الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل في الربا

قد تدبرت [الربا] مرات عودا على بدء ، وما فيه من النصوص والمعاني والآثار ، فتبين لي -ولا حول ولا قوة إلا بالله- بعد استخارة الله أن أصل الربا هو الإنساء ، مثل أن يبيع الدراهم إلى أجل بأكثر منها ، ومنها أن يؤخر دينه ويزيد في المال . وهذا هو الربا الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية . وقد سئل أحمد بن حنبل عن الربا الذي لا شك فيه ، فذكر هذا ، وهو أن يكون له دين فيقول له : أتقضي أم تربي ؟ فإن لم يقضه زاده في المال ، وزاده هذا في الأجل ، فيربو المال على المحتاج من غير نفع حصل له ، ويزيد مال المربي من غير نفع حصل منه للمسلمين . فهذا حرمه الله تعالى ؛ لأن فيه ضررا على المحاويج ، وفيه أكل المال بالباطل .

وقد كان من العلماء المشهورين في زماننا غير واحد يقولون : لا نعرف حكم تحريم الربا ، وذلك أنهم نظروا في جملة ما يحرم ، فلم يروا فيه مفسدة ظاهرة . والتحقيق أن الربا نوعان : جلي وخفي ، فالجلي حرم لما فيه من الضرر والظلم ، والخفي حرم لأنه ذريعة إلى الجلي . [ ص: 282 ]

فربا النساء من الجلي ، فإنه يضر بالمحاويج ضررا عظيما ظاهرا ، وهذا مجرب ، والغني يأكل أموال الناس بالباطل ؛ لأن ماله ربا من غير نفع حصل للخلق ، ولهذا جعل الله الربا ضد الصدقات ، فقال : يمحق الله الربا ويربي الصدقات [البقرة :276] . وقال : وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون [الروم :39] . وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم في أول ما أنزل عليه : ولا تمنن تستكثر [المدثر :6] . وقال : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة الآيات إلى قوله تعالى : والله يحب المحسنين [آل عمران :130 - 134] . فنهى عن الربا الذي فيه ظلم الناس ، وأمر بالإحسان إلى الناس المضاد للربا .

وفي الصحيحين عن ابن عباس عن أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إنما الربا في النسيئة » . وهذا الحصر يراد به حصول الكمال ، فإن الربا الكامل هو في النسيئة ، كما قال ابن مسعود : إنما العالم الذي يخشى الله . وكما قال تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم [الأنفال :2] ، ومثل ذلك كثير .

فأما ربا الفضل فإنما نهي عنه لسد الذريعة ، كما في المسند مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حديث سعد : «لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين ، فإني [ ص: 283 ] أخاف عليكم الرماء . والرماء هو الربا » .

التالي السابق


الخدمات العلمية