الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 626 ] ثم دخلت سنة أربع وثمانين ومائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فيها رجع الرشيد من الرقة إلى بغداد ، فأخذ الناس بأداء بقايا الخراج الذي عليهم ، وولى رجلا يضرب الناس على ذلك ويحبس ، وولى على أطراف البلاد ، وعزل وقطع ووصل .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وخرج بالجزيرة أبو عمرو الشاري ، فبعث إليه الرشيد من قتله بشهرزور .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وحج بالناس فيها إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس العباسي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وممن توفي فيها من الأعيان : أحمد ابن أمير المؤمنين الرشيد كان زاهدا عابدا قد تنسك ، وكان لا يأكل إلا من عمل يديه ، يعمل في الطين ، وليس يملك إلا مرا وزنبيلا - أي مجرفة وقفة - وكان أجرته في كل يوم يعمل فيه من الجمعة إلى الجمعة درهما ودانقا ، وكان لا يعمل إلا في يوم السبت فقط ، ثم يقبل على العبادة بقية أيام الجمعة ، وكان من زبيدة في قول بعضهم ، والصحيح أنه من امرأة غيرها كان الرشيد قد أحبها فتزوجها سرا ، فحملت منه بهذا الغلام ثم أحدرها إلى البصرة وأعطاها خاتما من ياقوت أحمر ، وأشياء معها [ ص: 627 ] نفيسة ، وأمرها إذا أفضت إليه الخلافة أن تأتيه . فلما صارت الخلافة إليه لم تأته ولا ولدها ، وبلغه أنهما ماتا ، ولم يكن كذلك ، فكان هذا الشاب يعمل بيده ، ويأكل من كدها ، فاتفق مرضه في دار من كان يستعمله في الطين ، فمرضه عنده ، فلما احتضر أخرج الخاتم ، وقال لصاحب المنزل : اذهب بهذا إلى الرشيد ، وقل له : صاحب هذا الخاتم يقول لك : إياك أن تموت في سكرتك هذه فتندم فلما مات ودفنه وطلب الحضور بين يدي الخليفة ، فقال : ما حاجتك؟ قلت : هذا الخاتم دفعه إلي رجل ، وأوصاني أن أقول لك كلاما . فلما نظر عرفه فقال : ويحك! وأين صاحب الخاتم؟ قال : فقلت : مات يا أمير المؤمنين ، وهو يقول لك : احذر أن تموت في سكرتك فتندم . قال : فقام الرشيد فضرب بنفسه البساط وجعل يتقلب ظهرا لبطن ويقول : والله لقد نصحتني يا بني . ثم قال : أتعرف قبره؟ قلت : نعم . قال : إذا كان العشي فأتني . فأتيته ، فذهب إلى قبره ، فلم يزل يبكي عنده حتى أصبح ، ثم أمر لذلك الرجل بعشرة آلاف درهم ، وكتب له ولعياله رزقا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 628 ] عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام ، أبو بكر القرشي الأسدي ، والد بكار . ألزمه الخليفة الرشيد بولاية المدينة ، فقبلها بشروط عدة اشترطها ، فأجابه إلى ذلك ، ثم أضاف إليه نيابة اليمن ، وكان من أعدل الولاة ، وكان عمره يوم توفي نحوا من سبعين سنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      عبد الله بن عبد العزيز العمري أدرك أبا طوالة ، وروى عن أبيه وإبراهيم بن سعد ، وكان عابدا زاهدا ، وعظ الرشيد يوما فأطنب وأطيب; قال له وهو واقف على الصفا : انظر كم حولها من الناس؟ فقال : بشر كثير . فقال : كل منه يسأل يوم القيامة عن خاصة نفسه ، وأنت تسأل عنهم كلهم . فبكى الرشيد بكاء كثيرا ، وجعلوا يأتونه بمنديل بعد منديل للدموع . ثم قال له : يا هارون ، إن الرجل ليسرع في ماله فيستحق الحجر عليه ، فكيف بمن يسرع في أموال المسلمين كلهم؟! ثم تركه وانصرفوالرشيد يبكي . وله معه مواقف محمودة في غير هذا الموضع . توفي عن ست وستين سنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      محمد بن يوسف بن معدان ، أبو عبد الله الأصبهاني ، أدرك التابعين ، ثم اشتغل بالتعبد والزهادة . وكان عبد الله بن المبارك يسميه عروس الزهاد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 629 ] وقال يحيى بن سعيد القطان : ما رأيت أفضل منه ، وكان كأنه قد عاين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن مهدي : ما رأيت مثله . قالوا : وكان لا يشتري زاده من خباز واحد ، ولا من بقال واحد ، ولا يشتري إلا ممن لا يعرفه ، يقول : أخشى أن يحابوني فأكون ممن يعيش بدينه . وكان لا يضع جنبه للنوم صيفا ولا شتاء . ومات ولم يجاوز الأربعين سنة ، رحمه الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية