الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( سورة إبراهيم - عليه السلام - )

( بسم الله الرحمن الرحيم )

( الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد )

[ ص: 403 ] هذه السورة مكية كلها في قول الجمهور ، وعن ابن عباس وقتادة : هي مكية إلا من قوله : ( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا ) إلى قوله : ( إلى النار ) وارتباط أول هذه السورة بالسورة قبلها واضح جدا ، لأنه ذكر فيها ( ولو أن قرآنا ) ، ثم ( وكذلك أنزلناه حكما عربيا ) ، ثم ( ومن عنده علم الكتاب ) فناسب هذا قوله ( الر كتاب أنزلناه إليك ) . وأيضا فإنهم لما قالوا على سبيل الاقتراح ( لولا أنزل عليه آية من ربه ) وقيل له : ( قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب ) أنزل ( الر كتاب أنزلناه إليك ) كأنه قيل : أولم يكفهم من الآيات كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات - هي الضلال - إلى النور - وهو الهدى - .

وجوزوا في إعراب " الر " أن يكون في موضع رفع بالابتداء ، و ( كتاب ) : الخبر ، أو في موضع رفع على خبر مبتدأ محذوف تقديره : هذه الر ، وفي موضع نصب على تقدير : الزم أو اقرأ ( الر ) . و ( كتاب أنزلناه إليك ) جملة مفسرة في هذين الإعرابين ، و ( كتاب ) مبتدأ . وسوغ الابتداء به كونه موصوفا في التقدير ؛ أي : كتاب عظيم أنزلناه إليك . وجوزوا أن يكون ( كتاب ) خبر مبتدأ محذوف تقديره : هذا كتاب ، و ( أنزلناه ) جملة في موضع الصفة . وفي قوله : ( أنزلناه ) وإسناد الإنزال إلى نون العظمة ومخاطبته تعالى بقوله : ( إليك ) ، وإسناد الإخراج إليه عليه الصلاة والسلام تنويه عظيم وتشريف له من حيث المشاركة في تحصيل الهداية بإنزاله تعالى ، وبإخراجه عليه الصلاة والسلام ؛ إذ هو الداعي والمنذر ، وإن كان في الحقيقة مخترع الهداية هو الله تعالى . و ( الناس ) عام ؛ إذ هو مبعوث إلى الخلق كلهم ، والظلمات والنور : مستعاران للكفر والإيمان . ولما ذكر علة إنزال الكتاب وهي قوله : ( لتخرج ) قال : بإذن ربهم ؛ أي : ذلك الإخراج بتسهيل مالكهم الناظر في مصالحهم ؛ إذ هم عبيده ، فناسب ذكر الرب هنا تنبيها على منة المالك ، وكونه ناظرا في حال عبيده ، و ( بإذن ) : ظاهره التعلق بقوله : ( لتخرج ) . وجوز أبو البقاء أن يكون ( بإذن ربهم ) في موضع الحال ، قال : أي مأذونا لك . وقال الزمخشري : ( بإذن ربهم ) بتسهيله وتيسيره ، مستعار من الإذن الذي هو تسهيل الحجاب ، وذلك ما يمنحهم من اللطف والتوفيق ، انتهى . وفيه دسيسة الاعتزال .

والظاهر أن قوله : ( إلى صراط ) بدل من قوله : ( إلى النور ) ، ولا يضر هذا الفصل بين المبدل منه والبدل ؛ لأن ( بإذن ) معمول للعامل في المبدل منه وهو ( لتخرج ) . وأجاز الزمخشري أن يكون " إلى صراط " على وجه الاستئناف ، كأنه قيل : إلى أي نور ؟ فقيل : إلى صراط العزيز الحميد . وقرئ : ( ليخرج ) مضارع خرج بالياء بنقطتين من تحتها ، و ( الناس ) رفع به . ولما كان قوله : ( إلى النور ) فيه إبهام ما أوضحه بقوله : ( إلى صراط ) . ولما تقدم شيئان ؛ أحدهما : إسناد إنزال هذا الكتاب إليه . والثاني : إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ، ناسب ذكر هاتين الصفتين صفة العزة المتضمنة للقدرة والغلبة ، وذلك من حيث إنزال الكتاب ، وصفة الحمد المتضمنة استحقاقه الحمد من حيث الإخراج من الظلمات إلى النور ، إذ الهداية إلى الإيمان هي النعمة التي يجب على العبد الحمد عليها والشكر . وتقدمت صفة ( العزيز ) لتقدم ما دل عليها ، وتليها صفة ( الحميد ) لتلو ما دل عليها . وقرأ نافع [ ص: 404 ] وابن عامر " الله " بالرفع فقيل : مبتدأ محذوف ؛ أي : هو الله . وهذا الإعراب أمكن لظهور تعلقه بما قبله ، وتفلته على التقدير الأول . وقرأ باقي السبعة ، والأصمعي عن نافع : " الله " بالجر على البدل في قول ابن عطية والحوفي وأبي البقاء ، وعلى عطف البيان في قول الزمخشري قال : لأنه جرى مجرى الأسماء الأعلام لغلبته واختصاصه بالمعبود الذي يحق له العبادة ، كما غلب النجم على الثريا ، انتهى . وهذا التعليل لا يتم إلا على تقدير : أن يكون أصله الإله ، ثم نقلت الحركة إلى لام التعريف وحذفت الهمزة ، والتزم فيه النقل والحذف ، ومادته إذ ذاك الهمزة واللام والهاء ، وقد تقدمت الأقوال في هذا اللفظ في البسملة أول الحمد . وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور : لا تقدم صفة على موصوف إلا حيث سمع وذلك قليل ، وللعرب فيما وجد من ذلك وجهان ؛ أحدهما : أن تقدم الصفة وتبقيتها على ما كانت عليه ، وفي إعراب مثل هذا وجهان ؛ أحدهما : إعرابه نعتا مقدما ، والثاني : أن يجعل ما بعد الصفة بدلا . والوجه الثاني : أن تضيف الصفة إلى الموصوف إذا قدمتها ، انتهى . فعلى هذا الذي ذكره ابن عصفور يجوز أن يكون ( العزيز الحميد ) يعربان صفتين متقدمتين ، ويعرب لفظ ( الله ) موصوفا متأخرا . ومما جاء فيه تقديم ما لو تأخر لكان صفة ، وتأخير ما لو تقدم لكان موصوفا قول الشاعر :


والمؤمن العائذات الطير يمسحها ركبان مكة بين الغيل والسعد

فلو جاء على الكثير لكان التركيب : والمؤمن الطير العائذات .

وارتفع ( ويل ) على الابتداء ، وللكافرين خبره . لما تقدم ذكره ( الظلمات ) دعا بالهلكة على من لم يخرج منها ، و ( من عذاب شديد ) في موضع الصفة لـ ( ويل ) . ولا يضر الفصل والخبر بين الصفة والموصوف ، ولا يجوز أن يكون متعلقا بـ ( ويل ) لأنه مصدر ولا يجوز الفصل بين المصدر وما يتعلق به بالخبر . ويظهر من كلام الزمخشري أنه ليس في موضع الصفة . قال : ( فإن قلت ) ما وجه اتصال قوله : ( من عذاب شديد ) بالويل ؟ ( قلت ) لأن المعنى أنهم يولون من عذاب شديد ويضجون منه ، ويقولون يا ويلاه كقوله : ( دعوا هنالك ثبورا ) انتهى . وظاهره يدل على تقدير عامل يتعلق به ( من عذاب شديد ) ويحتمل هذا العذاب أن يكون واقعا بهم في الدنيا ، أو واقعا بهم في الآخرة . والاستحباب الإيثار والاختيار ، وهو استفعال من المحبة ؛ لأن المؤثر للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه يكون أحب إليها وأفضل عندها من الآخر . ويجوز أن يكون استفعل بمعنى أفعل كاستجاب وأجاب ، ولما ضمن معنى الإيثار عدي بـ ( على ) . وجوزوا في إعراب ( الذين ) أن يكون مبتدأ خبره ( أولئك في ضلال بعيد ) وأن يكون معطوفا على الذم ، إما خبر مبتدأ محذوف ؛ أي : هم الذين ، وإما منصوبا بإضمار فعل تقديره أذم ، وأن يكون بدلا ، وأن يكون صفة للكافرين . ونص على هذا الوجه الأخير الحوفي والزمخشري وأبو البقاء ، وهو لا يجوز ؛ لأن فيه الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي منهما وهو قوله : ( من عذاب شديد ) سواء كان ( من عذاب شديد ) في موضع الصفة لـ ( ويل ) ، أم متعلقا بفعل محذوف أي : يضجون ويولولون من عذاب شديد . ونظيره إذا كان صفة أن تقول : الدار لزيد الحسنة القرشي ، فهذا التركيب لا يجوز ، لأنك فصلت بين زيد وصفته بأجنبي منهما وهو صفة الدار ، والتركيب الفصيح أن تقول : الدار الحسنة لزيد القرشي ، أو الدار لزيد القرشي الحسنة ، وقرأ الحسن : ( ويصدون ) مضارع أصد الداخل عليه همزة النقل من صد - اللازم - صدودا . وتقدم الكلام على قوله تعالى : ( ويبغونها عوجا ) في آل عمران ، وعلى وصف الضلال بالبعد .

التالي السابق


الخدمات العلمية