ؛ حيث قال : وأما ما ذكروا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعله مرة وتركه أخرى فلم يكن سنة فليس بشيء ، فإنه لا ينكر ثبوت كليهما مرة هذا ومرة هذا ، لكن يعلم من تتبع الطرق أنه لما خرج بالناس إلى الصحراء صلى فتكون الصلاة مسنونة في هذه الحالة بلا ريب ، ودعاؤه المجرد كان في غير هذه الصورة ، انتهى كلامه . وقال في حاشية شرح الوقاية : ولعل هذه الأخبار لم تبلغ الإمام وإلا لم ينكر استنان الجماعة ، انتهى . قلت : هذا هو الظن به ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                          فإن قلت : استدل الإمام أبو حنيفة بقوله تعالى : استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا قال : علق نزول الغيث بالاستغفار لا بالصلاة ، فكان الأصل فيه هو الاستغفار ، فقوله تعالى هذا يدل على سنية الصلاة في الاستسقاء .

                                                                                                          قلت : قوله تعالى هذا لا ينافي سنية الصلاة في الاستسقاء وليس فيه نفيها ، وقد ثبت بأحاديث صحيحة أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى مع الناس في الاستسقاء ، فاستدلاله بقوله تعالى هذا غير صحيح ، ولذلك خالفه أصحابه ؛ الإمام محمد وغيره ( جهر بالقراءة فيهما ) قال النووي في شرح مسلم : أجمعوا على استحبابه وكذا نقل الإجماع على استحباب الجهر ابن بطال ( وحول رداءه ) كيفية تحويل الرداء أن يأخذ بيده اليمنى الطرف الأسفل من جانب يساره وبيده اليسرى الطرف الأسفل أيضا من جانب يمينه ويقلب يديه خلف ظهره ؛ بحيث يكون الطرف المقبوض بيده اليمنى على كتفه الأعلى من جانب اليمين والطرف المقبوض بيده اليسرى على كتفه الأعلى من جانب اليسار ، فإذا فعل ذلك فقد انقلب اليمين يسارا واليسار يمينا والأعلى أسفل وبالعكس ، كذا في المرقاة .

                                                                                                          وقال الحافظ في الفتح : وقد وقع بيان المراد من ذلك في زيادة سفيان عن المسعودي عن أبي بكر بن محمد ولفظه : قلب رداءه جعل اليمين على الشمال ، وزاد فيه ابن ماجه وابن خزيمة من هذا الوجه : والشمال على اليمين ، وله شاهد أخرجه أبو داود من طريق الزبيدي عن الزهري عن عباد بلفظ : فجعل عطافه الأيمن على عاتقه الأيسر وعطافه الأيسر على عاتقه الأيمن ، وله من طريق عمارة بن غزية عن عباد : استسقى وعليه خميصة سوداء فأراد أن يأخذ [ ص: 106 ] بأسفلها فيجعله أعلاها ، فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه . وقد استحب الشافعي في الجديد فعل ما هم به -صلى الله عليه وسلم- من تنكيس الرداء مع التحويل الموصوف ، وزعم القرطبي كغيره أن الشافعي اختار في الجديد تنكيس الرداء لا تحويله ، والذي في الأم ما ذكرته ، والجمهور على استحباب التحويل فقط ، ولا ريب أن الذي استحبه الشافعي أحوط ، وعن أبي حنيفة وبعض المالكية لا يستحب شيء من ذلك ، انتهى كلام الحافظ .

                                                                                                          فائدة : في بيان محل تحويل الرداء . فاعلم أن محله في أثناء الخطبة حين يستقبل القبلة للدعاء ، ففي رواية لمسلم خرج إلى المصلى يستسقي وأنه لما أراد أن يدعو استقبل القبلة وحول رداءه ، وفي أخرى له فجعل إلى الناس ظهره يدعو الله واستقبل القبلة وحول رداءه ، وفي رواية للبخاري : خرج بالناس يستسقي لهم فقام فدعا الله قائما ، ثم توجه قبل القبلة وحول رداءه . قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذه الروايات : عرف بذلك أن التحويل وقع في أثناء الخطبة عند إرادة الدعاء . وقال في موضع آخر : محل هذا التحويل بعد فراغ الموعظة وإرادة الدعاء ، انتهى . وقال النووي في شرح مسلم : قال أصحابنا : يحوله في نحو ثلث الخطبة الثانية وذلك حين يستقبل القبلة ، انتهى .

                                                                                                          فائدة ثانية : قال الحافظ في الفتح : استحب الجمهور أن يحول الناس بتحويل الإمام ، ويشهد له ما رواه أحمد عن عباد في هذا الحديث بلفظ : وحول الناس معه . وقال الليث وأبو يوسف : يحول الإمام وحده فاستثنى ابن الماجشون النساء فقال : لا يستحب في حقهن ، انتهى .

                                                                                                          قلت : فالقول الظاهر المعول عليه هو ما ذهب إليه الجمهور .

                                                                                                          فائدة أخرى :

                                                                                                          اختلف في حكمة هذا التحويل ، فجزم المهلب بأنه للتفاؤل بتحويل الحال عما هي عليه .

                                                                                                          وتعقبه ابن العربي بأن من شرط الفأل أن لا يقصد إليه ، قال : وإنما التحويل أمارة بينه وبين ربه ، قيل له : حول رداءك ليتحول حالك .

                                                                                                          وتعقب بأن الذي جزم به يحتاج إلى نقل ، والذي رده ورد فيه حديث رجاله ثقات أخرجه الدارقطني والحاكم من طريق جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جابر ، ورجح الدارقطني إرساله ، وعلى كل حال فهو أولى من القول بالظن .

                                                                                                          وقال بعضهم : إنما حول رداءه ؛ ليكون أثبت على عاتقه عند رفع يديه في الدعاء فلا يكون سنة في كل حال ، وأجيب بأن التحويل من جهة إلى جهة لا يقتضي الثبوت على العاتق ، فالحمل على المعنى الأول أولى فإن الاتباع أولى من تركه [ ص: 107 ] لمجرد احتمال الخصوص . كذا في الفتح . وفي الدراية وللحاكم من حديث جابر : وحول رداءه ليتحول القحط ، وللدارقطني من حديث أنس : وقلب رداءه لأن ينقلب القحط إلى الخصب ، انتهى . فالقول المعول عليه في حكمة التحويل هو ما جزم به المهلب .

                                                                                                          قوله : ( في الباب عن ابن عباس وأبي هريرة ) تقدم تخريج حديثهما ( وأنس ) أخرجه الطبراني في معجمه الوسط وسيأتي لفظه ( وآبي اللحم ) أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي .

                                                                                                          قوله : ( حديث عبد الله بن زيد حديث حسن صحيح ) وأخرجه أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي وأخرجه مسلم ولم يذكر الجهر بالقراءة .

                                                                                                          قوله : ( وعلى هذا العمل عند أهل العلم ) أي على ما يدل عليه حديث عبد الله بن زيد ( وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق ) وهو قول الجمهور وهو الحق .




                                                                                                          الخدمات العلمية