الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3305 ] (48) سورة الفتح مدنية

                                                                                                                                                                                                                                      وآياتها تسع وعشرون

                                                                                                                                                                                                                                      بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      إنا فتحنا لك فتحا مبينا (1) ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما (2) وينصرك الله نصرا عزيزا (3) هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما (4) ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما (5) ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا (6) ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما (7) إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا (8) لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا (9) إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما (10) سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا (11) بل [ ص: 3306 ] ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا (12) ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا .للكافرين سعيرا (13) ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما (14) سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا (15) قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما (16) ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما (17)

                                                                                                                                                                                                                                      هذه السورة مدنية، نزلت في السنة السادسة من الهجرة، عقب صلح الحديبية; وهي تتناول هذا الحادث الخطير وملابساته; وتصور حال الجماعة المسلمة وما حولها في إبانه: فبين وقت نزولها ووقت نزول سورة " محمد " التي تسبقها في ترتيب المصحف، نحو من ثلاث سنوات، تمت فيها تغيرات هامة وخطيرة في أحوال الجماعة المسلمة في المدينة. تغيرات في موقفها وموقف المناوئين لها، وتغيرات أهم في حالتها النفسية وصفتها الإيمانية، واستوائها على المنهج الإيماني في إدراك ونضج عميق.

                                                                                                                                                                                                                                      وقبل أن نتحدث عن السورة وجوها ودلالتها يحسن أن نمر بصورة للحادث الذي نزلت بصدده. لنعيش في الجو الذي كان المسلمون يعيشون فيه، وهم يتلقون هذا التنزيل الكريم:

                                                                                                                                                                                                                                      لقد أري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منامه أنه يدخل الكعبة هو والمسلمون محلقين رؤوسهم ومقصرين. وكان المشركون قد منعوهم منذ الهجرة من دخول مكة، حتى في الأشهر الحرم التي يعظمها العرب كلهم في الجاهلية، ويضعون السلاح فيها; ويستعظمون القتال في أيامها، والصد عن المسجد الحرام. حتى أصحاب الثارات كانوا يتجمعون في ظلال هذه الحرمة، ويلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه فلا يرفع في وجهه سيفا، ولا يصده عن البيت المحرم. ولكنهم خالفوا عن تقاليدهم الراسخة في هذا الشأن; وصدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين معه طوال السنوات الست التي تلت الهجرة. حتى كان العام السادس الذي أري [ ص: 3307 ] فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الرؤيا. وحدث بها أصحابه - رضوان الله عليهم - فاستبشروا بها وفرحوا.

                                                                                                                                                                                                                                      ورواية ابن هشام لوقائع الحديبية هي أوفى مصدر نستند إليه في تصورها. وهي في جملتها تتفق مع رواية البخاري ورواية الإمام أحمد ومع تلخيص ابن حزم في جوامع السيرة وغيرهم.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة شهر رمضان وشوالا (بعد غزوة بني المصطلق وما جاء في أعقابها من حديث الإفك) وخرج في ذي القعدة معتمرا لا يريد حربا. واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه; وهو يخشى من قريش الذي صنعوا أن يعرضوا له بحرب، أو يصدوه عن البيت. فأبطأ عليه كثير من الأعراب. وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمن معه من المهاجرين والأنصار، ومن لحق به من العرب; وساق معه الهدي، وأحرم بالعمرة، ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت ومعظما له.

                                                                                                                                                                                                                                      قال: وكان جابر بن عبد الله - فيما بلغني - يقول: كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مائة.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزهري: وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي. فقال: يا رسول الله! هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فخرجوا معهم العوذ المطافيل ، قد لبسوا جلود النمور; وقد نزلوا بذي طوى، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا. وهذا خالد بن الوليد في خيلهم، قد قدموها إلى كراع الغميم . قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب. ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب؟ فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة. فما تظن قريش؟ فو الله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله، أو تنفرد هذه السالفة". ثم قال: "من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟"..

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر، أن رجلا من أسلم قال: أنا يا رسول الله. قال: فسلك بهم طريقا وعرا أجرل بين شعاب. فلما خرجوا منه - وقد شق ذلك على المسلمين - وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للناس: "قولوا نستغفر الله ونتوب إليه". فقالوا ذلك. فقال: "والله إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل، فلم يقولوها".

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن شهاب الزهري: فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس فقال: "اسلكوا ذات اليمين" بين ظهري الحمض في طريق على ثنية المرار، مهبط الحديبية من أسفل مكة; قال: فسلك الجيش ذلك [ ص: 3308 ] الطريق. فلما رأت خيل قريش قترة الجيش، قد خالفوا عن طريقهم، رجعوا راكضين إلى قريش. وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا سلك في ثنية المرار بركت ناقته. فقال الناس: خلأت الناقة . فقال: "ما خلأت. وما هو لها بخلق. ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة. لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها - (وفي رواية البخاري: والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله تعالى إلا أعطيتهم إياها) . ثم قال للناس: "انزلوا" قيل له: يا رسول الله، ما بالوادي ماء ينزل عليه. فأخرج سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه. فنزل في قليب من تلك القلب، فغرزه في جوفه، فجاش بالرواء..

                                                                                                                                                                                                                                      فلما اطمأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه بديل بن ورقاء الخزاعي، في رجال من خزاعة، فكلموه، وسألوه ما الذي جاء به؟ فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا، وإنما جاء زائرا للبيت، ومعظما لحرمته. ثم قال لهم نحوا مما قال لبشر بن سفيان; فرجعوا إلى قريش فقالوا: يا معشر قريش، إنكم تعجلون على محمد. إن محمدا لم يأت لقتال، وإنما جاء زائرا لهذا البيت. فاتهموهم وجبهوهم، وقالوا: وإن كان جاء ولا يريد قتالا. فو الله لا يدخلها علينا عنوة أبدا، ولا تحدث بذلك عنا العرب.

                                                                                                                                                                                                                                      وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمها ومشركها، لا يخفون عنه شيئا كان بمكة. ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الأخيف أخا بني عامر بن لؤي. فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقبلا قال: "هذا رجل غادر". فلما انتهى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكلمه، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحوا مما قال لبديل وأصحابه; فرجع إلى قريش، فأخبرهم بما قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة أو ابن زبان. وكان يومئذ سيد الأحابيش ، وهو أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة. فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن هذا من قوم يتألهون - يعني يتعبدون - فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه". فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع إلى قريش، ولم يصل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إعظاما لما رأى. فقال لهم ذلك. فقالوا له: اجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك!

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن الحليس غضب عند ذلك. وقال: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم. أيصد عن بيت الله من جاء معظما له؟ والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد. قال: فقالوا له: مه. كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزهري: ثم بعثوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عروة بن مسعود الثقفي فقال: يا معشر قريش، إني قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذا جاءكم، من التعنيف وسوء اللفظ. وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد (وكان نسبه لأمه في بني عبد شمس) وقد سمعت بالذي نابكم، فجمعت من أطاعني من [ ص: 3309 ] قومي، ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسي. قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم. فخرج حتى جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلس بين يديه. ثم قال: يا محمد. أجمعت أوشاب الناس، ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم ؟ إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا. وأيم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا. قال: وأبو بكر خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد. فزجره وقال: أنحن نكشف عنه؟ قال: من هذا يا محمد؟ قال: "هذا ابن أبي قحافة". قال. أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها. ولكن هذه بها. قال: ثم جعل يتناول لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يكلمه. قال: والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديد. قال: فجعل يقرع يده إذا تناول لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقول: اكفف يدك عن وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن لا تصل إليك! قال: فيقول عروة: ويحك! ما أفظك وأغلظك! قال: فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له عروة: من هذا يا محمد؟ قال: "هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة". قال: أي غدر . وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس؟

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن هشام: أراد عروة بقوله هذا أن المغيرة قبل إسلامه قتل ثلاثة عشر رجلا من بني مالك من ثقيف، فتهايج الحيان من ثقيف: بنو مالك رهط المقتولين. والأحلاف رهط المغيرة. فودى عروة المقتولين ثلاث عشرة دية. وأصلح ذلك الأمر.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق: قال الزهري: فكلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنحو مما كلم أصحابه، وأخبره أنه لم يأت يريد حربا. فقام من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد رأى ما يصنع به أصحابه: لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه. فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش، إني جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه; وإني والله ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه; ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا. فروا رأيكم.


                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا خراش بن أمية الخزاعي فبعثه إلى قريش بمكة، وحمله على بعير له يقال له: الثعلب. ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له. فعقروا به جمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأرادوا قتله، فمنعته الأحابيش، فخلوا سبيله حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق: وحدثني بعض من لا أتهم، عن عكرمة مولى ابن عباس (عن ابن عباس) أن قريشا كانوا بعثوا أربعين رجلا منهم، أو خمسين رجلا، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا. فأخذوا أخذا، فأتي بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعفا عنهم، وخلى سبيلهم. وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحجارة والنبل.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له. فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني. وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي [ ص: 3310 ] عليها. ولكني أدلك على رجل أعز بها مني. عثمان بن عفان. فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان بن عفان، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وأنه إنما جاء زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق: فخرج عثمان إلى مكة، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص، حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها; فحمله بين يديه، ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش، فبلغهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أرسله به; فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين أن عثمان بن عفان قد قتل.


                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال - حين بلغه أن عثمان قد قتل - : "لا نبرح حتى نناجز القوم". فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة. فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الموت. وكان جابر بن عبد الله يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبايعنا على الموت، ولكن بايعنا على ألا نفر. فبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة. فكان جابر بن عبد الله يقول: والله لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته قد ضبأ إليها ، يستتر بها من الناس. ثم أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن هشام: وحدثني من أثق به، عمن حدثه بإسناد له، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بايع لعثمان، فضرب بإحدى يديه على الأخرى.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق: قال الزهري: ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو أخا بني عامر بن لؤي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا له: إيت محمدا فصالحه، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فوالله لا تحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبدا. فأتاه سهيل بن عمرو، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقبلا قال: - "قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل". فلما انتهى سهيل بن عمرو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تكلم فأطال الكلام. وتراجعا. ثم جرى بينهما الصلح.

                                                                                                                                                                                                                                      فلما التأم الأمر، ولم يبق إلا الكتاب وثب عمر بن الخطاب فأتى أبا بكر، فقال: يا أبا بكر، أليس برسول الله؟ قال: بلى! قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى! قال: أو ليسوا بالمشركين؟ قال: بلى! قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال أبو بكر: يا عمر، الزم غرزه ، فإني أشهد أنه رسول الله. قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله. ثم أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، ألست برسول الله؟ قال: بلى! قال: أو لسنا بالمسلمين؟ قال: بلى! قال: أو ليسوا بالمشركين؟ قال: بلى! قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال: "أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيعني" . قال: فكان عمر يقول: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمت به، حين رجوت أن يكون خيرا.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3311 ] قال: ثم دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب - رضوان الله عليه - فقال: "اكتب باسم الله الرحمن الرحيم" قال: فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب باسمك اللهم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "اكتب باسمك اللهم" فكتبها. ثم قال: "اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو". قال: فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك; ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو. اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيهن الناس، ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليه، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه، وأن بيننا عيبة مكفوفة . وأنه لا إسلال ولا إغلال ، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه" - فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقدة قريش وعهدهم - وأنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك، فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثا، معك سلاح الراكب: السيوف في القرب، لا تدخلها بغيرها.

                                                                                                                                                                                                                                      فبينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو، إذ جاء أبو جندل بن سهيل ابن عمرو يرسف في الحديد، قد انفلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرجوا وهم لا يشكون في الفتح، لرؤيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع، وما تحمل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل الناس من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون. فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه، ثم قال: يا محمد، قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا. قال: "صدقت" فجعل ينتره بتلبيبه ويجره ليرده إلى قريش وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أأرد إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ فزاد الناس إلى ما بهم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله. وإنا لا نغادر بهم". قال: فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه، ويقول: اصبر يا أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب. قال: ويدني قائم السيف منه. قال: يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب أباه. قال: فضن الرجل بأبيه، ونفذت القضية .

                                                                                                                                                                                                                                      فلما فرغ من الكتاب أشهد على الصلح رجال من المسلمين ورجال من المشركين: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، ومحمود بن مسلمة، ومكرز بن حفص (وهو يومئذ مشرك) وعلي بن أبي طالب، وكتب، وكان هو كاتب الصحيفة.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزهري: فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: "قوموا [ ص: 3312 ] فانحروا ثم احلقوا" قال: فو الله ما قام منهم رجل، حتى قال - صلى الله عليه وسلم - ذلك ثلاث مرات. فلما لم يقم منهم أحد دخل - صلى الله عليه وسلم - على أم سلمة - رضي الله عنها - فذكر لها ما لقي من الناس. قالت (أم سلمة) - رضي الله عنها - : يا نبي الله، أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك، نحر بيده، ودعا حالقه فحلقه. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما.


                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس. قال: حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يرحم الله المحلقين". قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: "يرحم الله المحلقين". قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: "يرحم الله المحلقين". قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: "والمقصرين". فقالوا: يا رسول الله، فلم ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين؟ قال: "لم يشكوا"..

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزهري في حديثه.. ثم انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجهه ذلك قافلا. حتى إذا كان بين مكة والمدينة نزلت سورة الفتح.

                                                                                                                                                                                                                                      وروى الإمام أحمد - بإسناده - عن مجمع بن حارثة الأنصاري - رضي الله عنه - وكان أحد القراء الذين قرأوا القرآن. قال: شهدنا الحديبية، فلما انصرفنا عنها إذا الناس ينفرون الأباعر، فقال الناس بعضهم لبعض: ما للناس؟ قالوا: أوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرجنا مع الناس نوجف. فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على راحلته عند كراع الغميم، فاجتمع الناس عليه فقرأ عليهم: إنا فتحنا لك فتحا مبينا .. قال: فقال رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أي رسول الله أو فتح هو؟ قال - صلى الله عليه وسلم - : "إي ، والذي نفس محمد بيده إنه لفتح".

                                                                                                                                                                                                                                      وروى الإمام أحمد بإسناده - عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر. قال: فسألته عن شيء ثلاث مرات فلم يرد علي. قال: فقلت ثكلتك أمك يا ابن الخطاب. ألححت. كررت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات، فلم يرد عليك! قال: فركبت راحلتي، فحركت بعيري، فتقدمت، مخافة أن يكون نزل في شيء. قال: فإذا أنا بمناد يا عمر. قال: فرجعت وأنا أظن أنه نزل في شيء. قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "نزل علي البارحة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها: إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر".. ورواه البخاري والترمذي والنسائي من طرق عن مالك رحمه الله..

                                                                                                                                                                                                                                      هذا هو الجو الذي نزلت فيه السورة. الجو الذي اطمأنت فيه نفس الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى إلهام ربه، فتجرد من كل إرادة إلا ما يوحيه هذا الإلهام العلوي الصادق; ومضى يستلهم هذا الإيحاء في كل خطوة وفي كل حركة، لا يستفزه عنه مستفز، سواء من المشركين أو من أصحابه الذين لم تطمئن نفوسهم في أول الأمر لقبول استفزاز المشركين وحميتهم الجاهلية. ثم أنزل الله السكينة في قلوبهم، ففاءوا إلى الرضى واليقين والقبول الخالص العميق; كإخوانهم الذين كانوا على هذه الحال منذ أول الأمر، شأن الصديق أبي بكر الذي لم تفقد روحه لحظة واحدة صلتها الداخلية المباشرة بروح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن ثم [ ص: 3313 ] بقيت على اطمئنانها دائما، ولم تفارقها الطمأنينة أبدا.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ثم جاء افتتاح السورة بشرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فرح لها قلبه الكبير فرحا عميقا: إنا فتحنا لك فتحا مبينا، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما. وينصرك الله نصرا عزيزا .

                                                                                                                                                                                                                                      كما جاء في الافتتاح، الامتنان على المؤمنين بالسكينة، والاعتراف لهم بالإيمان السابق وتبشيرهم بالمغفرة والثواب، وعون السماء بجنود الله: هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا - مع إيمانهم - ولله جنود السماوات والأرض، وكان الله عليما حكيما، ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، ويكفر عنهم سيئاتهم، وكان ذلك عند الله فوزا عظيما .. ذلك مع ما أعده لأعدائهم من المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات من غضب وعذاب: ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات، الظانين بالله ظن السوء، عليهم دائرة السوء، وغضب الله عليهم ولعنهم، وأعد لهم جهنم، وساءت مصيرا ..

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية