الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وكذلك ما جاء في الكتاب والسنة من حمل الأعمال، ووزنها، كقوله تعالى: قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون [الأنعام: 31]. [ ص: 188 ]

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم".

وفي السنن لأبي داود وغيره، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من شيء يوضع في الميزان يوم القيامة أثقل من خلق حسن".

[ ص: 189 ] والمعنى الظاهر الذي يظهر للمخاطب من قوله: "يجيء عمله في صورة رجل": أن الله تعالى يخلق من عمله صورة يصورها. ليس المعنى الظاهر أن نفس أقواله وأفعاله على صورة رجل؛ فإن هذا لا يظهر من هذا الخطاب، ولا يفهمه أحد منه.

وعلى هذا فلا يكون هذا الخطاب مصروفا عن ظاهره ولكن أزيل عنه المعنى الفاسد الذي يتأوله عليه المبتدع، حيث جعل نفس كلام الله الذي تكلم به هو الصورة المصورة، كما جعلوا نفس المسيح ابن مريم هو كلمة الله التي تكلم بها، وإنما المسيح تكون بكلمة الله، فسمي كلمة الله لذلك، وليس ظاهر الخطاب أن نفس كلام الله هو نفس جسد المسيح، فالمفعول بالكلمة والمفعول مما يقرؤه الإنسان و [يعمله] من الصالحات يسمى باسمها.

فلو قيل: إن في هذا نوعا من التوسع والتجوز حيث سمي [ ص: 190 ] ما يكون عن العمل باسم العمل لكان هذا سايغا، لكن ذلك لا يمنع أن يكون ذلك هو المعنى الظاهر كما تقدم نظيره.

هذا مع أن الناس قد تنازعوا في نفس الأعراض من الأعمال وغيرها، هل يجوز قلبها أجساما قائمة بأنفسها؟.

[وذكر النزاع في ذلك أبو] الحسن الأشعري، في كتاب (المقالات)، فقال: "واختلف -يعني أهل الكلام [ ص: 191 ] ونحوهم- في قلب الأعراض أجساما، والأجسام أعراضا، فقال قائلون: -منهم حفص الفرد وغيره: جائز أن تقلب الأعراض أجساما، والأجسام أعراضا، لأنه خلق الجسم جسما، والعرض عرضا، وإنما كان العرض عرضا بأن خلقه الله عرضا، وكان الجسم جسما بأن خلقه الله جسما فجائز أن يكون الذي خلقه الله عرضا أن يخلقه جسما، والذي خلقه جسما يخلقه عرضا. وكذلك زعم أن الله تعالى خلق اللون [ ص: 192 ] لونا، والطعم طعما، وكذلك قوله في سائر الأجناس، وأن الأشياء إنما هي [على ما هي] عليه بأن خلقت كذلك، وأن الإنسان لم يفعل الأشياء على ما هي عليه ولم تكن على ما هي عليه بأن فعلها كذلك".

قال: "وقال أكثر أهل النظر بإنكار قلب الأعراض أجساما، والأجسام أعراضا، وقالوا ذلك محال، لأن القلب إنما هو [رفع] الأعراض، وإحداث أعراض، والأعراض لا تحتمل أعراضا، واعتلوا بعلل كثيرة".

قلت: والقول الأول قول طوائف من العلماء، منهم [ ص: 193 ] أبو الوفاء بن عقيل قال في (كفايته) -في الجواب عن هذا الحديث، لما احتجت به المعتزلة على خلق القرآن- فقال: "والجواب أن هذا معنى ثوابها، بدليل قوله: "اتقوا النار ولو بشق تمرة". ومعلوم أن التمرة لا تقيه، فضلا عن شقها، وإنما [ ص: 194 ] المراد به: اتقوا النار ولو بثواب شق تمرة.

التالي السابق


الخدمات العلمية