الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق الخامس والأربعون والمائتان بين قاعدة القذف إذا وقع من الأزواج للزوجات فإن اللعان يتعدد بتعددهن إذا قذف الزوج زوجاته في مجلس أو مجلسين وبين قاعدة الجماعة يقذفهم الواحد فإن الحد يتحد عندنا ) فإن قام به واحد سقط كل قذف قبله وقاله أبو حنيفة وقال الشافعي إن قذفهم بكلمات متفرقة فعليه لكل واحدة حد وقاله ابن حنبل أو بكلمة واحدة فقولان عند الشافعي وأحمد وبناه الحنفية على أنه حق لله فصح التداخل فيه وبناه الآخرون على أنه حق لآدمي فيتعدد ويلزمنا أن يكون عندنا قولان بناء على أن حد القذف حق لله تعالى أم لا ؛ لأن لنا في هذه القاعدة قولين حكاهما العبدي واللخمي وغيرهما لنا أن { هلال بن أمية العجلاني رمى امرأته بشريك ابن سحماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم حد في ظهرك أو تلتعن } ، ولم يقل حدان وجلد عمر الشهود على المغيرة حدا واحدا مع أن كل واحد منهم قذف المغيرة والمزني بها وقد { حد رسول الله صلى الله عليه وسلم قذفة عائشة رضي الله عنها ثمانين ثمانين } رواه أبو داود مع أنهم قذفوا عائشة رضي الله عنها وصفوان بن المعطل وقياسا على حد الزنا احتجوا بوجوه : أحدها القياس على الزوجات الأربع فإنه يحتاج للعانات أربع . وثانيها أنه حق لآدمي فلا يدخله التداخل كالغصب وغيره . والثالث أنه لا يسقط بالرجوع فلا يتداخل كالإقرار بالمال ، والجواب عن الأول وهو الفرق [ ص: 176 ] بين القاعدتين أنه أيمان والأيمان لا تتداخل بخلاف الحدود فلو وجب لجماعة أيمان لم تتداخل وعن الثاني أنه لا يتكرر في الشخص الواحد فلو غلب فيه حق لآدمي لم يتداخل في الشخص الواحد كما لم يتداخل الإتلاف وهو الجواب عن الثالث .

( تنبيه ) تخيل بعض أصحابنا وجماعة من الفقهاء أن قوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } أن مقابلة جمع المحصنات بجلد ثمانين يقتضي لغة أن حد الجماعة يكون حدا واحدا ويحصل التداخل وهو المطلوب ، وهذا باطل بسبب قاعدة وهي أن مقابلة الجمع بالجمع في اللغة تارة توزع الأفراد على الأفراد كقوله تعالى { ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة } فلا يصح إلا التوزيع من كل واحد رهن يؤمر به وكقولنا الدنانير للورثة وتارة لا يوزع الجمع بل يثبت أحد الجمعين لكل فرد من الجمع الآخر نحو الثمانين جلد القذف أو جلد القذف ثمانون وتارة يثبت الجمع للجمع ، ولا يحكم على الأفراد نحو الحدود للجنايات إذا قصد أن المجموع للمجموع وتارة يرد اللفظ محتملا للتوزيع وعدمه كقوله تعالى { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات } يحتمل أن يكون لكل واحد من المؤمنين عدد جنات بمعنى بساتين داخل الجنة ومنازل ، ويحتمل أن توزع فيكون لبعضهم جنة الفردوس ولبعضهم جنة المأوى ولبعضهم أهل عليين ، وإذا اختلف أحوال المقابلة بين الجمع بالجمع وجب أن يعتقد أنه حقيقة في أحد هذه الأحوال [ ص: 177 ] الثلاث لئلا يلزم الاشتراك أو المجاز فيبطل الاستدلال به على مقابلة الجماعة المقذوفة بحد واحد كما تخيله الطرطوشي وغيره فقد تقدم الفرق بين الجماعة المقذوفة والزوجات بأنه أيمان ، ومن وجه آخر أن أحكام اللعان تعد في توجه الحد على المرأة وانتفاء النسب والميراث وتأبد التحريم ووقوع الفرقة . وأما حد القذف فمقصود واحد وهو التشفي وذلك يحصل بجلد واحد ثم لما اختلفت الأحكام أمكن ثبوت براءة هذه دون هذه أو بحد أو بغير ذلك من الأحكام فناسب إفراد كل واحد بلعان لتوقع ثبوت بعض تلك الأحكام في بعض دون الباقي . ومن وجه آخر أن الزوجية مطلوبة للبقاء فناسب التغليظ بالتعدد ، وليس بين القاذف والمقذوف ما يقتضي ذلك .

التالي السابق


حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق السابع والأربعون والمائتان بين قاعدة القذف إذا وقع من الزوج الواحد لزوجاته المتعددات يتعدد اللعان بتعددهن قذفهن في مجلس أو مجلسين وبين قاعدة الجماعة يقذفهم الواحد يتحد الحد فيه عندنا ) . فإن قام به واحد من الجماعة سقط كل قذف قبله وقاله أبو حنيفة أيضا إلا أنه بناه على أن حد القذف حق لله فصح التداخل فيه وقال الشافعي وأحمد بن حنبل إن قذفهم بكلمات متفرقة فعليه لكل واحد حد أو بكلمة واحدة فقولان عندهما وبنيا ذلك على قولهما إن حد القذف حق لآدمي فيتعدد وعندنا في أن حد القذف حق لله تعالى أم لا قولان حكاهما العبدي واللخمي وغيرهما فكان يلزمنا أن يكون عندنا قولان بالتعدد كما قال الشافعي وابن حنبل بناء على أنه حق لآدمي وبالاتحاد كما قلنا نحن وأبو حنيفة بناء على أنه حق لله تعالى إلا أن حجتنا على الاقتصار على الاتحاد وجوه .

( الوجه الأول ) أن { هلال بن أمية العجلاني رمى امرأته بشريك ابن سحماء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم حد في ظهرك أو تلتعن } ، ولم يقل حدان . ( الوجه الثاني ) أن عمر رضي الله عنه جلد الشهود على المغيرة حدا واحدا مع أن كل واحد منهم قذف المغيرة والمزني بها . ( الوجه الثالث ) { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حد قذفة عائشة رضي الله عنها ثمانين ثمانين } رواه أبو داود مع أنهم قذفوا عائشة رضي الله عنها وصفوان بن المعطل . ( الوجه الرابع ) القياس على حد الزنا .

( الوجه الخامس ) أن احتجاجهم بالقياس على قذف الزوج لزوجاته الأربع يحتاج للعانات أربع مدفوع بالفرق بينهما بوجوه . ( الأول ) أن اللعان أيمان والأيمان لا تتداخل فلو وجب لجماعة أيمان لم تتداخل بخلاف الحدود . ( الثاني ) أن أحكام اللعان لما تعددت واختلفت وهي توجه الحد على المرأة وانتفاء النسب والميراث وتأبد التحريم ووقوع الفرقة أمكن ثبوت [ ص: 204 ] براءة هذه دون هذه بحد أو بغير ذلك من الأحكام فناسب إفراد كل واحدة بلعان لتوقع ثبوت بعض تلك الأحكام في بعض دون الباقي والمقصود بحد القذف واحد ، وهو التشفي وذلك يحصل بجلد واحد . ( والثالث ) أن الزوجية مطلوبة للبقاء فناسب التغليظ بالتعدد ، وليس بين القاذف والمقذوف ما يقتضي ذلك . ( الوجه السادس ) أن احتجاجهم بأن حد القذف حق لآدمي فلا يدخله التداخل كالغصب أو غيره وبأنه لا يسقط بالرجوع فلا يتداخل كالإقرار بالمال مدفوعان بأنه لا يتكرر في الشخص الواحد فلو غلب فيه حق الآدمي لم يتداخل في الشخص الواحد كما لم يتداخل الإتلاف .

( الوجه السابع ) أن قوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } لا يقتضي لغة من جهة مقابلة جمع المحصنات بجلد ثمانين أن حد الجماعة يكون حدا واحدا ويحصل التداخل ، وإن تخيله الطرطوشي من أصحابنا وجماعة من الفقهاء وذلك ؛ لأن القاعدة أن مقابلة الجمع بالجمع في اللغة تارة توزع الأفراد على الأفراد كقوله { ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة } فلا يصح إلا التوزيع ، وأن من كل واحد رهنا يؤمر به ، وكقولنا الدنانير للورثة ، وتارة لا يوزع الجمع على الجمع بل يثبت أحد الجمعين لكل فرد من الجمع الآخر نحو : الثمانون جلد القذف أو جلد القذفة ثمانون ، وتارة يثبت الجمع للجمع ، ولا يحكم على الأفراد نحو : الحدود للجنايات إذا قصد أن المجموع للمجموع وتارة يرد اللفظ محتملا للتوزيع وعدمه كقوله تعالى { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات } فيحتمل أن يكون لكل واحد من المؤمنين عدد جنات بمعنى بساتين داخل الجنة ومنازل ، ويحتمل أن توزع فيكون لبعضهم جنة الفردوس ولبعض جنة المأوى ولبعضهم أعلى عليين ، وإذا اختلفت أحوال مقابلة الجمع بالجمع وجب أن يعتقد أنه حقيقة في أحد هذه الأحوال الثلاث لئلا يلزم الاشتراك أو المجاز فيبطل استدلال الطرطوشي وجماعة الفقهاء به على مقابلة الجماعة المقذوفة بحد واحد ، هذا تهذيب ما في الأصل وصححه ابن الشاط .

قلت وفي نفسي شيء من قول الأصل : وجب أن يعتقد أنه حقيقة إلخ وذلك أنه إن أراد حقيقة في أحد هذه الأحوال الثلاث بلا تعيين لذلك الأحد وإنما يتعين بالقرينة كان هذا عين الاشتراك فلا يصح قوله لئلا يلزم الاشتراك وأنه حقيقة في أحدها مع التعيين كان هذا هو الحقيقة والمجاز فلا يصح قوله أو المجاز نعم قد يقال أراد بالحقيقة الماهية الكلية الصادقة على الأفراد الثلاثة كالإنسان على أفراده فيصح قوله لئلا يلزم إلخ بشقيه ويكون استعماله في واحد من الثلاث حقيقة إن كان من حيث كونه فردا ، ومجازا إن كان من حيث خصوصه على الصحيح والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية