الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما الجمع بين الأجنبيات فنوعان أيضا : جمع في النكاح وجمع في الوطء ودواعيه بملك اليمين ، أما .

                                                                                                                                الجمع في النكاح فنقول : لا يجوز للحر أن يتزوج أكثر من أربع زوجات من الحرائر والإماء عند عامة العلماء .

                                                                                                                                وقال بعضهم : يباح له الجمع بين التسع .

                                                                                                                                وقال بعضهم : يباح له الجمع بين ثمانية عشر واحتجوا بظاهر قوله تعالى : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع } .

                                                                                                                                فالأولون قالوا : إن الله تعالى ذكر هذه الأعداد بحرف الواو ، وأنه للجمع ، وجملتها تسعة ، فيقتضي إباحة نكاح تسع واستدلوا أيضا بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تزوج [ ص: 266 ] تسع نسوة وهو قدوة الأمة ، والآخرون قالوا : المثنى ضعف الاثنين ، والثلاث ضعف الثلاثة ، والرباع ضعف الأربعة فجملتها ثمانية عشر .

                                                                                                                                ولنا ما روي { أن رجلا أسلم وتحته ثمان نسوة فأسلمن فقال له رسول الله : صلى الله عليه وسلم اختر منهن أربعة وفارق البواقي } أمره صلى الله عليه وسلم بمفارقة البواقي ولو كانت الزيادة على الأربع حلالا لما أمره فدل أنه منتهى العدد المشروع - وهو الأربع - ولأن في الزيادة على الأربع خوف الجور عليهن بالعجز عن القيام بحقوقهن ; لأن الظاهر أنه لا يقدر على الوفاء بحقوقهن وإليه وقعت الإشارة بقوله عز وجل : { فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة } أي : أن لا تعدلوا في القسم والجماع والنفقة في نكاح المثنى والثلاث والرباع فواحدة بخلاف نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن خوف الجور منه غير موهوم ; لكونه مؤيدا على القيام بحقوقهن بالتأبيد الإلهي ، فكان ذلك من الآيات الدالة على نبوته ; لأنه آثر الفقر على الغنى والضيق على السعة وتحمل الشدائد والمشاق على الهوينا من العبادات والأمور الثقيلة ، وهذه الأشياء أسباب قطع الشهوات والحاجة إلى النساء ، ومع ذلك كان يقوم بحقوقهن دل أنه صلى الله عليه وسلم إنما قدر على ذلك بالله تعالى .

                                                                                                                                وأما الآية فلا يمكن العمل بظاهرها ; لأن المثنى ليس عبارة عن الاثنين ولا الثلاث عن الثلاث والرباع عن الأربع ، بل أدنى ما يراد بالمثنى مرتان من هذا العدد ، وأدنى ما يراد بالثلاث ثلاث مرات من العدد .

                                                                                                                                وكذا الرباع ، وذلك يزيد على التسعة وثمانية عشر ، ولا قائل به دل أن العمل بظاهر الآية متعذر فلا بد لها من تأويل ، ولها تأويلان : أحدهما : أن يكون على التخيير بين نكاح الاثنين والثلاث والأربع كأنه قال عز وجل : مثنى أو ثلاث أو رباع واستعمال الواو مكان أو جائز ، والثاني : أن يكون ذكر هذه الأعداد على التداخل ، وهو أن قوله : " وثلاث " تدخل فيه المثنى ، وقوله عز وجل : ورباع يدخل فيه الثلاث كما في قوله : { أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } ثم قال عز وجل : { وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام } واليومان الأولان داخلان في الأربع ; لأنه لو لم يكن كذلك لكان خلق هذه الجملة في ستة أيام ، ثم أخبر عز وجل أنه خلق السموات في يومين بقوله عز وجل : { فقضاهن سبع سموات في يومين } فيكون خلق الجميع في ثمانية أيام ، وقد أخبر الله تعالى أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام فيؤدي إلى الخلف في خبر من يستحيل عليه الخلف ، فكان على التداخل ، فكذا ههنا جاز أن يكون العدد الأول داخلا في الثاني والثاني في الثالث ، فكان في الآية إباحة نكاح الأربع ، ولا يجوز للعبد أن يتزوج أكثر من اثنين لما روينا من الحديث وذكرنا من المعنى فيما تقدم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية