الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل :

[ فتاوى في حد الزنا ] { وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال : إن ابني كان عسيفا على هذا ، فزنى بامرأته ، فافتديت منه بمائة شاة وخادم ، وإني سألت رجالا من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام ، وأن على امرأة هذا الرجم ، فقال والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ، المائة والخادم رد عليك ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام ، واغد يا أنيس على امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها فاعترفت فرجمها } متفق عليه .

{ وقضى صلى الله عليه وسلم فيمن زنى ، ولم يحصن بنفي عام وإقامة الحد عليه } ذكره البخاري .

{ وقضى صلى الله عليه وسلم أن الثيب بالثيب جلد مائة ثم الرجم ، والبكر بالبكر جلد مائة ثم نفي سنة } ذكره مسلم .

{ وجاءه اليهود فقالوا : إن رجلا منهم وامرأة زنيا ، فقال لهم : ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟ فقالوا : نفضحهم ويجلدون ، فقال عبد الله بن سلام : كذبتم إن فيها الرجم ، فأتوا بالتوراة فنشروها ; فوضع أحدهم يده على آية الرجم ، فقرأ ما بعدها وما قبلها ، فقال له [ ص: 280 ] عبد الله بن سلام : ارفع يدك ، فرفع يده فإذا آية الرجم ، فقالوا : صدق يا محمد فيها آية الرجم ، فأمر بهما فرجما } ، متفق عليه .

ولأبي داود { أن رجلا منهم وامرأة زنيا ، فقالوا : اذهبوا به إلى هذا النبي ; فإنه بعث بالتخفيف ، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها منه ، واحتجبنا بها عند الله ، وقلنا : إنها فتيا نبي من أنبيائك ; فأتوه وهو جالس في المسجد في الصحابة ، فقالوا : يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا ؟ فلم يكلمهم بكلمة حتى أتى بيت مدراسهم فقام على الباب فقال : أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، ما تجدون في التوراة على من زنى إذ أحصن ؟ قالوا : يحمم ويجبه ويجلد ، والتجبيه : أن يحمل الزانيان على حمار ، وتقابل أقفيتهما ، ويطاف بهما ، فسكت شاب منهم ، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم سكت نظر إليه وأنشده فقال : اللهم إذ أنشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فما أول ما ارتخصتم أمر الله قال : زنى ذو قرابة ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم ; ثم زنى رجل في أسرة من الناس فأراد رجمه فحال قومه دونه ; وقالوا : لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم ; فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فإني أحكم بما في التوراة فأمر بهما فرجما } .

وعند أبي داود أيضا { أنه دعا بالشهود ، فجاءه أربعة ، فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة } .

{ وسأله صلى الله عليه وسلم ماعز بن مالك أن يطهره ، وقال : إني قد زنيت ، فأرسل إلى قومه : هل تعلمون بعقله بأسا تنكرون منه شيئا ؟ قالوا : ما نعلمه إلا أوفى العقل من صالحينا فيما نرى ، فأقر أربع مرات ، فقال له في الخامسة : أنكتها ؟ قال : نعم ، قال : حتى غاب ذلك منك في ذلك منها ؟ قال : نعم . قال : كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر ؟ قال : نعم ، قال : فهل تدري ما الزنا ؟ قال : نعم أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته حلالا ، قال : فما تريد بهذا القول ؟ قال : أريد أن تطهرني ، فأمر رجلا فاستنكهه ، ثم أمر به فرجم ، ولم يحفر له ، فلما وجد مس الحجارة فر يشتد حتى مر برجل معه لحي جمل فضربه وضربه الناس حتى مات ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هلا تركتموه وجئتموني به } .

وفي بعض طرق هذه القصة { أنه صلى الله عليه وسلم قال له : شهدت على نفسك أربع مرات ، اذهبوا به فارجموه } .

وفي بعضها : { فلما شهد على نفسه أربع مرات دعاه النبي صلى الله عليه وسلم قال : أبك جنون ؟ قال : لا ، قال : أهل أحصنت ؟ قال : نعم ، قال : اذهبوا به فارجموه } .

[ ص: 281 ] وفي بعض طرقها { أنه صلى الله عليه وسلم سمع رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه : ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب ، فسكت عنهما ثم سار ساعة حتى مر بجيفة حمار شائل برجليه ، فقال : أين فلان وفلان ؟ فقالا : نحن ذان يا رسول الله ، فقال : انزلا وكلا من جيفة هذا الحمار ، فقالا : يا نبي الله من يأكل هذا ؟ قال : فما نلتما من عرض أخيكما آنفا أشد أكلا منه ، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها } .

وفي بعض طرقها { أنه صلى الله عليه وسلم قال له : لعلك رأيت في منامك ، لعلك استكرهت } ، وكل هذه الألفاظ صحيحة .

وفي بعضها { أنه أمر فحفرت له حفيرة } ، ذكره مسلم ، وهي غلط من رواية بشير بن المهاجر ، وإن كان مسلم قد روى له في الصحيح فالثقة قد يغلط على أن أحمد وأبا حاتم الرازي قد تكلما فيه ، وإنما حصل الوهم من حفرة الغامدية ، فسرى إلى ماعز ، والله أعلم .

{ وجاءته صلى الله عليه وسلم الغامدية ، فقالت إني قد زنيت فطهرني ، وإنه رددها ، فقالت : ترددني كما رددت ماعزا فوالله إني لحبلى ، فقال : اذهبي حتى تلدي ، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة ، فقالت : هذا قد ولدته ، فقال : اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه ، فلما فطمته أتته به ، وفي يده كسرة من خبز ; فقالت : هذا قد فطمته وأكل الطعام ، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها ، وأمر الناس فرجموها ، فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فنضح الدم على وجهه ، فسبها ، فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم سبه إياها ، فقال مهلا يا خالد ، فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له ثم أمر بها فصل عليها ودفنت } ، ذكره مسلم .

{ وجاءه صلى الله عليه وسلم رجل ، فقال : يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه علي ، ولم يسأله عنه ، وحضرت الصلاة ، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فقام إليه الرجل فقال : يا رسول الله إني أصبت حدا فأقم في كتاب الله ، قال : أليس قد صليت معنا ؟ قال : نعم ، قال : فإن الله قد غفر لك ذنبك - أو قال - حدك } ، متفق عليه .

وقد اختلف في وجه هذا الحديث ; فقالت طائفة : أقر بحد لم يسمه فلم يجب على الإمام استفساره ، ولو سماه لحده كما حد ماعزا ، وقالت طائفة : بل غفر الله له بتوبته ، [ ص: 282 ] والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ، وعلى هذا فمن تاب من الذنب قبل القدرة عليه سقطت عنه حقوق الله - تعالى - كما تسقط عن المحارب ، وهذا هو الصواب .

{ وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال : أصبت من امرأة قبلة ، فنزلت : { أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين } فقال الرجل : إلي هذه ؟ فقال : بل لمن عمل بها من أمتي } متفق عليه .

وقد استدل به من يرى أن التعزير ليس بواجب ، وأن للإمام إسقاطه ، ولا دليل فيه ، فتأمله .

{ وخرجت امرأة تريد الصلاة ، فتجللها رجل فقضى حاجته منها ، فصاحت وفر ، ومر عليها غيره فأخذوه ; فظنت أنه هو وقالت : هذا الذي فعل بي ، فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمر برجمه ; فقام صاحبها الذي وقع عليها ، فقال : أنا صاحبها ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : اذهبي فقد غفر الله لك ، وقال للرجل قولا حسنا ، فقالوا : ألا ترجم صاحبها ؟ فقال لا ، لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم } ذكره أحمد وأهل السنن ، ولا فتوى ولا حكم أحسن من هذا .

فإن قيل : كيف أمر برجم البريء ؟ قيل : لو أنكر لم يرجمه ; ولكن لما أخذ وقالت : هو هذا ، ولم ينكر ، ولم يحتج عن نفسه ، فاتفق مجيء القوم به في صورة المريب ، وقول المرأة هذا هو ، وسكوته سكوت المريب ، وهذه القرائن أقوى من قرائن حد المرأة بلعان الرجل وسكوتها ، فتأمله .

التالي السابق


الخدمات العلمية