الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 303 ] ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ذكر خروج عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس على ابن أخيه المنصور

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لما رجع أبو جعفر المنصور من الحج دخل الكوفة ، فخطب بأهلها يوم الجمعة ، ثم ارتحل منها إلى الأنبار ، وقد أخذت له البيعة من أهل العراق وخراسان وسائر البلاد سوى الشام ، وقد ضبط عيسى بن موسى بيوت الأموال والحواصل للمنصور حتى قدم ، فسلم إليه الأمر ، وكتب إلى عبد الله بن علي وهو بدروب الروم يعلمه بوفاة السفاح ، فلما بلغه الخبر نادى في الناس : الصلاة جامعة . فاجتمع إليه الأمراء والناس ، فقرأ عليهم وفاة السفاح ، ثم قام فيهم خطيبا ، فذكر أن السفاح كان عهد إليه حين بعثه إلى مروان أن يكون الأمر إليه من بعده ، وشهد له بعض أمراء خراسان بذلك ، ونهضوا إليه فبايعوه ، ورجع إلى حران فتسلمها من نائب المنصور بعد محاصرة أربعين ليلة ، وقتل مقاتل [ ص: 304 ] العكي نائبها ، فلما بلغ المنصور ما كان من أمر عمه عبد الله بن علي بعث إليه أبا مسلم الخراساني ، ومعه جماعة من الأمراء ، وقد تحصن عبد الله بن علي بحران ، وأرصد عنده مما يحتاج إليه من الأطعمة والسلاح شيئا كثيرا جدا . وسار أبو مسلم وعلى مقدمته مالك بن الهيثم الخزاعي ، ولما تحقق عبد الله بن علي قدوم أبي مسلم إليه خشي من جيش خراسان الذين معه أن لا يناصحوه ، فقتل منهم سبعة عشر ألفا ، وأراد قتل حميد بن قحطبة ، فهرب منه إلى أبي مسلم . وركب عبد الله بن علي ، فنزل نصيبين وخندق حول عسكره ، وأقبل أبو مسلم ، فنزل ناحية ، وكتب إلى عبد الله : إني لم أومر بقتالك ، وإنما بعثني أمير المؤمنين واليا على الشام فأنا أريدها . فخاف جنود الشام من هذا الكلام وقالوا : إنا نخاف على ذرارينا وأموالنا ، فنحن نذهب إليها نمنعهم منه . فقال عبد الله بن علي : ويحكم! والله إنه لم يأت إلا لقتالنا . فأبوا إلا أن يرتحلوا نحو الشام فتحول عبد الله من منزله ذلك ، وقصد ناحية الشام ، فنهض أبو مسلم ، فنزل في موضع عسكر عبد الله ، وغور ما حوله من المياه ، وكان نزل عبد الله منزلا جيدا جدا ، واحتاج عبد الله وأصحابه ، فنزلوا في الموضع الذي نزل فيه أبو مسلم فوجدوه منزلا رديئا ، ثم أنشأ أبو مسلم القتال ، فحاربهم خمسة أشهر أو ستة أشهر ، وكان على خيل عبد الله أخوه عبد الصمد بن علي ، وعلى ميمنته بكار بن مسلم العقيلي ، وعلى ميسرته حبيب بن سويد الأسدي ، وعلى ميمنة أبي مسلم الحسن بن قحطبة ، وعلى ميسرته أبو نصر خازم بن [ ص: 305 ] خزيمة ، وقد جرت بينهم وقعات ، وقتل منهم جماعات في أيام نحسات ، وقد كان أبو مسلم إذا حمل يرتجز ويقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      من كان ينوي أهله فلا رجع فر من الموت وفي الموت وقع

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان يعمل له عريش ، فيكون فيه إذا التقى الجيشان ، فما رأى في جيشه من خلل أرسل فأصلحه . فلما كان يوم الثلاثاء أو الأربعاء لسبع خلون من جمادى الآخرة التقوا ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، فمكر بهم أبو مسلم; بعث إلى الحسن بن قحطبة أمير الميمنة ، يأمره أن يتحول بمن معه إلا القليل ، إلى الميسرة ، فلما رأى ذلك أهل الشام انحازوا إلى الميمنة بإزاء الميسرة التي تعمرت ، فأرسل حينئذ أبو مسلم إلى القلب أن يحمل بمن بقي في الميمنة على ميسرة أهل الشام ، فحطموهم ، فجال أهل القلب والميمنة من الشاميين ، فحمل الخراسانيون فكانت الهزيمة ، وانهزم عبد الله بن علي بعد تلوم ، واحتاز أبو مسلم ما كان في معسكرهم من الأموال والحواصل ، وأمن أبو مسلم بقية الناس فلم يقتل منهم أحدا ، وكتب إلى المنصور بذلك ، فأرسل المنصور مولاه أبا الخصيب ليحصي ما وجدوا في معسكر عبد الله ، فغضب من ذلك أبو مسلم الخراساني ، واستوسقت الممالك لأبي جعفر المنصور في المشارق والمغارب ، ومضى عبد الله بن علي وأخوه عبد الصمد على وجوههما ، فلما مرا بالرصافة أقام بها عبد الصمد ، فلما رجع أبو الخصيب وجده بها ، فأخذه مقيدا في الحديد ، فأدخله على المنصور ، فدفعه إلى عيسى بن موسى ، فاستأمن له من المنصور ، وقيل : بل استأمن له إسماعيل بن علي . وأما عبد الله بن علي ، فإنه ذهب إلى أخيه سليمان بن علي بالبصرة ، فأقام [ ص: 306 ] عنده زمانا مختفيا ، ثم علم به المنصور ، فبعث إليه فسجنه ، فلبث في السجن تسع سنين ، ثم سقط عليه البيت الذي هو فيه فمات ، كما سيأتي بيانه في موضعه ، إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية